تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعي الشهوة : وهو صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنع بما شرعه لامته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة .
والمسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن ، والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفي عند الكلام على الآية المربوطة بها ولذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له وإنما نشير ههنا إلى ذلك إشارة إجمالية .
فنقول : من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لست على هذه السذاجة ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة ) بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان تزوج ـ أول ما تزوج ـ بخديجة رضي الله عنها وعاش معها مقتصراً عليها نيفاً وعشرين سنة ( وهي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج ) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل
( 162 )
الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين ، وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ، ومنهن الثيب ، ومنهن الشابة ، ومنهن العجوز ، والمكتهلة ، وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ، ومن المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن والوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك .
على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة اليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج والدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة ، وهذه الخواص أيضاً لا تنطبق على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه بنى بالثيب بعد البكر وبالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة وهي مسنة ، وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذٍ يربو على الخمسين بعدها تزوج بمثل عائشة وأم حبيبة وهكذا .
وقد خير نساءه بين التمتيع والسراح الجميل ، وهو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها ، وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة :
(
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن واسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً )
(1) .
وهذا المعنى أيضاً ـ كما ترى ـ لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن .
____________
(1) سورة الأحزاب ، الآيتان : 28 ـ 29 .
( 163 )
فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره والشبق والتلهي .
فقد تزوج صلى الله عليه وآله وسلم ببعض هؤلاء الازواج اكتساباً للقوة وازدياداً للعضد والعشيرة ، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقياً من بعض الشرور ، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالانفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة ، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملاً لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش ، وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد ، وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني وكانت زوجة المدعو ابناً عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل فيها الآيات .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة ، وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والإكراه على الكفر .
وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبدالله بن جحش في اُحد وكانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها .
وتزوج باُم سلمة واسمها هند وكانت من قبل زوجة عبدالله أبي سلمة ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة وكانت زاهدة فاضلة ذات دين ورأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام
( 164 )
فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل أبوها مع بني القريظة ، وكانت في سبي خيبر فاصطفاها واعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك من الذل ، ووصل سببه ببني اسرائيل .
وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق ، وقد كان المسلمون أسروا منهم مئتي بيت بالنساء والذراري ، فتزوج صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم واعتقوهم جميعاً فاسلم بنو المصطلق بذلك ، ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جماً غفيراً ، وأثر ذلك أثراً حسناً في سائر العرب .
وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوج بها وقد نزل فيها القرآن .
وتزوج بأم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان ، وكانت زوجة عبيد الله بن جحش ، وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك وثبتت هي على الإسلام وأبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها .
وتزوج بحفصة بنت عمر وقد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر وبقيت أرملة وتزوج بعائشة بنت أبي بكر وهي بكر .
فالتأمل في هذه النماذج والخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره وآخره وما سار به من الزهد وترك الزينة وندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس ، أضف إلى ذلك جمل
( 165 )
صنائعه صلى الله عليه وآله وسلم في النساء ، واحياء ما كانت قرون الجاهلية وأعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة ، وأخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله وسلم هو توصيتهن لجامعة الرجال قال صلى الله عليه وآله وسلم « الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم » .
وكانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في العدل بين نسائه وحسن معاشرتهن ورعاية جانبهن مما يختص به صلى الله عليه وآله وسلم ( على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله ) وكان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة ، وهذه الخصال وظهوها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به .
قضايا الزواج
قوله تعالى : (
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) المحصنات بفتح الصاد اسم مفعول من الإحصان ، وهو المنع ، ومنه الحصن الحصين أي المنيع يقال : احصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها وامتنعت عن الفجور ، قال تعالى : (
التي احصنت فرجها )
(1) .
أي عفت ، ويقال : أحصنت المرأة ـ بالبناء للفاعل والمفعول ، إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها ، ويقال : أحصنت المرأة إذا كانت حرة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لأن ذلك كان فاشياً في الإماء .
والظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي
____________
(1) سورة التحريم ، الآية : 12 .
( 166 )
المتزوجات دون الأول والثالث لأن الممنوع المحرم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها ، وسواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لأن يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج ، أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الاماء أيضاً مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم .
فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات وهي التي تحت حبالة التزويج ، وهو عطف على موضع امهاتكم ، والمعنى : وحرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة ذات بعل .
وعلى هذا يكون قوله : (
إلا ما ملكت أيمانكم ) رفعاً لحكم المنع عن محصنات الاماء على ما ورد في السنة أن لمولى الأمة المزوجة أن يحول بين مملوكته وزوجها ثم ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها .
وأما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله : (
إلا ما ملكت أيمانكم ) إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك الاستمتاع والتسلط على المباشرة ففيه أولاً أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوجات وقد عرفت ما فيه ، وثانياً أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى ، وهو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع ونحوه .
وكذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الايمان الجواري المسبيات إذا كن ذوات أزواج من الكفار ، وأيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري : أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء
( 167 )
المشركين ، وكانت لهن أزواج في دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا غير الحبالى حتى يستبرأن وفيه مضافاً إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص ، فالمصير إلى ما ذكرناه .
قوله تعالى : (
كتاب الله عليكم ) أي ألزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم ، وقد ذكر المفسرون أن قوله : « كتاب الله عليكم » منصوب مفعولاً مطلقاً لفعل مقدر ، والتقدير : كتب الله كتاباً عليكم ثم حذف الفعل واضيف المصدر إلى فاعله وأقيم مقامه ، ولم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا يتقدم معموله عليه ، هذا .
قوله تعالى : (
واحل لكم ما وراء ذلكم ) ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير اُولي العقل ، وكذا الإشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر ، وكذا قوله بعده : ان تبتغوا بأموالكم ، أن يكون المراد بالموصل واسم الإشارة هو المقدار في قوله : حرمت عليكم امهاتكم ، المتعلق به التحريم من الوطء والنيل أو ما هو من هذا القبيل .
والمعنى : وأحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم ، وهو النيل بالنكاح في غير من عد من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين ، وحينئذ يستقيم بدلية قوله : ان تبتغوا بأموالكم ، من قوله : واحل لكم ما وراء ذلكم كل الاستقامة .
وقد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم : إن معنى قوله : (
وأحل لكم ما وراء ذلكم ) : أحل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم ، وقول بعض آخر : إن المراد : أحل لكم ما دون الخمس وهي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح ، وقول
( 168 )
بعض آخر : إن المعنى أحل لكم ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم ، وقول بعض آخر : معناها أحل لكم ما وراء ذات المحارم والزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحاً أو ملك يمين .
وهذه وجوه سخيفة لا دليل على شيء منها من قبل اللفظ في الآية ، على أنها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على أولي العقل ، ولا موجب له كما عرفت آنفاً ، على أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية ، فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين .
قوله تعالى : (
ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) بدل أو عطف بيان من قوله : (
ما وراء ذلكم ) يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء ومباشرتهن وذلك أن الذي يشمله قوله : (
واحل لكم ما وراء ذلكم ) من المصداق ثلاثة : النكاح وملك اليمين والسفاح وهو الزنا فبين بقوله : (
إن تبتغوا بأموالكم الخ ) المنع عن السفاح وقصر الحل في النكاح وملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالأموال وهو في النكاح المهر والأجرة ـ ركن من أركانه ـ وفي ملك اليمين الثمن ـ وهو الطريق الغالب في تملك الإماء ـ فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا : أحل لكم فيما سوى الأصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء ونيلهن بإنفاق أموالكم في اجرة المنكوحات من النساء نكاحاً من غير سفاح أو انفاقها في ثمن الجواري والإماء .
ومن هنا يظهر أن المراد بالإحصان في قوله : (
محصنين غير مسافحين ) إحصان العفة دون إحصان التزوج وإحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الأموال في الآية أعم مما يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين ولا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الإحصان على إحصان التزوج ، وليس المراد
( 169 )
بالإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما أحل الله ، وكفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي أودع النزوع اليه في جبلة الإنسان وفطرته .
وبما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن قوله : (
ان تبتغوا بأموالكم ) بتقديم لام الغاية أو ما يؤدي معناها ، والتقدير لتبتغوا ، أو إرادة أن تبتغوا وذلك أن مضمون قوله : ان تبتغوا ، بوجه عين ما أريد بقوله : (
ما وراء ذلكم ) لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لأجله ، وهو ظاهر .
وكذا ما يظهر من كلام بعضهم : أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء وصبه من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الإنسان لأجلها ، وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد ، وبالمقابلة يكون الإحصان هو الإزدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل ؛ وإني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الإلتزام به من اللوازم .
وأحد البحثين وهو البحث عن الملاك عقلي ، والآخر وهو البحث عن الحكم الشرعي وما له من الموضوع والمتعلق والشرائط والموانع لفظي يتبع في السعة والضيق البيان اللفظي من الشارع وإنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح وملاكات حقيقية ، وحكم النكاح الذي هو أيضاً أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية وملاكاً حقيقياً ، وهو التوالد والتناسل ونعلم أن نظام الصنع والايجاد أراد من النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله ، ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الإنسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه ويكونه إنساناً جديداً يخلف الإنسان القديم
( 170 )
فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع ، واحتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل والإنتاج بإبداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين ـ الذكر والأنثى ـ من الأفراد إلى الآخر ، وينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه والنيل ، ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب اليه نظام الخلقة .
وفي عين أن النظام بالغ أمره وواجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر والانثى ولا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائماً بل إنما هي مقدمة غالبية ، فليس كل ازدواج مؤدياً إلى ظهور الولد ، ولا كل عمل تناسلي كذلك ، ولا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر ولا كل رجل أو كل امرأة ، ولا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد ، فالجميع امور غالبية .
فالتجهز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج طلباً للنسل من طريق الشهوة ، والعقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز وحفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش ، الهادم لاساس البيوت ، القاطع للنسل .
وهذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد والأمن من دبيب الفحشاء ، هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الاسلام غير أن الأغلبية من أحكام الملاك ، وأما الأحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام .
فليس من الجائز أن يقال : إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض والملاك المذكور وجوداً وعدماً فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد ، ولا يجوز نكاح العقيم ، ولا نكاح العجوز التي لا ترى الحرة ، ولا يجوز نكاح الصغيرة ، ولا يجوز نكاح الزاني ، ولا يجوز مباشرة الحامل ، ولا مباشرة من
( 171 )
غير انزال ولا نكاح من غير تأسيس بيت ، ولا يجوز . . ولا يجوز .
بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر والانثى لها أحكام دائمية ، وقد اُريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت ، فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجوداً وعدماً ، والمنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده وأحكامه .
قوله تعالى : (
فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ) كأن الضمير في قوله : « به » راجع إلى ما يدل عليه قوله : ( واحل لكم ما وراء ذلكم ) وهو النيل أو ما يؤدي معناه ، فيكون « ما » للتوقيت ، وقوله « منهن » متعلقاً بقوله : « استمتعتم » والمعنى : مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة .
ويمكن أن يكون ما موصولة ، واستمتعتم صلة لها ، وضمير به راجعاً إلى الموصول ، وقوله « منهن » بياناً للموصول ، والمعنى : ومن استمتعتم به من النساء « الخ » والجملة أعني قوله : فما استمتعتم « الخ » تفريع لما تقدمها من الكلام ـ لمكان الفاء تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله (
ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح وملك اليمين ، فتفريع قوله : فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم الكلي .
وهذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قال : (
أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر )
(1) .
وقوله : (
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 184 .
( 172 )
الحج )
(1) .
وقوله : (
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله )
(2) إلى غير ذلك .
والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها ، وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك ـ وقد اطبقت الأخبار على تسلم ذلك ـ سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه ، وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله : « فما استمتعتم به منهن » محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو امر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية .
وذلك كالحج والبيع والربا والربح والغنيمة وسائر ما هو من هذا القبيل ، فلم يمكن لأحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده ، وهكذا ، وكذلك ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت باسمائها الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وحج التمتع وغير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعة فيها .
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 196 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 256.
( 173 )
فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر .
وجملة الأمر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة ، وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين كابن عباس وابن مسعود وابي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم ، وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام .
ومنه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا ، وربما ذكر بعضهم أن السين والتاء في استمتعتم للتأكيد ، والمعنى : تمتعتم .
وذلك لأن تداول نكاح المتعة ( بهذا الاسم ) ومعروفيته بينهم لا يدع مجالاً لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين .
على أن هذا المعنى على تقدير صحته وانطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم ،
لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله : (
فآتوهن اجورهن ) فإن المهر يجب بمجرد العقد ، ولا يتوقف على نفس التمتع ولا على طلب التمتع الصادق على الخطبة واجراء العقد والملاعبة والمباشرة وغير ذلك ، بل يجب نصفه بالعقد ونصفه الآخر بالدخول .
على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره ، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب ، وذلك كقوله تعالى : (
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة )
(1) .
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 4 .
( 174 )
وقوله تعالى : (
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً )
(1) .
وقوله تعالى : (
لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ـ إلى أن قال ـ * وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم )
(2) .
وما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله : (
فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ) مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله : (
وإن أردتم استبدال ) الايتين أشد وآكد لحناً من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك .
وأما النسخ فقد قيل : إن الآية منسوخة بآية المؤمنون : (
والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فإولئك هم العادون )
(3) .
وقيل منسوخة بآية العدة : (
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) (4) .
(
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )
(5) .
حيث ان انفصال الزوجين إنما هو بطلاق وعدة وليسا في نكاح
____________
(1) سوة النساء ، الآية : 20 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 236 ـ 237 .
(3) سورة المؤمنون ، الآيات : 5 ـ 7 .
(4) سورة الطلاق ، الآية : 1 .
(5) سورة البقرة ، الآية : 228 .
( 175 )
المتعة .
وقيل : منسوخة بآيات الميراث : (
ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) (1) .
حيث لا ارث في نكاح المتعة ، وقيل منسوخة بآية التحريم :
(
حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم ) ، فإنها في النكاح ، وقيل : منسوخة بآية العدد : (
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع )
(2) .
وقيل منسوخة بالسنة نسخها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر ، وقيل عام الفتح ، وقيل : في حجة الوداع ، وقيل : ابيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثاً ، وآخر ما وقع واستقر عليه من الحكم الحرمة .
أما النسخ بآية المؤمنون ، ففيه أنها لا تصلح للنسخ ، فإنها مكية وآية المتعة مدنية ، ولا تصلح المكية لنسخ المدنية ، على أن عدم كون المتعة نكاحاً والمتمتع بها زوجة ممنوع ، وناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية ، وفي كلمات السلف من الصحابة والتابعين من تسميتها نكاحاً ، والإشكال عليه بلزوم التوارث والطلاق وغير ذلك سيأتي الجواب عنه .
وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق وآية العدد ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ ، بل نسبة العام والمخصص أو المطلق والمقيد ، فإن اية الميراث مثلاً يعم الأزواج جميعاً من كل دائم ومنقطع والسنة تخصصها باخراج بعض أفرادها ، وهو المنقطع من تحت عمومها ، وكذلك القول في آية الطلاق وآية العدد ، وهو ظاهر ، ولعل القول بالنسخ ناشئ من عدم التمييز بين النسبتين .
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 12 .
(2) سورة النساء ، الآية : 3 .
( 176 )
نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص . لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام ، وذلك لوقوع آيات الطلاق ( وهي العام ) في سورة البقرة ، وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة ، وكذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة ، وكذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال .
وأما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما أولاً فلأن مجموع الكلام الدال على التحريم والدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الأجزاء متصل الأبعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله ؟ وأما ثانياً فلأن الآية غير صريحة ولا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه ، وإنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين ، ونكاح المتعة نكاح على ما تقدم ، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يؤول إلى النسخ . ثم ربما قيل : إن قوله تعالى : (
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) حيث قيد حلية النساء بالمهر وبالإحصان من غير سفاح ولا إحصان في النكاح المنقطع ـ ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصناً ، يدفع كون المتعة مرادة بالآية .
لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالإحصان في قوله : (
محصنين غير مسافحين ) هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملاً لملك اليمين كشموله النكاح ، ولو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان
( 177 )
التزوج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله .
وأما النسخ بالسنة ففيه ـ مضافاً إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه ، والرجوع إلى الكتاب ـ ما سيأتي في البحث الروائي .
وقوله تعالى : (
ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات ) الطول الغنى والزيادة في القدرة ، وكلا المعنيين يلائمان الآية ، والمراد بالمحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات ، وهذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف ، وإلاّ لم تقابل بالفتيات ، بل بها وبغير العفائف ، وليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد ولا المسلمات وإلاّ لا ستغنى عن التقيد بالمؤمنات .
والمراد بقوله : (
فمما ملكت أيمانكم ) ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الإزدواج وإلاّ فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع ، وقد نسب ملك اليمين إلى المؤمنين ، وفيهم المُريد للتزوج بعدّ الجميع واحداً غير مختلف لإتحادهم في الدين واتحاد مصالحهم ومنافعهم كأنهم شخص واحد .
وفي تقييد المحصنات وكذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية ومشركة ، ولهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله تعالى .
ومحصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر والنفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر ، ويعرض
( 178 )
نفسه على خطرات الفحشاء ومعترض الشقاء .
فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم والآية في سياق التنزل أي ان لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا ، وإنما
قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت وإيجاد النسل وتخليف الولد ، ونكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سدّ
طريق الفحشاء ، وقطع منابت الفساد .
وسوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة الى الذهن وخاصة في مقام تشريع الأحكام والقوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى : (
فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام اُخر )
(1) مع أن العذر لا ينحصر في المرض والسفر ، وقوله تعالى (
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيداً طيباً )
(2) .
والأعذار وقيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف ، إلى غير ذلك من الآيات .
هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم ، ولا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل والتوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم ، وكون قوله : فما استمتعتم به منهنّ غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم ، لأن هذا التنزل والتوسعة واقعٌ بطرفيه ( المنزل عنه والمنزل إليه ) وفي نفس هذه الآية أعني قوله : (
فمن لم يجد منكم طولاً . . . الخ ) .
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(2) سورة النساء : الآية 43 .
( 179 )
على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم والمنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها .
قوله تعالى : (
والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض ) لما كان الإيمان المأخوذ في متعلق الحكم أمراً
قلبياً لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب ، وربما أوهم تعليقاً بالمتعذر أو المتعسر ، وأوجب
تحرج المكلفين منه ، بيّن تعالى أنه هو العالم بايمان عباده المؤمنين وهو كناية عن أنهم إنما كفلوا
الجري على الأسباب الظاهرية الدالة على الإيمان كالشهادتين والدخول في جماعة المسلمين والإتيان
بالوظائف العامة الدينية ، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه .
وفي هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الإزدواج بالإماء نقص وقصور آخر في الوقوع موقع التأثير والقبول ، وهو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد والإماء هواناً في الأمر وخسة في الشأن ونوع ذلة وانكسار فيوجب ذلك انقباضهم وجماح نفوسهم من الاختلاط بهم والمعاشرة معهم وخاصة بالازدواج الذي هو اشتراك حيوي وامتزاج باللحم والدم .
فأشار سبحانه بقوله : (
بعضكم من بعض ) إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الإنسان واجداً لشؤون الإنسانية ، وإنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس ، ولا عبرة بهذه التميزات عند الله ، والذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله ، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم وفلاحهم ، فإن الخروج عن
( 180 )
مستوى الطريق المستقيم ، وإن كان حقيراً في بادي أمره لكنه لا يزال يبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة .
ومن هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط والتنزل أعني قوله : (
ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم ) إنما هو جري في الكلام على مجرى الطبع والعادة ، وليس إلزاماً للمؤمنين على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الإستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض ، ونبّه مع ذلك على أن الحر والرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض .
ومن هنا يظهر أيضاً فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية : (
وإن تصبروا خير لكم ) ان المعنى وصبركم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن لما فيه من الذل والمهانة والإبتذال هذا ، فإن قوله : (
بعضكم من بعض ) ينافي ذلك قطعاً .
قوله تعالى : (
فانكحوهن باذن أهلهن ) إلى قوله (
أخدان ) المراد بالمحصنات العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح ، والمراد بالمسافحات ما يقابل متخذات الأخدان ، والأخدان جمع خدن بكسر الخاء وهو الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمفرد
والجمع ، وإنما أتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصاً ، فمن يأخذ صديقاً للفحشاء لا يقنع بالواحد والإثنين فيه لأن النفس لا تقف على حد إذا اطيعت فيما تهواه .
وبالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال : إن المراد بالسفاح الزنا جهراً وباتخاذ الخدن الزنا سراً ، وقد كان اتخاذ الخدن متداولاً عند العرب حتى
( 181 )
عند الأحرار والحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الإماء .
فقوله : (
فانكحوهن باذن أهلهن ) إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطاً بأن يكون باذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالي لا غير ، وإنما عبر عنهم بقوله « أهلهن » جرياً على ما يقتضيه قوله قبل : (
بعضكم من بعض ) فالفتاة واحدة من أهل البيت مولاها ومولاها أهلها .
والمراد باتيانهن اجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن وإتيان الأجور أياهن إعطاؤها مواليهن ، وقد أرشد إلى الاعطاء بالمعروف عن غير بخس ومماطلة وإذاء .
قوله تعالى : (
فإذا احصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من المعذاب ) قرىء احصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول وبفتح الهمزة بالبناء للفاعل ، وهو الأرجح .
الاحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد كون مورد لكلام
في ما تقدم ازدواجهن ، وذلك أن الأمة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالإزدواج أو لا من غير أن يؤثر الإحصان فيها شيئاً زائداً .
وأما إذا كان إحصان الإسلام كما قيل ـ ويؤيده قراءة فتح الهمزة ـ تم المعنى من غير مؤونة زائدة ، وكان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة أو لا .
والمراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لأن الرجم لا يقبل الانتصاف وهو الشاهد على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية . واللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة وهو الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الأزواج ،
( 182 )
وهو جلد خمسين سوطاً .
ومن الممكن أن يكون المراد بالإحصان ، إحصان العفة ، وتقريره أن الجواري يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الأعمال بما لهن من اتباع أوامر مواليهن وخاصة في الفاحشة الفجور وكانت الفاحشة فيهن ـ لو اتفقت ـ بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهن والاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهي الوارد في قوله تعالى : (
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً )
(1) فالتماسهن الفجور واشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة ومكسباً كان فيما كان يأمر مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف والتمرد ، وإذا لم يكرههن الموالي على الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الإسلام ، وعفة الايمان ، وحينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهو قوله تعالى : (
فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة ) .
« الخ » .
ومن هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى وذلك أنهن إذا لم يحصن ولم يعففن كن مكروهات من قبل مواليهن مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى : (
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً )
(2) . حيث إنهن إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لإكراههن من قبل الموالي لرضاهن بذلك .
قوله تعالى : (
ذلك لمن خشي العنت منكم ) العنت الجهد والشدة والهلاك ، وكان المراد به الزنا الذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقة الشبق وجهد شهوة النكاح وفيه هلاك الإنسان والإشارة على ما قيل : إلى نكاح الجواري المذكور في الآية ، وعليه فمعنى قوله : (
وان تصبروا خير لكم ) ان
____________
(1) سورة النور ، الآية : 33 .
(2) سورة النور ، الآية : 33 .
( 183 )
تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم ، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الاماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شيء منهما من سابق سياق الآية والله أعلم .
وكيف كان فكون الصبر خيراً إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنما هو لما فيه من حقوق مواليهن وفي اولادهن على ما فصل في الفقه ، وإن كان المراد الصبر عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس وتهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه ، والله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده ويرحمهم برحمته .
وقوله تعالى : (
يريد الله ليبين لكم ) إلى آخر الآية ، بيان وإشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث والمصالح التي تترتب عليها إذا عمل بها فقوله : يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم وعقباكم ، وما في ذلك من المعارف والحكم وعلى هذا فمعمول قوله : يبين محذوف للدلالة على فخامة أمره وعظم شأنه ، ويمكن أن يكون قوله : يبين لكم ، وقوله : ويهديكم متنازعين في قوله : سنن الذين .
قوله تعالى : (
ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) أي طرق حياة السابقين من الأنبياء والأمم الصالحة ، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله ، الحائزين به سعادة الدنيا والآخرة ، والمراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها وجميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من احكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الأخوة بالأخوات في سنة آدم ، والجمع بين الأختين : في سنة يعقوب عليه السلام ، وقد جمع عليه السلام بين الأختين ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف على ما في بعض الأخبار ، وهنا معنى آخر قيل به ، وهو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على
( 184 )
الحق أوعلى الباطل ، يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق وباطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها وتدعوا الباطل .
وهذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعمل في هذا المعنى ، وإنما استعمل فيما استعمل في الإيصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله : (
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء )
(1) .
وقوله : (
إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً )
(2) والأوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين والقصص ونحو ذلك .
نعم لو جعل قوله يبين وقوله: ويهديكم متنازعين في قوله : (
سنن الذين من قبلكم ) .
وقوله : (
يتوب عليكم ) أيضاً راجعاً إليه ، وآل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن الذين من قبلكم ، ويهديكم إلى الحق منها ، ويتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين والحق والباطل منها والتوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة .
قوله تعالى : (
ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة والرحمة ، وتشريع الشريعة ، وبيان الحقيقة ، والهداية إلى طريق الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد ورفع آثار المعصية توبة .
وتذييل الكلام بقوله : والله عليم حكيم ليكون راجعاً إلى جميع فقرات الآية ، ولو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الانسب ظاهراً أن يقال : والله غفور رحيم .
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 56 .
(2) سورة الإنسان ، الآية : 3 .