عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: 226 ـ 240
(226)
التغير. والطفل في بداية فعله وتعلمه يكون في مثل هذه المرحلة التي يعمل حتى يصل إلى المرحلة السجية. وعليه فإن التغير في بداية الحياة وتوجيه الطفل من الأول في تصحيح العادات والأفكار هو أسهل وأمكن للمربين. بخلاف ترك العادة تستحكم ثم يأتي دور التغير. ومن هنا يلزم السعي في تعليم الطفل الأخلاق الحسنة وتعويده عليها حتى تكون ملكة ؛ لأن خلقته لينة وتحويله من شيء إلى شيء سهل جداً ، ولذلك قال الإمام إلى مبادرة الحدث بالحديث قبل أصحاب العقائد الباطلة التي تشوه فكره ورأيه.
    وهذا الذي أثبته العلم أيضاً في تجربة بافلوف ، حيث قال وليـم ساجنت فـي كتابه ( Battle for the mind ) : « إن الكثير من السلوك الإنساني ما هو إلا نتيجة للأنماط السلوكية المشروطة في المخ ، ولا سيما في أثناء الطفولة. وقد تستمر هذه الأنماط دون أي تعديل يذكر ، ولكن غالباً ما ينالها بعض التعديل تدريجياً بسبب التغيرات التي تحدث في البيئة. ولكن كلما تقدم عمر الإنسان استعصى على إحداث ردود فعل جديدة تتفق مع هذه التغيرات فالاتجاه حينئذ عادة ما ينمو لجعل البيئة تناسبه ، أو يناسبها من ناحية ردود الأفعال التي تزداد قدرته على الأفعال الشرطية المنعكسة التي سبق اكتسابها عن طريق الدراسة المستفيضة ... ».

    تطبيق نظرية في علم التربية :
    كل الذي تقدم كان مقدمة لفهم كيف يمكن لنا أن نخلق نمطاً جديداً أو سلوكاً مغايراً لما كان عليه الإنسان ، وحيث إن الحديث عن سلوك الطفل الصغير وكيف لنا أن نخلق منه عالماً كما نحب ونريد فإننا نتبع الخطوات التالية :
    الخطوة الأولى : أن نحدد السلوك المرغوب فيه والمراد تعليمه لطفل سواء كان صغيراً أو كبيراً.


(227)
    الخطوة الثانية : نربط هذا السلوك بصورة جميلة وحسنة في ذهن الطفل الصغير بحيث ينتقل ذهنه من الشيء الجميل إلى الفعل الذي خلقناه له ؛ فمثلاً عندما نريد أن نخلق في الطفل صفة الصدق فإننا نربط صدقة بمدحه والثناء عليه والإشادة به بوجوه محببة له ، ونربط بين صفة الكذب والأمور القبيحة بحيث تستحكم نفسه بين الصورتين فعندما يريد أن يكذب تتمثل له تلك الصور القبيحة فتنفر نفسه منها. وذلك لما تقدم من أن الإنسان يبحث عن الكمال ، والقبيح لا كمال فيه وهو يحب نفسه فتنفر نفسه من كل أمر ينقصها.
    الخطوة الثالثة : أن نجعل بين الصفتين المرغوبتين نوعاً من أنواع اللذة التي يلتذ بها ؛ فصفة المدح وهي موجبة للذة الطفل لإشعاره أنه محبوب بالصدق لأنه كلما صدق كوفئ ، ونجعل بين الصفتين غير المرغوب فيهما نوعاً من الألم والحرمان النفسي ، حتى يقع النفور الداخلي والقبول الداخلي من غير وجود رقيب عليه في تحقيق ما يراد منه ، وإنما يسمع لتحقيق الدافع الموجود في داخله وهو حب نفسه وكمالها.
    الخطوة الرابعة : التكرار في تحقيق الربط بحيث يشكل نمطاً في عملية الإشارات العقلية والانتقالات لها من غير ترو ولا تأمل. وبعبارة أخرى بحيث يستحكم المعنيان أو الصفتان فلا يكون لهما إلا وجود واحد في العقل. ولا نقصد الدقة العقلية بل التبادر إلى المعنى المراد فقط وهو الاندكاك بين المعنيين ليشكلا معنى واحداً لهما.
    وقد ذكر انتوني روبنز في كتابه ( أيقظ قواك الخفية ) ص 148 ما يدعم ذلك ، حيث قال : « التكيف والترويض أمر حاسم ؛ إذ إننا بذلك نحقق نتائج ثابتة ومستمرة ، غير أن عليك أن تتذكر من جديد أن أي نمط من السلوك


(228)
العاطفي يتم تعزيزه أو مكأفأته على أساس ثابت سيصبح سلوكاً متكيفاً وأتوماتيكياً. أما النمط الذي نفشل في تعزيزه فلابد له من أن يتلاشى ».
    والتكرار المطلوب قد يحدث بكثرة إخطار المعنى لطفل ، أو جعل له تثقيف خاص من خلال تدريسه المعنى حتى يستحكم عنده ، ويثبت لدى عقله ويكون ذلك على فترات متعاقبة بعضها تلو البعض ، أو بأي طريقة يمكن أن ترسخ المعنى المراد لدى الطفل.
    الخطوة الخامسة : وهي خلق بديل لما يراد تغيره ، ويكون ذلك فيمن كان عنده عادة أو سلوك معين وأريد تغيره إلى سلوك آخر ، وقد تعود الشخص على السلوك القديم ؛ فبعد أن يعطى هذا السلوك ( القديم ) نمطاً سلوكياً جديداً بحيث تنفر منه النفس وترتسم صورة جديدة تأتي المرحلة في إيجاد بديل للسلوك القديم ، حتى لا ترجع نفسه إليه أو تشتاق فيعود إلى ما كان عليه ما لم يترسخ عنده البديل. وهو النمط العكسي الشرطي في التجربة.
    الخطوة السادسة : تعطيل النمط السلوكي القديم بحيث يستخدم أساليب الإثارة وإيصال الشخص إلى مرحلة انفعال ، بحيث ينقلب إلى المعاكس والنقيض.
    الخطوة السابعة : السعي إلى أن يصل مع وجود النمط الجديد إلى نسيان الأسلوب والعادة والسلوك القديم ؛ فإن استطعنا تحقيق ذلك استطعنا عدم رجوعه مرة أخرى ، وذلك بأن يبعد عما كان عليه أو ما يذكره بالنمط القديم. وسوف نذكره بنوع من التفصيل إن شاء الله.
    الخطوة الثامنة : قد يحتاج إلى ترسيخ الصورة أو الانتقال إلى التجربة بحيث يعيش المراد تغيره التجربة ولو مصغرة وغير حقيقة ، بشرط أن لا يعلم أنها كذلك بل يعتقد أنها واقعية حتى يتفاعل معها وتؤثر في نفسه.


(229)
    الخطوة التاسعة : توصيل الطرف المراد تغيره إلى النتيجة من خلال إكراهه على الفعل المحب له بحيث يجبر عليه ويطالب بتكرر الفعل الذي يحبه بشكل مستمر. وهنا يقفز قانون أن النفس متى أجبرت على شيء تحولت إلى مقته.
    الخطوة العاشرة : العزل بأن يعزل من يراد تغير سلوكه عن المجتمع الذي يعيشه ويتعامل معه بحيث لا يتأثر بهم ويبقى على حاله عندما يشاهد الآخرين يقومون بنفس الشيء الذي منع منه ؛ فالطفل الذي تعود أن يقول الكلمات غير الجيدة والتي اكتسبها من بعض زملائه ، فإنه يعزل عنهم ويخلق له بيئة جديدة تتعامل مع الصفة أو النمط السلوكي الجديد.

    تطبيقات للنظرية
    لم يزل الإنسان فطرياً يسير بفطرته لتحقيق احتياجاته ويحتال لها بفنون الاحتيالات والطرق حتى يتمكن من رغبته وما يريد ، وكانت هذه الفطرة في الإنسان هي التي قادته إلى اكتشاف كثير من العلوم ومعرفة كثير من المعارف ، ولكن قد تصاغ هذه المعرفة بأسلوب علمي وطريقة فنية ، وقد تبقى مسترسلة بين الناس من غير صبها في قالب علمي بحيث لا تظهر بشكل حقيقة علمية ، إلا أنها تبدو للناس عادة أخذها الأبناء من الآباء والبنات من الأمهات والجيل بعد الجيل ، بقالب علمي وإن كانت في واقع الأمر سراً من اسرار التكوين والطبيعة. ومن هذه الأمور ما يلي :
    أولاً : الفطام : عندما يولد الطفل ويلقف ثدي أمه ويأنس بحليبها ويعيش على ذلك ما يقارب السنتين ، عندها يأتي النذير لهذا الطفل أنه حان أوان الفطام ؛ فتحتال الأم لكي تجعل ولدها يترك الرضاع بطرق عديدة بحيث ينفر


(230)
من الثدي ومن الرضاعة بعد أن تعلم عليه طويلاً ، كأن يوضع على حلمة الثدي مادة توجب المرارة بحيث كلما رضع الطفل أحس بالمرارة وأن طعمه صار كريهاً ثم تنفر نفسه ثم يتركه ، بل إذا طلب منه فيما بعد الرجوع إلى الرضاعة رفض.
    وعندما تسأل هذه الأم المسكينة عن الأسباب العلمية التي جعلت الطفل يترك الرضاعة تجدها لا تجيب إلا بكلمة أو كلمتين ولا تعلم أنها طبقت عدة قواعد وأساليب علمية حتى صار الطفل مفطوماً. ومنها :
    1 ـ أنه عملت نمطاً سلوكياً عكسياً شرطياً.
    2 ـ إثارة واستثارة الطفل باستخدام الصراع النفسي له.
    3 ـ أوقفت النمط السلوكي القديم من خلال عملية التناقض الذي أوجدته له من خلال تصارع بين كون الحليب مؤنساً ولذيذاً وكونه مراً وكريهاً ، حتى أوقفت عنده النمط السابق.
    4 ـ جعلت له ارتباطاً بين صورتين أن الراحة في ترك الرضاع بعد ان كان الراحة واللذة فيه.
    وغير ذلك من الأمور التي تم توضيحها والطرق العلمية التي استخدمت فيها. وكثير مثل هذه الأمور يجهلها بعض الناس.
    ثانياً : ما جربته على ولدي من استخدام هذه النظرية من قرب صفة أريد تغيرها إلى صفة أخرى يكرهها ولدي. وذلك أن الأطفال من عادتهم أن يحبوا الحلويات والمشروبات الغازية فلم أرغب في أن يتعلم أطفالي على هذه الأمور ، فطبقت النظرية بحيث إني أتيت بإحدى العلب الغازية ووضعت فيها معلقة كبيرة من الملح وقدمت لابنتي ثم ولدي بعد ذلك المشروب في نفس العلب مع


(231)
ملاحظة أني عملتها من غير علمه. فلما قدمته لها كانت مسرورة بأنها ستشرب ما تحبه ، ولكنها تفاجأت بأن وجدت طعمه كريهاً وممقوتاً فأخرجته من فيها وهي مقطبة بجبينها وهي تقول : ( يع ... بابا ... يع ! ) وأنا أردد لها نفس عباراتها وأقول لها : ( هذا يع .. ! ) وبعد هذا الحادث لم ترغب في شرب أي مشروب غازي حتى لو لم يكن أحد والديها بجانبها. وكذلك في الحلوى حيث إني أحضرت صورة أسنان مسوسة وخربة وشكلها مخيف فأريتها ابنتي وقلت لها : هذا من الحلوى ! هذا من أكل الحلوى ... ووضعت الصورة بالقرب من سريرها بحيث تراها في كل وقت فصارت تكره الحلوى ، ولا تحبها كثيراً مع أن عادة الطفل خلاف ذلك ... كل هذا بسبب استخدام هذه النظرية.
    ثالثاً : أمير يسمى سيد هاتا ابن الملك سودهوادأنا يعيش منذ طفولته حياة ترف ونعيم لم يستمتع به إلا قلة من الناس ، ورغم هذا النعيم تحول الأمير إلى راهب متسول يحاول أن يبحث عن الحقيقة بعد أن شاهد في أثناء تجوله في مملكته ثلاث صور من شقاء الحياة ، فالصورة الأولى وهي الشيخوخة تمثلت له حينما رأى كهلاً رسم الحزن والجهد على وجهه أثر الشقاء ومحنة الأيام ، ممداً على الأرض دون غطاء في يوم عاصف الريح. والصورة الثانية : وهي صورة المرض ، فقد رسخت في ذهنه حينما رأى مريضاً ملقى على الطريق يتوجع ويئن ، فأدرك أن المرض يتعرض له كل إنسان غنياً كان أم فقيراً حاكماً أو محكوماً. والصورة الثالثة صورة حتمية الموت ؛ إذ شاهد جنازة أحد المتوفين وهو محمول إلى مكان حرق جسده ومن خلفه امرأته وأولاده يبكون لفراقه.
    فأثرت في نفس هذا الأمير هذه الصور بحيث تحول وتنازل من حياة الترف إلى حياة الراهب المتسول الذي يبحث عن شيء لا يشوبه هذه الشوائب وعالم لا يوجد فيه مثل هذه الأمور.


(232)
وعندما نلاحظ الصور المتقدمة نلاحظ أنها كلها اعتمدت على نفس النظرية التي توصل إليها بافلوف ، وأن انطباع الصورة الجديدة أو الانتقال إلى المشهد الثاني له عدة طرق ؛ فتارة التجربة سواء كانت بالحس أو بغيرها وتارة بالمعرفة والتأمل. وإن هذه الأمور ناتجة من مؤثرات مشروطة أو شرطية تؤثر في نفس التفكير وتحول الشخص من حالة إلى حالة. وكلما كانت في سن مبكر كان أثرها أكثر لكون الاستجابة أسرع والمقاومة أضعف فتامل.

    التأكد من تحول الفكر :
    عندما نريد أن نعرف هل هذا الشخص تغير حقيقة أم هو يسطنع التغير ؟ أو أنه هل هذه الفكرة ركزت في ذهن الطفل الصغير وصارت عنده ثابتة أو لا ؟
    يمكننا أن نحقق ذلك من خلال التأكد على أن نتبع أسلوباً استنطاقياً للفكر وذلك بما يلي :
    1 ـ الاستنطاق : وهو عبارة عن إدخال الطفل المراد تغيره في نقاش فكري مبسط يناسب فكره بأن نقوده إلى أن يصل إلى النتيجة من خلال أسئلة توجه إليه ومنها تكتشف فكره اتجاه الامر الذي حاولت تغيره. مثل ذلك أننا غيرنا فكره اتجاه شرب المشروبات الغازية التي كان يحبها بعد عملية تأثير على النمط السلوكي بالعملية العقلية الشرطية التي تقدمت ، حتى توصلنا إلى أن المشروبات الغازية ليست جيدة وارتبط فكره بأن المشروب الغازي مشروب كريه مثلاً. نأتي ونسأله ، وبعبارة أخرى نستدرجه بقولنا :
    هل تريد أن تشرب مشروبا غازياً ؟
    الطفل : لا.


(233)
    المربي : ولماذا ؟
    الطفل : لا أريده إن طعمه كريه.
    المربي : ولماذا طعمه كريه ؟
    الطفل : لقد جربته ورأيته كذلك إنه ( يع ! ).
    المربي : والكبار لماذا يشربونه ؟ أليس جيداً ؟
    الطفل : إنه جيد للكبار فقط أما الصغار فلا.
    وهكذا يدار النقاش حتى يتأكد من أن الطفل ترسخت الفكرة في ذهنه من خلال زجه في نقاش وحوار فكري بسيط كما قلنا. كما أنه بهذه الطريقة تحرك عقله وترفع كل فكرة ما زالت عالقة في ذهنه وتعمق الفكرة أو الصفة في داخل وجوده بحيث تصير جزءاً منه.
    2 ـ الاعتراف : وهذه النقطة تعتمد على أن الطفل أو الشخص الذي ارتكب خطأ وأريد إصلاحه يجب علينا أن نجعله يعترف بخطئه ، وأنه فعل حماقة ، وهذا الاعتراف يكون وسيلة سهلة ومساعدة في تحقيق تغير العقيدة أو الصفة التي يراد أن يغيرها ، وذلك لأن باعترافه بأنها خطأ فإنه سيحاول إصلاحها وتغيرها ، وهذا يعطي العقل استعداداً وقابلية لأن يتقبل كل شيء جديد له ؛ مضافاً إلى أن اعترافه يسبب له ألماً نفسياً فيكون هذا ألماً رادعاً له عن ارتكابه مرة أخرى ؛ لأنه يشكل ضغطاً عاطفياً وتأثيراً قوياً على نفسيته مما يجعل ذهنه قابلاً للتغير وهو الأسلوب الشرطي الذي ذكرناه من قيام الشخص بسلوك معين نتيجة لمؤثرات خارجية.
    3 ـ خلق له جو المشاركة : يجب أن يخلق للطفل جو من المشاركة الجماعية التي يعبر فيها عن رأيه من غير ملاحظة كون المربي له مراقب.


(234)
    لتصرفاته ، بحيث يتصرف على سجيته وطبيعته ويرى كيف يكون التفاعل مع النمط الجديد الذي تعلمه ، فهل يتصرف ويتفاعل معه سواء وجد المربي أو أنه يلاحظ وجوده عندما يريد أن يفعل هذا الأمر أو ذاك. فإن كان الثاني فإن الصفة لم تستحكم في وجوده بعد ويحتاج إلى مزيد من التعليم والتركيز بخلاف الأول.


(235)
    الأسلوب الثالث : اعتدال المزاج
    إن الحديث عن اعتدال المزاج وأهميته في عالم التربية من الأمور التي لا تخفى على العلماء ، وإن خفى هذا الموضوع في كتب التربية الحديثة بهذا العنوان والتسمية ، ولكنه في الكتب القديمة والتي اهتمت في التربية والأخلاق والطب ذكرت هذا العنوان بشكل متفاوت ومتفرق في الكتب ، وإن صنف لها كتب خاصة تتحدث عن المزاج. ونحن سنتناول هذا البحث باختصار شديد حتى لا يخرجنا عن موضوعنا الذي عقدنا له هذا الكتاب. ويمكن أن نطرق البحث من خلال عدة نقاط :

    النقطة الأولى : تعريف المزاج :
    ذكر ابن سينا في ( القانون ) : « أن المزاج هو : كيفية حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادات إذا وقفت على حد ما ووجودها في عناصر متصغره الأجزاء ليماس أكثر كل واحد منها أكثر الأخر ، إذا تفاعلت بقواها بعضها في البعض حدث عن جملتها كيفية متشابهة في جميعها هي المزاج والقوى الأولية في الأركان المذكورة أربع هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ». انتهى كلامة ، ص 6. وذكر مثل هذا التعريف في كتابه ( الشفاء ) وفي قسم الطبيعيات ، ج 3 ، ص 192.
    أقول : كثيراً ما يرد على الألسن أن هذا الشخص صاحب مزاج أو أنه مزاجي ، ويقصد الناس من ذلك أنه متقلب بحسب الظروف والأحوال التي تحدث له فلا قاعدة عنده يجري عليها. وقد صدق الناس في هذا القول وإن تقلب الإنسان راجع إلى اختلاف المزاج الذي يحصل له. والمزاج ـ كما


(236)
ذهب إليه الفلاسفة ـ هو مجموعة كيفيات تحصل من خلال تفاعلها ، وذلك من خلال اندماج الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ؛ فتشكل من هذه المجموعة حقيقة مندمجة مع بعضها تسبب مزاجاً خاصاً بالإنسان أو بالفرد ، ومن خلال هذا المزاج يختلف التعامل والتفاعل معه بحسب مزاجه. بعضهم حار المزاج أو بارد إلى المزاج الذي يحمله كل إنسان في داخله. ومتى تحكمنا في المزاج فإننا نستطيع أن نحافظ على الطفل وعلى الشاب وعلى الرجل وعلى المرأة من التصرفات التي يتصرفها من غير وعي وإدراك.

    النقطة الثانية : المزاج غير النفس :
    عندما نطرح هذا النقطة بالذات فإننا نريد أن نؤكد على مسألة مهمة ، وهي أنه إذا كان المزاج غير النفس فإنه يمكن إصلاحه وتعديله ، وأما إذا كان المزاج هو النفس ـ كما ذهب بعضهم إلى ذلك ـ فإن الإنسان لا يمكن أن يغير مزاجه وطبعه وطريقته. وبأدنى تأمل نعرف أن النفس غير المزاج لأنه يمكن أن يصلح الإنسان مزاجه ويغيره بالرياضة والمجاهدة التي تستلزم قهر النفس والبدن في ذلك حتى يصلح المزاج. فقد ذكر المازندراني في شرح الكافي عن ابن سينا قوله : « والشيخ ابو علي بن سينا أورد في الإشارات ثلاثة أدلة لإثبات أن النفس ليست هي المزاج أو تابعاً للمزاج ، بل هي تعارض مزاج البدن وتنافيه ، الدليل الأول الحركة الإرادية إلى جهات مختلفة فإنها ليست للطبايع ؛ فإن الطبيعة تقتضي شيئاً واحداً غير مختلف فالحركة إلى فوق والطبيعة تميل إلى السفل تدل على أن النفس ليس من الطبيعة ، الثاني الحسن والإدراك فإنهما ليسا للطبيعة والمزاج وهو واضح ، الثالث أن الطبايع المختلفة في المزاج تقتضي الانفاك في أسرع ما يكون من


(237)
الزمان ، ولذا يتلاشى البدن بعد الموت بلا مهلة وأن النفس تقهر المزاج على الثبات والبقاء وجمع الأضداد مدة طويلة فليست النفس مزاجاً أو متفرعة على المزاج ، بل لها مبدأ آخر ولذلك تقدر على قهر المزاد على خلاف مقتضى طبعه وهذه أمور يغفل عنها الطبيعيون والأطباء ». ج 7 ، ص 332.

    النقطة الثالثة : أثر سوء المزاج على الإنسان :
    إن سوء المزاج في الإنسان يقتضي أشياء كثيرة قد لا يدركها الإنسان العادي لعدم الالتفات إلى أثرها وأهميتها ، ولكن بعد التأمل والتدقيق يجد الإنسان أن سوء المزاج يؤثر على الإنسان مباشرة أو غير مباشرة يمكن لنا أن نطرح ذلك بشكل نقاط :
    أولاً : إن سوء المزاج يؤثر على نفس تكوين البشر فضلاً عن سلوكهم. وهذا الذي عبر المناوي صاحب كتاب ( فيض القدير شرح الجامع الصغير ) في ج 1 ، ص 234 ، عندما تحدث عن الرواية الحجامة فقال : قال أهل المعرفة الخطاب بالحجامة لأهل الحجاز ومن في معناهم من الأقطار الحارة ؛ لرقة دمائهم وميلها لظاهر البدن بجذب الحرارة لها إلى سطح البدن. وقد أوضحه بعض الفضلاء فقال : إنما لازم المصطفى صلى الله عليه وسلم الحجم وأمر به دون الفصد مع أن الفصد ركن عظيم في حفظ الصحة الموجودة ، ورد المفقودة لأن مزاج بلده يقتضيه من حيث إن البلاد الحارة تغير المزاج جداً كبلاد الزنج والحبشة ؛ فلذلك يسخن المزاج ويجف ويحرق ظاهر البدن ولهذا اسودت أبدانهم ومال شعرهم إلى الجعودة ودقت أسافل أبدانهم وترهلت وجوههم وخرج مزاج أدمغتهم عن الاعتدال ، فتظهر أفعال النفس الناطقة فيهم من نحو فرح وطرب وخمد وصفاء صوت والغالب عليهم البلادة لفساد أدمغتهم. وفي مقابلها في المزاج بلاد الترك فإنها باردة


(238)
رطبة تبرد المزاج وترطبه وتجعل ظاهر البدن حاراً ؛ لأن الحرارة تميل من ظاهر البدن لباطنه هرباً من ضدها وهو برد الهواء كما في زمن الشتاء ؛ فإن الحرارة الغزيزة تميل للباطن لبرد الهواء فيجود ويقل المرض وفي الصيف بالعكس.
    والغرض من ذلك أن بلاد الحجاز حارة يابسة فالحرارة الغزيزية بالضرورة تميل لظاهر البدن بالمناسبة التي بين مزاجها ومزاج الهواء المحيط بالبدن فيبرد باطنه ، فلذلك يدمنون أكل العسل والتمر واللحوم الغليظة فلا تضرهم لبرد أجوافهم وكثرة التحلل ؛ فإذا كانت الحرارة مائلة من ظاهر البدن لباطنه لم يحتمل الفصد لأنه إنما يجذب الدم من أعماق العروق وبواطن الأعضاء وإنما تمس الحاجة للحجم ؛ لأن الحجامة تجذب الدم من ظاهر البدن فقط فافهم هذه الدقيقة.
    ثانياً : إن سوء المزاج يوجب للبدن المرض فقد ذكر ابن ميثم البحراني ، ص 49 ، في كتابه ( شرح مئة كلمة ) ما هذا نصه : « وذلك لأن المرض في بعض الصور مختص بما يقتضي الاحتياج إلى الغذاء لتحلل رطوبات البدن بسبب عروض الحرارات الغريبة المسماة بسوء المزاج الحار له ، لأن الغذاء إنما يكون لسد بدل ما تحلل من تلك الرطوبات وشدة الحاجة إلى الغذاء إنما تكون بحسب كثرة التحليل وكقصور القوى البدنية بسبب المرض المضاد لها ، وإنما الحاجة إلى حفظ تلك الرطوبات لحفظ تلك القوى إذ كانت مادة الحرارة الغريزية المقتضية لتعادل الأركان الذى لا تقوم تلك إلا معه وشدة الحاجة إلى ما يحفظ تلك ».
    وهناك بحث قيم ذكره مصطفى محمود في كتابه ( في الحب والحياة ) في ص 80 ، على أن المرض والحب سر من أسرار الصحة والمرض. قال : « وإذا كنا نقرأ أن المسيح كان يشفي بالحب .. فليس فيما نقرأ مبالغة بل


(239)
حقيقة علمية ؛ فالحقد والكراهية والحسد والبغضاء ترفع ضغط الدم وتحدث جفافاً واضطرابات خطيرة في الغدد الصماء ... وعسراً دائماً في الهضم والامتصاص والتمثيل الغذائي .. وأرقاً وشروداً .. والنفور والاشمئزاز يؤدي إلى أمراض الحساسية. والحساسية ذاتها نوع من أنواع النفور .. نفور الجسم من مواد غريبة عليه واليأس يؤدي إلى انخفاض الكورتيزون في الدم ، والغضب يؤدي إلى ارتفاع الادرينالين والثيروكسين في الدم بنسب كبيرة ، وإذا استسلم الإنسان لزوابع الغضب والقلق والأرق واليأس أصبح فريسة سهلة ولقرحة المعدة والسكر وتقلص القولون وأمراض الغدة الدرقية والذبحة ، وهي أمراض لا علاج لها إلا المحبة والتفاؤل والتسامح وطيبة القلب .... وإذا قالوا لك : إن معجزة الحب تستطيع أن تشفي من الأمراض فما يقولونه يمكن أن يكون علمياً ».
    وفي صفحة أخرى يقول متسائلاً عن قول البعض في ص 83 : « وإذا قالوا لك إن سبب المرض ميكروب ، قل لهم لماذا لا نمرض جميعاً بالسل مع أننا نستنشق كلنا ميكروب السل في التراب كل يوم ويدخل إلى رئاتنا في مساواة ؟ .. لأن بعضنا يقاوم وبعضنا لا يقاوم ... وما هي المقاومة سوى أن تكون الحالة السوية للجسم .. حالة العمل في انسجام بين كل الخلايا والغدد والأعصاب ، وهي حالة ترتد في النهاية إلى صورة من صور الائتلاف الكامل بين النفس والجسد.
    أقول : إن ما ذكره هذا الدكتور من بحث قيم فإن مرجع الحب الذي هو شفاء أو وسيلة للشفاء إنما هو اعتدال المزاج ، فمتى اعتدل المزاج كان الجسم في غاية الصحة وسلامة وسوف نذكر ذلك فيما بعد. ولكن ليكن على بالك أن ذلك كله مرجعه إلى اعتدال المزاج.


(240)
    ثالثاً : إن سوء المزاج يقلل من حظ صاحبه من التعلم سواء كان في العلوم الأخلاقية أو غيرها. وهذا الذي أشار إليه ابن ميثم البحراني في كتابه شرح مئة كلمة في ص 19 هذا نصه : « وليس الخلق كذلك ، ولا نفس الفعل لأن الفعل قد يكون تكليفياً ، ثم إنه ليس شيء من الأخلاق بطبيعي في الأصل سواء كان فضيلة أو رذيلة وإنما الطبيعي قبوله ، وإن كان ذلك القبول للفضيلة أو الرذيلة مختلفاً بالسرعة والبطء بحسب اختلاف المزاج في قوة الاستعداد وضعفه لأحد الجنسين ».
    رابعاً : إن سوء المزاج يؤثر على الرؤيا في النوم بحيث يحرفها عن كونها في رؤيا صادقة ؛ فقد ذكر أبو فتحي الكراجكي عن الشيخ المفيد ما هذا نصه :
    « الرؤيا في المنام ، وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه أن الكلام باب رؤيا المنايات عزيز وتهاون أهل النظر به شديد والبلية بذلك عظيمة وصدق القول فيه أصل جليل ، والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات أحدها حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس فيخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه وهذا معروف بالاعتبار الجهة الثانية من الطبائع ، وما يكون من قهر بعضها لبعض فيضطرب له المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب ؛ من مأكول ومشروب ومرئي وملبوس ومبهج ومزعج. وقد نرى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتى إن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي يتخيل له من وقوعه منه ويناله من الهلع والزمع ما لا ينال غيره ، ومن غلبت عليه السوداء يتخيل له أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن ذلك ».
    خامساً : إن سوء المزاج قد يؤثر على نفس تكوين الولد والجنين ، وقد ذكرنا ذلك في ما تقدم. ولكن نورد تعليقة صاحب البحار في ج 47 ، ص 66 على هذه الرواية : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي :
عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: فهرس