عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: 241 ـ 255
(241)
    « يا علي لا تجامع أهلك ليلة النصف ولا ليلة الهلال ، أما رأيت المجنون يصرع في ليلة الهلال وليلة النصف كثيراً ».
    قال صاحب البحار تعليقاً على هذه الرواية ما هذا نصه : « لما كان القمر يؤثر في الكرة الأرضية تأثيراً طبيعياً موجباً لبروز آثار في المواد الأرضية ، فيمكن أن يؤثر في المزاج أيضاً على نحو يظهر آثاره في الأولاد والأعقاب ».
    سادساً : إن سوء المزاج يوجب ضعف الإنسان عن قيام بالعمل الموكل إليه أو الراغب في تحقيقه كما يجب. وذلك لأنه لا تكون نفسه مقبلة عليه فتنفر نفسه منها فلا يحصله.
    سابعاً : ان سوء المزاج يبعد الإنسان عن التفوق والإبداع والتقدم العلمي ، وهذا واضح بأدنى تأمل ولذلك ينصح من يجد في نفسه الفتور وعدم الرغبة وسوء المزاج أن يترك العمل ، حتى تستريح نفسه من العناء لكي تقدم على العمل وهي في أحسن حالتها مما يلزم ظهور آثارها بأكمل وجه.

    النقطة الرابعة : أسباب تغير المزاج :
    لقد تقرر مما تقدم أن لكل شخص مزاجاً خاصاً به وأن هناك مزاجاً عاماً وهو المزاج النوعي والإقليمي كما ذهب إليه ابن سينا في القانون. ونحن إذا أردنا أن نعرف سبب فساد المزاج واعتداله لابد أن نعرف سببه ، وكيف يحصل المزاج. ولقد ثبت مما سبق أن المزاج هو كيفيات تجتمع بحيث تصير كيفية واحدة وأن من المعلوم بالبداهة أن في هذا العالم لا يوجد شيء اعتباطاً ولا عبثاً وأننا في قانون العلية والسببية أي أن لكل أمر علة وسبباً والمزاج أمر ، فلا بد أن يكون له سبب. وعند التأمل والنظر الدقيق لا نجد أن سبب تغير المزاج راجع إلا إلى أمرين :


(242)
    الأمر الأول : ويلاحظ بلحاظين وهما :
    اللحاظ الأول : ما يكون في المزاج الجسماني وهو راجع إلى الأخلاط والكدورات من غلبت الصفرة على السوداء أو العكس أو غلب أحد الأخلاط وعدم اعتدالها ، مما يؤثر سلباً على نفس الإنسان بحيث تثخن الروح وتكون كثيفة بدل أن تصبح لطيفة.
    اللحاظ الثاني : وقد يكون راجعاً إلى نفس النفس بحيث تتغلب عليها إحدى القوى والملكات البهيمية أو السبعية أو الربانية من غير اعتدال ، فيخرج منها آثار لتلك القوى المستحكمة في بقية الملكات الأخرى ويكون فعله آثاراً لتلك القوى المسيطرة على البقية ، فتخرج عن حد الاعتدال فيكون سيء المزاج أو قد يكون متفقاً من حيث اعتدال المزاج الجسماني أو النفس فيكون في أحسن حالته ويطلق عليه معتدل المزاج. وهذا من جهة النفس والجسد.
    الأمر الثاني : ما يكون مرجعه تأثيره من خلال الكون والأمور الخارجية عن النفس والجسم ، وذلك من الأمور الكونية وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) في ج 6 ، ص 210 ما هذا نصه :
    « لما كانت تغيرات الهواء ، إنما تحدث بحسب أحوال الشمس والقمر والكواكب المتحيرة والثابتة ، صارت معرفة هذه التغيرات قد تدرك من النجوم مع سائر ما يتبعها من الرياح والسحاب والأمطار والثلج والبرد والرعد والبرق ، لأن الأشياء التي تلي الأرض وتصل إليها هذه الآثار من الهواء المحيط بها ، كانت الأعراض العامية التي تعرض في هذه الأشياء تابعة لتلك الآثار مثل كثرة مياه الأنهار وقلتها ، وكثرة الثمار وقلتها وكثرة خصب الحيوان وقلته ، والجدوبة والقحط والوباء والأمراض التي تحدث في الأجناس


(243)
والأنواع ، أو في جنس دون جنس ، أو في نوع دون نوع ، وسائر ما يشاكل ذلك من الأحداث. ولما كانت أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن ، وكانت الأحداث التي ذكرناها مغيرة لمزاج البدن ، صارت أيضاً مغيرة للأخلاق ، ولأن المزاج الأول الأصلي هو الغالب على الإنسان في الأمر الأكثر ، وكان المزاج الاصلي هو الذي طبع عليه الإنسان في وقت كونه في الرحم ، وفي وقت مولده وخروجه إلى جو العالم صار وقت الكون ووقت المولد أدل الأشياء على مزاج الإنسان ، وعلى أحواله التابعة للمزاج ، مثل خلقة البدن ، وخلق النفس والمرض والصحة ، وسائر ما يتبع ذلك ، فهذه الأشياء وما يشبهها من الأمور التي لا تشارك شيئاً من الأفعال الإرادية فيه مما يمكن معرفته بالنجوم ، وأما الأشياء التي تشارك الأمور الإرادية بعض المشاركة ، فقد يمكن أن يصدق فيها هذا العلم على الأمر الأكثر ، وإذا لم يستعمل فيه الإرادة جرى على ما تقود إليه الطبيعة. على أنه قد يعرض الخطأ والغلط لأصحاب هذه الصناعة من أسباب كثيرة ، بعضها يختص بهذه الصناعة دون غيرها ، وبعضها يعمها وغيرها من الصنائع ».

    النقطة الخامسة : اعتدال المزاج :
    اعتدال المزاج هو أن تكون النفس في حالة من اللطف ووسيطة الملكات ، وكون الجسم بحالته الطبيعية التي تلائم وجوده ، وعدم وجود نقص فيه. والمزاج هو قبوله للشيء العارض عليه فهو مقتض للأمر وليس علة تامة في الفعل. وقد ذكر العلامة محمد الريشهري في ميزان الحكمة ج 4 ، ص 3411 ما هذا نصه :
    « فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة وبطئاً. ومع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من


(244)
الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة ، بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة ويبطل الاختيار ، فالفعل باق على اختياريته وإن كان في بعض الموارد صعباً غاية الصعوبة ».
    وقال الشيخ الطوسي في شرح كلام ابن سينا في ( الإشارات ) ما هذا نصه : « أعلم أن انكسار تضاد الكيفيات واستقرارها على كيفية متوسطة وحدانية نسبة مآلها إلى مبدئها الواحد ، وبسببها تستحق لأن يفيض عليها صورة أو نفسها تحفظها فكلما كان الانكسار أتم كانت النسبة أكمل والنفس الفائضة بمبدئها أشبه ».
    ذكر حسن زاده آملي في كتابه ( عيون مسائل النفس ) عن الشيخ الرئيس حديثه عن المزاج في ص 290 ما هذا نصه : « قد تبين في العلوم الطبيعية أن الأخلاق والعادات تابعة لمزاج البدن ، حتى إن من استولى البلغم على مزاجه استولى عليه السكون والوقار والحلم ، ومن استولت الصفراء على مزاجه استولى عليه الغضب ، ومن استولت عليه السوداء استولى عليه سوء الخق ، ويتبع كل واحد منها أخلاق أخر لا نذكرها هنا ، فلا شك أن المزاج قابل للتبديل ، فتكون الأخلاق أيضاً قابلة للتبديل بواسطة تبديل المزاج فيعين على ذلك استعمال الرياضة المذكورة في كتب الأخلاق فمهما اعتدل مزاج الإنسان تهذبت أخلاقه بسهولة فلإعتدال مزاجه أثر في ذلك.
    والمزاج الخارج عن الاعتدال ما تكون إحدى كيفياته الأربعة أو اثنتان منها غالبة عليه مثلاً أن يكون أحر مما ينبغي أو أيبس مما ينبغي. وهذه الكيفيات الاربعة متضادة ، فالمزاج الخارج عن الاعتدال يكون مشتملاً إما على ضد أو على ضدين ، أي ليس فيه حرارة ولا برودة بل كيفية متوسطة بينهما ، وكلما كان المزاج أقرب إلى الاعتدال كان الشخص أكثر استعداداً لقبول الملكات الفاضلة العلمية والعملية ».


(245)
    وذكر ابن عربي في ( الفتوحات المكية ) في الباب الثمانين وأربعمائة في حال قطب كان منزله « وآتيناه الحكم صبيا » بهذه الأبيات وهي :
من المزاج قوى الإنسان أجمعها بذاك يضعف فـي حال تصرفها فإن بـدا لك ما يـذهب بعادتها روحاً وجسماً فلا تعدل عن الرشد لعله قبـلتـهـا نشـأة الجـسـد فذاك حكـم الإله الـواحد الصمد
    وفي هذه الأبيات معان دقيقة يلتفت إليها أصحاب المعنى والذوق الرفيع ، وهي تشير إلى أن كل القوى الإنسانية التي تحول الإنسان وتغيره راجعة إلى المزاج ومتى اعتدل المزاج كان قابلاً للفيوضات ، سواء كانت من جهة النفس أم البدن. ولذلك روي عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : « بصحة المزاج توجد لذة الطعم ».
    وفي رواية أخرى عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن بعض اصحابه رواه ، عن رجل من العامة قال : « كنت أجالس أباعبدالله عليه السلام فلا والله ما رأيت مجلساً أنبل من مجالسه قال : فقال لي ذات يوم : من أين تخرج العطسة ؟ فقلت : من الأنف ، فقال لي : أصبت الخطأ ، فقلت : جعلت فداك من أين ؟ فقال : ( من جميع البدن كما أن النطفة تخرج من جميع البدن ومخرجها من الإحليل ) ، ثم قال : أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاؤه وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام ». وقال شارح المازندراني في شرح الكافي على هذه العبارة قوله : « وما رأيت مجلساً أنبل من مجالسه » أي أفضل أو أنجب وأعظم وأكبر من النبل وهو الفضل والنجابة والكبار وفعله ككرم. ( وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام ) لخروج الريح المنتشر في الأعضاء وحصول خفة البدن وصفاء الروح واستقامة المزاج وميله إلى الاعتدال في الجملة.


(246)
    النقطة السادسة : كيف نعدل المزاج؟ :
    مما تقدم ظهر أهمية هذا البحث في علم التربية وأنه يعد من أهم المباحث التي يجب أن يتناولها الباحث في التربية ، ولا سيما أنه متى اعتدل المزاج لم نحتج إلى شيء آخر نقوم بإصلاحه ؛ لأنه متى صلح المزاج صلحت النفس والبدن ، وهو المراد في علم التربية الدينية والدنيوية.
    والآن نطرح سؤالاً كيف يمكن لنا أن نصلح المزاج وأن نعدله ؟
    وفي الجواب نقول ما يلي :
    أولاً : إزالة كل أمر يوجب التوتر سواء كان من غضب أو فرح شديد. ويراعى في أموره الوسيطة.
    ثانياً : تهيؤ النفس إلى الراحة وعدم تعريضها إلى العناء الشديد. من الرياضات الشرعية أو غيرها بشكل لا يتحمله الفرد بحسب مزاجه.
    ثالثاً : مراعاة الأطعمة المناسبة للجسد بما يوافق حاجته وعدم الإفراط أو التفريط سواء في الأكل أو المنع منه ، ويلاحظ كل على حسب مزاجه من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. وقد ذكر ابن سينا في ( القانون ) فراجع.
    رابعاً : السعي إلى ترويح النفس والجسد من خلال التعرض إلى الأجواء المناسبة والطيبة الملائمة لهما ، كالذهاب إلى الرياض الخضراء والتعرض إلى النسيم العليل وما يوافق الهواء الصافي.
    خامساً : ترويض النفس والبدن على الملكات الأخلاقية الفاضلة وقهر البدن على ذلك.
    سادساً : ترويض البدن على الجوع غير المؤذي للإنسان بحيث يحصل على فوائده كما ذكر ذلك المناوي صاحب ( فيض القدير شرح الجامع الصغير ) ج 2 ، ص 104 قال :


(247)
    « تنبيه قال ابن العربي : للجوع حال ومقام ، فحاله الخشوع والخضوع والذلة والافتقار وعدم الفضول وسكون الجوارح وعدم الخواطر الرديئة. هذا حال الجوع للسالكين أما حاله للمحققين فالرقة والصفاء والمؤانسة والتنزه عن أوصاف البشرية بالعزة الإلهية والسلطان الرباني ، ومقامه المقام الصمداني ، وهو مقام عال له أسرار وتجليات ، فهذا فائدة الجوع للمريد لا جوع العامة فإنه جوع صلاح المزاج وتنعيم البدن بالصحة فقط ».
    سابعاً : تعليم الإنسان قبول القضاء والقدر وأن ما يقع عليه وكان خارجاً من يده أن فيه خيراً له حتى يحصل على حالة الاطمئنان وهي توجب استقرار النفس لما يحدث لها من المصائب مما يلزم تحمل البدن العناء ، فلا يخرج عن حد الاستواء وعن حد الاعتدال.
    ثامناً : الاستفادة من النسيان الذي يوجد عند الإنسان للمحافظة على اعتدال المزاج. وذلك أنه قد يعرض للطفل الصغير ما يكدر صفو عيشه لأنه فقد شيئاً او أحب أمراً ولم يحصل عليه فتراه يبكي بكاء ، ولكن سرعان ما ينساه الطفل لانشغاله بأمر آخر ، عندها يلزم على المربين أن يستفيدوا من هذه النعمة العظيمة في الحفاظ على نفسية الطفل وعدم تذكيره بالأمور التي توجب له الحزن والبكاء فتسوء أخلاقه ، بل يجب أن يستفاد من تلك الحالة بأن يقوموا هم بتنسيته الأمور التي يجب ألآن لا يذكرها لتأثيرها على نفسيته أو على سلوكه. ونحن عندما نلاحظ الطفل الصغير نجده سرعن ما ينسى ويغفل عما كان يريده سابقاً ، وما جعل الله فيه هذه الميزة إلا من أجل ما ذكرنا ، فتأمل.
    وهناك أمور كثيرة تساعد فيها على اعتدال المزاج في النفس والبدن فتعمل ليكون عندها الجسد والروح قابل للملكات والاستعداد لما توجه إليه.


(248)
    وهناك مطالب كثيرة في مباحث المزاج أعرضنا عنها ابتغاء الاختصار الذي عهدنا أنفسنا به ؛ فإذا أردتها فراجعها في المطولات.


(249)


(250)

(251)
    اعلم ـ سددك الله ـ أن كل ما تقدم من الفصول والمعارف التي مصدرها معادن اللوح المحفوظ ، ومعادن العظمة والإشراقات الإلهية لخلفائه في أرضه ، ومن سار في طريقهم ما هي إلا مقدمة لهذا الفصل الذي نحن بصدده ، ومع كونه المهم في ما تقدم إلا أننا نذكره إشارة واختصاراً لأن التفصيل فيه والتحقيق يأخذ المباحث الكثيرة ويحتاج إلى الصمدي في العلوم الإلهية ، والمعارف الحق. ونحن نقتفي بآثارهم والعلوم التي توصلوا إليها لنقدمها لك في هذا الفصل بشكل نقاط كأسلوبنا في هذا الكتاب.

    النقطة الأولى : حقيقة الإنسان.
    إن الإنسان له حقائق وكل حقيقة من الحقائق في مرتبة معينة من الوجود فالإنسان له ثلاث مراتب وكل مرتبة لها مراتب بحسبها لا نتعرض لها.
    المرتبة الأولى : الوجود المادي : وهو العالم المشهود أنزل مراتب الوجود ويتميز عن غيره بتعلق الصورة الموجودة فيه بالمادة وارتباطها بالقوة والاستعداد.
    المرتبة الثانية : الوجود المثالي : وهو ما يسمى بعالم البرزخ لتوسطه بين العقل المجرد والجوهر المادي والخيال المنفصل لاستقلاله عن الخيال الحيواني المتصل به ، وهو عالم مفارق للمادة دون آثارها. كما ذهب إلى ذلك السيد الطباطبائي في ( بداية الحكمة ).
    المرتبة الثالثة : الوجود المجرد : وهو حقيقة الإنسان كما هي من العوالم التي تشكلت حقيقته وظهرت بها عليه يوم القيامة من التجرد عن المادة آثارها.


(252)
    ومن خلال هذه النظرة السريعة يجب علينا في عالم التربية أن ننظر إلى الطفل ليس في عالم واحد ، بل إلى العوالم الأخرى وفي النشأة الثانية ؛ فمتى كانت التربية ناظرة إلى تلك العوالم كانت التربية صحيحة ، أي أنه يجب أن ننظر إلى الطفل لا بما هو مادة فقط بل بما هو في النشآت الأخر. ومن هنا قال أحد العلماء الأجلاء : إنه ليس من الصعب أن يكون الإنسان عالماً ومن الصعب أن يكون إنساناً.
    أقول : وعنى ذلك العالم الجليل أن يكون الإنسان إنساناً كاملاً لا صورة الإنسان فتامل.

    النقطة الثانية :
    أن الروح لما تنزلت إلى عالم المادة احتاجت إلى ما تستطيع من خلاله في هذا العالم من العمل في العالم المادي فكان الجسد هو آلة الروح في الحياة الدنيا ؛ فإن النفس محبوسة في هذا البدن ، وإن البدن المادي ليس هو الإنسان الحقيقي في تلك المرتبة. ومن هنا نجد الروية تقول « ان الله لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم » أي إلى حقائق وجودكم. وإن هذا البدن الذي نحن فيه ما هو إلا لبس في عالم الدنيا وعندما نصل إلى مرحلة أخرى ألطف وأرق نخلع لباس البدن المادي ، ويبقى عندنا البدن المثالي الذي هو ألطف من البدن المادي. ومن هنا يجب أن نهتم في حقيقة الإنسان لا ظاهره في عالم التربية ، فقد يكون الإنسان صحيحاً في الجسد المادي إلا أنه في الجسد المثالي وفي عالم التجرد معوق ومشوه.
    وهذا واضح جداً ؛ فقد قال الله تعالى عن لسان البعض في يوم القيامة مخاطباً الله سبحانه وتعالى : « ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة اعمى * قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيراً » (1).
1 ـ طه : آية 124 ـ 125.

(253)
    فإن الآية الشريفة واضحة في أن الإنسان قد يكون في هذا العالم صحيحاً معافا إلا أنه في عالم المثال وعالم الشهود يوم القيامة حقيقته هو العمى ، وأن هذا العمى ليس اعتباطياً بل له سبب وهو إعراض عن ذكر الله في عالم الدنيا ؛ فمن يشرب سماً قاتلاً فإن بدنه يتلف ويموت وسبب موته هو شرب السم ، وكذلك العمى في الأخرى سببه الإعراض عن ذكر الله.
    فإذا تقرر ذلك عرف أنه يجب على المربي وعلى الوالدين أن يحافظا على ابنهما في جميع العوالم وليس في عالم واحد ، وذلك من خلال التربية والتعليم والتأديب بما جاء عن الله وعن الرسول وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين ، بل حتى الإنسان الكامل كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتاج إلى مؤدب يؤدبه ، ولكن المؤدب له هو الخالق لأن نبينا محمد صلى الله عليه وآله لا يستطيع أحد أن يعلمه شيئاً ؛ لأن حقيقته الوجودية أكمل من أي حقيقة أخرى فهو خاتم الأنبياء والمرسلين بل هو أدنى من قاب قوسين من الحقيقة الكاملة ومع ذلك نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يقول بعد نزول قوله تعالى : « خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين » قال صلوات الله عليه وعلى آله : « أدبني ربي بمكارم الأخلاق » صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فكان المؤدب له هو الله لأنه الكمال المطلق ، وكان النبي هو المؤدب لأهل بيته وأصحابه وهم المؤدبون لنا ونحن المؤدبون لأبنائنا بما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وآله.

    النقطة الثالثة : الوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل :
    لكي يكون الإنسان إنساناً كاملاً لا بد أن يكون عبدالله سبحانه وتعالى ، لأن الكمال الحقيقي الذي ينشده الإنسان لنفسه هو افتقاره لله سبحانه وتعالى ،


(254)
وحقيقة ظهور الافتقار تكمن في حقيقة العبودية والتذلل لله جل جلاله. وذلك لأنه متى كان الإنسان عبداً لله سبحانه وتعالى كان كاملاً ؛ لأنه عندها يتحلى بأخلاق الله كما جاءت بها الرواية : « تخلفوا بأخلاق الله » وفعل الله هو الكمال ، فيكون المتخلق بها كاملاً وهو المراد من وجوده ومن خلقه. قال تعالى : « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ». صدق الله العلي العظيم. فعليه لابد أن يسلك المربي بولده مسلك التأدب والتعليم وذلك باتباع المنهج القويم الذي جاء عن الله وأن يحبب في نفسية الطفل حب الله وحب رسوله وحب كل أمر أمر به الإسلام.
    فقد روي : « أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلم على غلام دون البلوغ وبش له وتبسم فرحاً بالنبي. فقال النبي له : أتحبني يا فتى ؟
    فقال : إي والله يا رسول الله.
    فقال له : مثل عينيك ؟
    فقال : أكثر.
    فقال النبي : مثل أبيك ؟
    فقال : أكثر.
    فقال : مثل أمك ؟
    قال : أكثر.
    فقال : مثل نفسك ؟
    فقال : أكثر والله يا رسول الله.
    فقال : أمثل ربك ؟


(255)
    فقال : الله الله الله يا رسول الله ليس هذا لك ولا لأحد ، فإنما أحببتك لحب الله. فالتفت النبي إلى من كان معه وقال : هكذا كونوا حبوا الله لإحسانه إليكم وانعامه عليكم واحبوني لحب الله ».
    ولا يصل الفرد إلى هذا المقام إلا بالتعلم والعلم الإلهي ؛ فقد قال الله تعالى : « أو من كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون » (1).
    فإن الإنسان هو ميت وإن كان متحركاً ؛ إذ الحياة المرادة ليس بالمصطلح عليها عندنا ؛ فالحياة الحقيقية التي يجب أن ينشدها الإنسان هي بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ، والإيمان هوالعلم والاعتقاد بوجود خالق له وبصفاته وتخلق بأخلاقه فمتى صار عالماً كان حياً ومتى كان حياً كان له نور يمشي به بين الناس ، ولذلك يقال : ( الناس موتى وأهل العلم أحياء ). ولا يكون له نور إلا إذا اتحد العلم بوجوده بحيث يصح ان يصدر منه نورا ، ولا يتحد العلم بالعالم إلا إذا كان جزءاً منه فصار به عقلاً فعال ، ومتى كان عقلاً فعلاً كان عبقرياً. وبذلك يصح أن يكون الولد حياً بحياة لا يموت بها بالبدن ، صح عندها أن يطلب الله أن يرزقه ولداً ويقول كما علمنا الله عن لسان المؤمنين. قال تعالى : « والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما » ، وقال : « وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ». صدق الله العلي العظيم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وبهذا نكون قد انتهينا من كتابنا الموسوم بـ ( عبقرية مبكرة لأطفالنا ) في تاريخ 4 / 4 / 1423 من الهجرة المباركة في قم المقدسة.
1 ـ الأنعام : 122.
عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: فهرس