الفصل الثاني
الطبيعة البشرية
( 68 )
( 69 )
ـ 1 ـ
عمر النوع الإنساني
يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة الآف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكراً وانثى ( زوجين اثنين ) من هذا النوع وفرضناهما عائشين زماناً متوسطاً من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن والخصب والرفاهية ومساعدة سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما ، وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطرداً فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولاً وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد ( رأس المائة ) الألف أي أن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمسمائة نسمة .
ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الأنسان من العوامل المضادة له من الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء
( 70 )
والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الاخرى غير العامة ، وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ . وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الألف ، وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف .
ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولاً بهذا الميزان إلى مدة سبعة الآف سنة ( 70 قرناً ) وجدناه تجاوز بليونين ونصفاً ، وهو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي .
فهذا الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجيا ( علم طبقات الأرض ) ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على ملايين السنين ، وقد وجدوا من الفسيلات الإنسانية والاجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمسمائة ألف سنة على ما استظهروه ، فهذا ما عندهم ، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأمم الماضية من غير انقطاع ، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الأمر على ذلك عدة أدوار ، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار .
وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحاً لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدواراً متعددة نحن في آخرها ؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى : (
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )
(1) .
سبق دورة إنسانية اخرى على هذه الدورة الحاضرة ، نعم في بعض الروايات
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 30 .
( 71 )
الواردة عن ائمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ما يثبت للإنسانية أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة .
في التوحيد : عن الصادق ( عليهم السلام ) في حديث قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم ؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين ؟
(1) .
أقول : ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر عليه السلام ما في معناه ، ورواه الصدوق في الخصال أيضاً
(2) .
ـ 2 ـ
أصل المجتمع البشري
ربما قيل : إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا ، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية ، والصفرة كلون أهل الصين واليابان ، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء ، وعلى هذا فالمبادى الاول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة .
وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الانسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعاً لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتمائهما إلى أب واحد وأم واحدة ، والدليلان ـ كما ترى ـ مدخولان :
أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية
____________
(1) الصدوق : التوحيد ص 277 ، حديث 2 ، طبع إيران مكتبة الصدوق .
(2) الصدوق : الخصال ص 652 ، حديث 54 ، طبع إيران مؤسسة النشر الإسلامي .
( 72 )
اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع ، ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء ، فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها ، وقد ظهر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك ؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء .
وأما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنسان على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين ، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة ، وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات ، وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس ، وسهل إلى جبل وبالعكس ، وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما تشرحه علوم طبقات الأرض والهيئة الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستيعاب فقط هذا .
وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الناس ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وانثى هما الأب والأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم ، وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة ( الموجودة بين الأيدي ) .
قال تعالى : (
وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين )
(1) .
وقال تعالى : (
إن مثل عيسى عند الله كمل آدم خلقه من تراب ثم قال
____________
(1) سورة السجدة ، الآيتان : 7 ـ 8 .
( 73 )
له كن فيكون )
(1) .
وقال تعالى : (
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها )
(2) .
وقال تعالى : (
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )
(3) .
فإن الآيات ـ كما ترى ـ تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب اليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب ، وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه ، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل .
وربما قيل : إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كأن مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل والايلاد سمي بآدم ، وربما استظهر ذلك من قوله تعالى : (
ولقد خلقاناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم )
(4) .
فإنه لا يخلو عن إشعار بأني الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير ، وقد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ، وهكذا قوله تعالى : (
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ـ إلى أن قال ـ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ـ إلى أن قال ـ قال فبعزتك لأغوينهم
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 59 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 30 ـ 31 .
(3) سورة ص ، الآيتان : 71 ـ 72 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 11 .
( 74 )
أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين )
(1) . حيث أبدل ما ذكره مفرداً أولا من الجمع ثانيا ً .
ويرده مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلنا من الآيات ظاهر قوله تعالى بعد سرده لقصة آدم وسجود الملائكة وإباء ابليس في سورة الأعراف :
(
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما )
(2) ، فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه .
وكذا قوله تعالى : (
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً * قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً )
(3) .
وكذا الآية المبحوث عنها : (
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ) بالتقريب الذي مر بيانه ، والآيات ـ كما ترى ـ تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار وإبن آدم باعتبار آخر ، وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى : (
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) الآية ، وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية ، فالقول بآدم النوعي في حد التفريط ، والافراط الذي يقابله قول بعضهم : إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة .
____________
(1) سورة ص ، الآيات :75 ـ 83 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 27 .
(3) سورة الاسراء ، الآيتان : 61 ـ 62 .
( 75 )
ـ 3 ـ
الانسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر
الآيات التي ذكرناها تكفي مؤونة هذا البحث ، فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطقة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالانسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما ويجانسهما وإنما حدثا حدوثاً .
والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنساناً وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلماً يقطع الكلام واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن اصل الفرضية وهي « أن الانسان حيوان تحول إنساناً » ، مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان .
فإنهم فرضوا أن الأرض ـ وهي أحد الكواكب السيارة ـ قطعة من الشمس مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة ، وكانت تنزل علها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك ، وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان ، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا .
كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور .
( 76 )
وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص ونفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متبائنة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور على حالات هذه الانواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فرداً من أفراد هذه الانواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان ، وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها .
واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع ، وإنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الانسان نوعاً مفصولاً عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء .
ـ 4 ـ
كيف تناسلت الطبقة الثانية من البشر ؟
الطبقة الأولى من الإنسان وهي : آدم وزوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين وبنات ( إخوة وأخوات ) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم وهم أخوة وأخوات أو بطريق غير ذلك ؟ ظاهر اطلاق قوله تعالى : (
وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ) الآية على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الإنسان إنما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يُشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى ، ولم يذكر القرآن للبث إلا إياهما ، ولو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال : وبث منهما ومن غيرهما ، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ ، ومن المعلوم أن انحصار مبدأ النسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما .
( 77 )
وأما الحكم بحرمته في الإسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير ، وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع .
والقول بأنه على خلاف الفطرة وما شرعه الله لأنبيائه دين فطري ، قال تعالى : (
فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )
(1) فاسد فإن الفطرة لا تنفيه ولا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها من هذا النوع من المباشرة ( مباشرة الأخ الأخت ) وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر وبطلان غريزة العفة بذلك وارتفاعها عن المجتمع الإنساني ، ومن المعلوم أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الأخوة والأخوات والمشية الإلهية متعلقة بتكثرهم وانبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان .
والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصار طويلة ( على ما يقصه التاريخ ) وشيوعه قانونياً في روسيا ( على ما يحكى ) وكذا شيوعه سفاحاً من غير طريق الازدواج القانوني في أوروبا .
وربما يقال : إنه مخالف للقوانين الطبيعية وهي التي تجري في الانسان قبل عقده المجتمع الصالح لإسعاده ، فإن الاختلاط والاستيناس في
____________
(1) سورة الروم ، الآية : 30 .
( 78 )
المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق والميل الغريزي بين الاخوة والأخوات كما ذكره مونتسكيو في كتابه روح القوانين .
وفيه أنه ممنوع كما تقدم أولاً ، ومقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانياً ، ومخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع ، ومتكفلة لسعادة المجتمعين وإلا فمعظم القوانين المعمولة والأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية .
وفيما يلي بعض الروايات في هذا المضمار .
عن أبي جعفر عليه السلام : لقد خلق الله عز وجل في الارض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه ، الحديث .
وفي نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال : سألت أبا جعفر عليه السلام : من أي شيء خلق الله حواء ؟ فقال عليه السلام : أي شيء يقولون هذا الخلق قلت يقولون : إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال : كذبوا أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه ؟ فقلت : جعلت فداك من أي شيء خلقها ؟ فقال : أخبرني أبي عن آبائه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين ، فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فخلق منها آدم ، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء .
أقول : ورواه الصدوق عن عمرو مثله ، وهناك روايات اُخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر ، وكذا ورد في التوراة في الفضل الثاني من سفر التكوين ، وهذا المعنى وإن لم يستلزم
( 79 )
في نفسه محالاً إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم .
وفي الاحتجاج عن السجاد عليه السلام في حديث له مع قريش يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل ، وتزويج قابيل باقليما اخت هابيل ، قال : فقال له القرشي : فأولداهما ؟ قال : نعم فقال له القرشي . فهذا فعل المجوس اليوم ، قال : فقال : إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله ، ثم قال له : لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت ، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له ؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك
(1).
أقول : وهذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب والاعتبار وهناك روايات أخر تعارضها وهي تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل اليهم من الحور والجان ، وقد عرفت الحق في ذلك .
وفي المجتمع في قوله تعالى : (
واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ) عن الباقر عليه السلام : واتقوا الأرحام أن تقطعوها
(2) .
أقول : وبناؤه على قراءة النصب .
وفي الكافي وتفسير العياشي : هي أرحام الناس إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها ، ألا ترى أنه جعلها معه ؟
(3) .
أقول : قوله : ألا ترى « الخ » بيان لوجه التعظيم ، والمراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى : (
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) .
وفي الدر المنثور : أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : (
الذين تساءلون به والأرحام ) قال : قال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول
____________
(1) الطبري ، الاحتجاج ص 171 المطبعة المرتضوية النجف ، 1350 هـ .
(2) الطبرسي : مجمع البيان ج 2 ، ص 3 دار احياء التراث العربي .
(3) تفسير العياشي ج 1 ، ص 217 المكتبة العلمية : إيران .
( 80 )
الله تعالى : صلوا أرحامكم فإن أبقى لكم في الحياة الدنيا وخير لكم في آخرتكم
(1)
.
أقول : قوله : فإنه أبقى لكم « الخ » إشارة إلى ما ورد مستفيضاً : أن صلة الرحم تزيد في العمر وقطعها بالعكس من ذلك ، ويمكن أن يستأنس لوجهه كما سيأتي في تفسير قوله تعالى : (
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم )
(2) .
ويمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأرقاب فيتقوى بذلك الإنسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه في البلايا والمصائب والأعداء .
وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار ، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه ، فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت ، وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادي : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وذلك قول الله في كتابه : (
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان بكم رقيباً ، وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجس الشيطان )
(3) .
أقول : والرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين اشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب وأم أو أحدهما ، وهي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية وخلقية ،
____________
(1) السيوطي : الدر المنثور ، ج 2 ، ص 117 ( مكتبة مرعشي : إيران ) .
(2) سورة النساء ، الآية : 9 .
(3) تفسير العياشي : ج 1 ، ص 217 وكذا مجمع البيان ، ج 2 ، ص 3 .
( 81 )
وروحية وجسمية غير قابلة الإنكار وإن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الأبطال حتى يلحق بالعدم ولن يبطل من رأس .
وكيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتئام الطبيعي بين أفراد العشيرة مستعدة للتأثير أقوى الإستعداد ، ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثراً منها في مورد الأجانب .
وبذلك يظهر معنى قوله عليه السلام : فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه « الخ » فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها وتقوية لجانبها فتتنبه بسببه وتحرك لحكمها ويتجدد أثرها بظهور الرأفة والمحبة .
وكذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية : وأيما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض ( الخ ) فإن الغضب إذا كان عن طيش النفس ونزقها كان في ظهوره وغليانه مستنداً إلى هواها وإغفال الشيطان أياها وصرفها إلى أسباب واهية وهمية ، وفي تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأن نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب
ولذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس عن الصادق عليه السلام عن أبيه أنه ذكرالغضب فقال : إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبداً ، ويدخل بذلك النار ، فأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان ، وإن كان جالساً فليقم ، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليقم اليه وليدن منه وليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت ، أقول : وتأثيره محسوس مجرب .
قوله عليه السلام : وإنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد ( الخ ) أي
( 82 )
تحدث فيه صوتاً مثل ما يحدث في الحديد بالنقر ، وفي الصحاح : الانقاض صوت مثل النقر
(1) .
وقد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش : أن المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث ، وهو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث ومتفرقات الأسباب والعلل الكونية فهي تحرك وحدها سلاسل العلل والأسباب المختلفة المتفرقة ، أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها وشؤونها وأشكالها تجتمع في عرش الملك والكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى والمقامات الفعالة في المملكة وتظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل والأثر .
والرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت واضطهدت لاذت بما تعلقت به واستنصرت ، وهو قوله عليه السلام : تنقضه انتقاض الحديد ، وهو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنيناً يستوعب بالارتعاش والاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس والجامات وغيرها .
قوله عليه السلام : فتنادي اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، حكاية لفحوى التجائها واستنصارها ، وفي الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر وأن قطعها يقطعه ، وقد مر في البحث عن ارتباط الأعمال والحوادث الخارجية من أحكام الأعمال ، ان مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض والغايات الصالحة ، ولن يهمل في ذلك ، وإذا فسد جزءٌ أو أجزاء
____________
(1) الجوهري : الصحاح ج 2 ، ص 1111 ، مادة [ نقض ] .
( 83 )
منه عالج ذلك إما باصلاح أو بالحذف والإزالة ، وقاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره وقطع دابره ، وأما أن الإنسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة وأمثالها فلا غرو لأن الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت وتشابهت وأزمنت فالحس لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم والعذاب .
ـ 5 ـ
المجتمع الأول
الآيات القرآنية ظاهرة ـ ظهوراً قريباً ـ من الصراحة في أن البشر الموجودين اليوم ـ ونحن منهم ـ ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل وامرأة بعينهما ، وقد سمي الرجل في القرآن بآدم وهما غير متكونين من أب وأم بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن .
فهذا هو الذي تفيده الآيات ظهوراً معتداً به وإن لم تكن نصاً صريحاً لا يقبل التأويل ولا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضرورياً من القرآن وأما أن آدم هذا هل اُريد به آدم النوعي أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدة معدودة من الأفراد هم اُصول النسب والآباء والامهات الأولية أو فرد إنساني واحد بالشخص ؟ وعلى هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلاً على طريق تطور الأنواع وظهور الأكمل من الكامل والكامل من الناقص ، وهكذا أو هو فرد من الانسان كامل بالكامل الفكري تولد من زوج من الانسان غير المجهز بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف وانفصاله من النوع غير المجهز بذلك فالبشر
( 84 )
الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم ، وينشعب هذا النوع الكامل بالتولد تطوراً من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقل وهو يسير القهقرى في أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزاً وأنقصها كمالاً وإن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل ، ومن كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقل
ثم إلى الإنسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة مؤلفة من آباء وأعقاب .
أو أن سلسلة التوالد والتناسل تنقطع بالاتصال بآدم وزوجه وهما متكونان من الأرض من غير تولد من أب وأم فليس شيء من هذه الصور ضرورياً وكيف كان فظاهرة الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة وهي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه المتكونين من الأرض من غير أب واُم غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض وأنه هل عملت في خلقه علل وعوامل خارقة للعادة ؟ وهل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل الجسد المصنوع من طين بدناً عادياً ذا روح إنساني أو أنه عاد إنساناً تاماً كاملاً في أزمنة معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد وصورة وشكل بعد صورة وشكل حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح وبالجملة اجتمعت عليه من العلل والشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم .
ومن أوضح الدليل عليه قوله تعالى : (
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون )
(1) .
فإن الآية نزلت جواباً عن احتجاج النصارى على نبوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشري ولا ولد إلا بوالد فأبوه هو الله سبحانه ، فرد في الآية بما
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 59 .
( 85 )
محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأن آدم ابن الله ؟
ولو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكونين من النطف إلى الأرض كان المعنى : أن صفة عيسى ولا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض ، ومن المعلوم أن لا خصوصية لآدم على هذا المعنى حتى يؤخذ ويقاس اليه عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه ، ومن حيث الاحتجاج به على النصارى .
وبهذا تظهر دلالة جميع الآيات الدالة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك على المطلوب كقوله (
إني خالق بشراً من طين )
(1) .
وقوله : (
وبدأ خلق الإنسان من طين )
(2) .
وأما قول من قال : إن المراد بآدم هو آدم النوعي دون الشخصي بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد ، والمراد ببنوة الأفراد له تكثر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه وقصة دخوله الجنة وإخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي لمكانته في نفسه ووقوفه موقف القرب ثم كونه في معرف الهبوط باتباع الهوى وطاعة إبليس ففيه أنه مدفوع بالآية السابقة وظواهر كثير من الآيات كقوله : (
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً )
(3) .
فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي لم يبق لفرض الزوج لها محل ونظير الآية الآيات التي تفيد أن الله أدخله وزوجه الجنة وأنه وزوجه
____________
(1) سورة ص ، الآية : 71 .
(2) سورة السجدة ، الآية : 7 .
(3) سورة النساء ، الآية : 1 .
( 86 )
عصيا الله بالأكل من الشجرة .
على أن أصل القول بآدم النوعي مبني على قدم الأرض والأنواع المتأصلة ومنها الإنسان وأن أفراده غير متناهية من الجانبين والأصول العلمية تبطل ذلك بتاتاً وأما القول بكون النسل منتهياً إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض اللون وسواده وحمرته وصفرته أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة وبعضهم بالدنيا الحديثة والأراضي المكشوفة أخيراً وفيها بشر قاطنون كأمريكا واستراليا .
فمدفوع بجميع الآيات الدالة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم وزوجه فإن المراد بآدم فيها إما شخص واحد إنساني وإما الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد ، وهو آدم النوعي ، وأما الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتة .
على أنه مبني على تباين الاصناف الأربعة في الإنسان : البيض والسود والحمر والصفر وكون كل من هذه الأصناف نوعاً برأسه ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر أو كون قارات الآرض منفصلاً بعضها عن بعض انفصالاً أبدياً غير مسبوق بالعدم ، وقد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلاناً كاد يلحقها بالبديهيات وأما القول بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصالاً أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع اليه كالقرد مثلاً انفصال الأكمل من الكامل تطوراً .
ففيه أن الآيات السابقة الدالة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب واُم تدفعه .
على أن ما اُقيم عليه من الحجة العلمية قاصر عن إثباته كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي .