عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: 211 ـ 225
(211)
     الأول : البناء وهو ما يراد منه تزويد المستمع بالفكر الحي الذي يجب أن يتخذه منوالاً في حياته ، كما ينمي فيه الفطرة السليمة.
    الثاني : الحماية لهذه الفطرة من الانحراف وذلك من خلال تصوير مشاهد مخيفة للمستمع أو عواقب للأمر ونهايته المحزنة ، بحيث يتعظ منه ويبتعد عن فعله.
    وهذا الأسلوب قد اتخذه الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الشريفة من أجل تعليم الإنسان بعض الأفكار والرؤى الصحيحة ؛ فمثلاً نشاهده يصور لنا حواراً بين أب وابنه ، والأب يأخذ دور الموجه والمربي وهذا المشهد يعطي انطباعاً في عملية التربية بأن يجلس الأب ويجاذب ابنه الحديث ويصور له المشاهد ، ويحكي له الوقائع حتى يتعلم منها ؛ فقال تعالى في كتابه الشريف : « وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم * ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من اناب إلي ثم إلي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون * يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير * يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير » (1).
1 ـ لقمان : 13 ـ 19.

(212)
    وهذا الحوار التربوي الذي جاء بين لقمان وابنه يعطي صورة واضحة كيف ان القصة تمثل دوراً كبيراً في تعليم المبادئ والقيم الأخلاقية ، وكيف أنها تحدد الضوابط للمستمع لهذا الحوار الرائع.
    فمن خلال هذا المشهد يمكننا أن نستخرج عدة نقاط منها :
    1 ـ أن توحيد الله هو المراد في هذه الدنيا وأن الشرك به ظلم عظيم.
    2 ـ دور الأم في تربية الطفل والحفاظ عليه وأنه لأجل ذلك يجب أن تشكر الله الذي سخر لك والدين يحبانك ، ويسعيان إلى خدمتك أيها الإنسان.
    3 ـ يحدد حدود الإطاعة للوالدين وذلك ما دام طاعتهم في طاعة الله. وأما خلاف ذلك فلا يجب إطاعتهم.
    4 ـ التعامل مع الآباء المشركين بالمصاحبة بالمعروف.
    5 ـ إعطاء صورة واضحة أن هذا العالم لا يوجد فيه شيء سدى ، ومن غير هدف وأن كل فعل يفعله الإنسان سيحاسب عليه يوم القيامة إن الله عليم بهذه الأمور.
    6 ـ الحث على إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والصبر على ما يصيب الإنسان جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن الثبات من الصفات الحسنة والأمور المحمودة.
    7 ـ عدم تصعير الخد للناس وجعل الإنسان نفسه مهاناً بأي وجه ولأي سبب. ولا يعني ذلك التكبر والتعالي على الناس بل لابد أن تتحلى بالتواضع.
    8 ـ كيفية السير متواضعاً وطريقة التعامل مع الناس في السلوكيات من المشي وغض البصر وخفض الصوت وغير ذلك.
    وهناك أمور كثيرة يمكن أن يستفيد منها الإنسان من خلال هذا الحوار القصير الذي فيه معان كثيرة ومطالب عظيمة يعجز توضيحها للطفل الصغير


(213)
ومن إدراكها. بل تستأنس نفسه عندما يسمع هذه المطالب بشكل قصة وحوار لا سيما أن هذا الأسلوب محبب لديه قريب من نفسه فيؤتي ثماره. وهذا الآيات السابقة هي من القسم الأول في التربية وهي تعليم الطفل المبادئ.
    أما القسم الثاني وهو تحذير الطفل من الانحراف والانجراف خلف التيار يمكن أن يكون فيما تضمنته قصة نبي الله يوسف عليه السلام ، وكيف أن هذه السورة الطويلة جاءت بتفاصيل وحكاية لطفل صغير منذ نعومة أظافره إلى أن تولى الحكومة ، وخلال هذه الأحداث يصور الله لنا المواقف التي مرت على نبي الله يوسف فتارة مع إخوته وأخرى كيف ألقي في الجب وطريقة العثور عليه. من ثم ينقل لنا كيف يجب أن يكون الفتى المسلم عفيفاً لا ينجرف وراء الشهوات والزلات وإن تعرض إلى السجن والمضايقات ، وما هي عاقبة من يصبر ويطيع الله في النهاية.
    بل إن الله سبحانه وتعالى استخدم أسلوب القصة بشكل واضح في كثير من مواضع القرآن الشريف ؛ فقد قال الله تعالى : « فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ». وفي آية أخرى قال تعالى : « لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب » صدق الله العلي العظيم.
    فإن القصص في حكم الله وعلم الله أنها للعبرة وللعضة والتفكير ، وكل هذه الأمور هي التي تبني شخصية الإنسان والكبير ، فإذا كانت القصص تؤثر على الكبير فتأثيرها على الطفل الصغير أشد وأسرع. ومن هنا وجب الاستفادة من هذا الفن في تثقيف الطفل بما يجب عليه أن يتعلمه من خلال القصة لكونه أقرب لنفسه وأحب لفؤاده.

    الزاوية الرابعة : القصة تنمي الإحساس الإبداعي عند الطفل.


(214)
    عندما تتلى أي قصة على أي طفل فان ذهنه يحلق بعيداً في عالم القصة ويقوم عقله برسم صور للأبطال وللأشخاص الموجودين في القصة ، وإلى الأماكن التي ذكرت والملابسات التي تحيطهم ، فكلما سمع شيئاً رسم له صورة في ذهنه. وهذه الطريقة تنمي عند الطفل حس الإبداع والخيال وتطوير ملكة الحس الإبداعي من خلال تركيب الصورة والمشاهد ، ولذلك يلاحظ على الطفل عندما يسمع القصة أنه يسأل عن أشياء وعن تفاصيل لم يلتفت إليها القاص وهذا يثبت ما ذهبنا إليه ، بل إن الحس الإبداعي عند الطفل قد ينشأ من نفس تركيبته فإن الطفل الصغير تراه ينشئ حوارات مع ألعابه ، وتراه يصور لنفسه قصة ويصدقها ويعيش مع أحداثها. ومن هنا قد يلاحظ بعض المربين أن الطفل الصغير يكذب أحياناً عندما يفعل خطأ ؛ فقد يقول : أن العصفورة هي التي كسرت الكأس مثلاً ، وهذا ليس كذباً منه بل هو تخيل أن العصفورة جاءت وكسرت الكأس ثم ذهبت وصدق هو ذلك فيقول حسب تصوراته. نعم ، عندما يدرس الأسلوب القصصي يلاحظ أن الطفل الصغير يحب القصص الخيالية ، والطفل الذي تجاوز عمره العاشرة يحب القصص المغامراتيه ، والمراهق يحب القصص العاطفية ، والكبير يحب القصص الواقعية والتاريخية وهكذا. وهذا يدل أيضاً على تركيبة العقل عند الطفل وكيف هي في بدايتها انها تعتمد على الحس الإبداعي والخيالي الذي يرسم صورة للعالم الخارجي وللمستقبل.
    فقد جاء في كتاب ( الطفل وعالمه النفسي ) عن ماهية أدب الطفل ما هذا نصه : « الأدب هو تجسيد فني تخيلي للحياة وللفكر وللوجدان. وإذا كان الأدب يستعين بالكلمة للتعبير ، فإن الفنون الأخرى تعتمد وسائل إضافية كالحركات والخطوط والألوان والمؤثرات والتشديد على الكلام.


(215)
    وأدب الأطفال يهدف إلى ربط الطفل بمختلف عناصر الثقافة المميزة لمحيطه ، وأيضاً بمختلف العناصر الإنسانية المشتركة بين الثقافات وذلك كخطوة على طريق المساعدة على تطوير قدراته المعرفيه ( تفكير ، ذكاء تعلم ، ذاكرة ... الخ » ص 127.

    الزاوية الخامسة : القصة تقرب بين المربي والطفل.
    عندما يقوم المربي ـ سواء كان الأم أو الأب ـ بحكاية القصص والحكايات لطفل ، ويجلس الطفل كتلميذ يستمع إلى القاص بكل إنصات واهتمام ، فإن هذه الحالة تولد شعوراً عظيماً للطفل اتجاه هذا المربي الذي يجلس مقابله بالحب والعطف ، وذلك لأنه يمثل له قدراً كبيراً من الاهتمام به وبعالمه. وهذا واضح بالوجدان حيث إننا نلاحظ الأطفال يحومون حول كل من يلقي إليهم بالقصص ويتهافتون حوله وإنه يمثل لهم شخصية محبوبة ، بل إن أسلوب حكاية القصص هو أقرب الأساليب إلى قلوب الأطفال والسيطرة عليهم. كما أن تجاذب الأحاديث بين الطفل والمربي يعطي صورة واضحة للمربي عن طريقة تفكير الطفل ومنها يستطيع أن يصحح أي خلل في فكره ، ويدعم أي فكرة تحتاج إلى تدعيم. وقد مر أن التصابي مع الصبي يفيد الطفل والمربي بما لا مزيد عليه فراجع هناك.

    الزاوية السادسة : كيف تحكى القصة للطفل ؟
    هناك عدة نقاط يجب أن تلاحظ وتراعى في طريقة إلقاء أي قصة لأي طفل وهي كالتالي :
    1 ـ لابد أن تكون القصة تحمل هدفاً تربوياً حتىتنمي فيه شيئاً ما.
    2 ـ أسلوب القصة وطريقة طرحها لابد أن يكون موافقاً لذهن الطفل حتى يستوعبها ويدرك فائدتها.


(216)
    3 ـ أن يسعى القاص في تطعيم القصة بالمسائل العلمية والأخلاقية والاجتماعية ؛ حتى يتعلم شيئاً جديداً ويكسب معارف لم يتعلمها من قبل.
    4 ـ لابد أن تجنب الطفل من سماع القصص السلبية التي فيها أثر الانهزام وتهبيط العزائم.
    لا تعط الطفل أي قصة مكتوبة أو مسموعة إلا بعد التحقق مما فيها من أفكار ؛ فقد تكون أفكار مسمومة أو منحرفة. لذا يجب على المربين من التحقق من كل أمر يصل إلى الأطفال ليعرف أثره عليهم قبل أن يؤثر بهم سلباً.
    5 ـ عندما تحكى للطفل اي قصة يجب أن يكون ابطالها رموزاً حقيقيين حتى يقلدهم الطفل ويحتذي بهم ، أو أن يكونوا قريبين من الحقيقيين حتى يتفاعل معهم.
    6 ـ في طريقة حكاية القصة للطفل يجب أن يركز القاص على الأفكار المهمة من خلال إعادة الجمل وتكرارها حتى ترسخ في ذهن الطفل. كما يلزم الاستفادة من الحركات ونبرات الصوت لتعميق هذا المعنى.


(217)
    الأسلوب الثاني : التنظيم العمليات العقلية
    إن الجواب عن سؤال يحير الكثير قد يكون هو مفتاح السر الذي نطلبه في هذا البحث. والسؤال هو : ما هو سر اختلاف تصرفات البشر ؟ لماذا نحب هذا ونكره ذاك ؟ لماذا نقدم على فعل معين في وقت ونفس هذا الفعل لا نقبله في وقت آخر ؟ لماذا نجد البعض يقدم على مخاطرة تعرض روحه للخطر في حين نجد أن شخصاً لا يقدم على أمر لا خطر فيه ، بل يعتريه الخوف ؟
    وأسئلة كثيرة تقف أمامنا فالبشر هم البشر والناس هم الناس. إذاً لماذا هذا الاختلاف ؟
    وفي الجواب عن ذلك نقول :
    إن تفاعل الإنسان مع أي أمر راجع إلى طريقة تفكيره وتحليله لهذا الأمر الذي يواجهه ، وهذا راجع إلى المعلومات التي اختزنها في عقله وتحولت جزءاً منه فيكون فعله أثراً لهذا الاتحاد ، وكما ذهب الفلاسفة والعلماء إلى أن المعلوم يتحد مع العالم بحيث يصير وجوداً واحداً في مرتبة من المراتب الوجودية. وإذا أردنا أن نتحكم في شخصية أي إنسان فإننا في المقام الأول يجب أن نتحكم في المركز المحرك له الذي من خلاله يصدر الأوامر إلى بقية الجسد ، فيستجيب الجسد لهذه الأوامر ألا وهو العقل. ونحن نحاول أن نبين كيف يمكن أن نتصرف في عقل أي إنسان بحيث نوجهه حيث يجب. وعندما نلاحظ الإنسان فإننا يمكن أن نشاهده بحالتين :
    الحالة الأولى : كون العقل في أول نشوئه.


(218)
    الحالة الثانية : يكون العقل قد اختزن بعض المعلومات. وهذه الحالة يمكن أن نلاحظها بلحاظين : أن تكون المعلومات التي اختزنها الإنسان معلومات نافعة مفيدة ، أو أن تكون معلومات غير صحيحة.
    أما الحديث عن اللحاظ الأول : وهو كون العقل في بداية نشوئه ، هناك نظريات كثيرة تتحدث عن كيفية حصول المعلوم لدى العالم هل هي بنوع الإشراق أم الإضافة أم غير ذلك وليس هذا بحثنا. ولكن الحق أن الإنسان أول ما يولد يكون في حالة الجهل المطلق وهو خالي من كل معلوم ، وصفحة ذهنه صافية ، ولذلك قال الله تعالى : « والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون » (1).
    وهذا يعني أنه متى توجه إلى الطفل الصغير بالشكل المطلوب واعتنى به بالكيفية اللازمة كانت حياة هذا الطفل بأفضل صورة وأحسن حال ، لا سيما إذا اعتنى بالمعلومات التي يجب أن يتعلمها وأن يعرفها ؛ فإن كانت تلك المعلومات لها آثار إشراقية فإن نفس العالم سيكون مشرقاً بها متكاملاً نحو الكمال المطلوب منه. ومن هنا نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يقول : « كل مولود يولد على الفطرة وأما أبواه يهودانه أو ينصرانه .. ».
    وفي رواية أخرى عن الصادق عليه السلام قال : « بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة ».
    وفي رواية أخرى قال الامام علي عليه السلام : « علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به ، لا تغلب عليهم المرجئة برأيها ».
1 ـ النحل : 78.

(219)
    من هذا يظهر أن الاهتمام بتركيب الفكر وتغذية العقل بالمعلومات الصحيحة هو من أهم الأمور التي يجب على المربين الاعتناء بها ؛ وذلك لأن العقل بطبيعته يستفيد من كل أمر يشاهده ويسمعه ؛ فإن لم يعي الحق سيكون مكانه الباطل وعندها ستختلف طريقة التفكير وطريقة التفاعل في الواقع الخارجي ، ومنها شدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطبيين الطاهرين في الحفاظ على ذهنية الطفل من التلوث بأي فكر مسموم فإنه يلوث نفس وجود الطفل ووجود الإنسان نفسه.
    ومن الواضح أنه كلما كان الطفل صغيراً لم يتلوث بعد بأي صورة من التلوث سواء كانت فكرية أم غيرها ؛ فإن التعامل معه يكون أسهل وبرمجته تكون بسيطة جداً.
    أما اللحاظ الثاني : وهو فيما إذا اختزن العقل بعض المعلومات سواء كانت إيجابية أم سلبية فإن التعامل معه يكون أصعب من الصورة الأولى. وذلك لأنه فيها خال من كل شيء كما تقدم فتعليمه أسهل. أما في الصورة الثانية فإن التغير يكون فيها معقداً ، بل قد تتحول تلك المعتقدات والمعلومات إلى جزء منه كما قلنا بأن المعلوم يتحد مع العالم ومع ذلك يصعب بل يستحيل التغير في مثل هذه المرحلة ؛ لأن التغير في هذه المرحلة يحتاج إلى أمرين :
    الأمر الأول : إزالة الفكر السابق والمعبر عنه بالرواسب الفكرية ..
    الأمر الثاني : إضافة الفكر الجديد أو كما يقال في العلوم الحديثة إعادة تأهيل من جديد.
    وهذه العملية تحتاج إلى مجهود وقدرة كبيرة حتى تؤتي ثمارها وأهدافها ؛ لأنه يلزمنا في البدء معرفة أين يقع الخطأ في فكر الطفل أو الإنسان المقابل


(220)
هذا أولا ، وثانياً نحتاج إلى معرفة الأمور التي يجب أن يتعلمها وسيتبدلها بما هو أفضل وأكمل لوجوده. وهذان الأمران يحتاجان إلى خبير في علم التربية يقوم بالتشخيص ووضع العلاج. والذي قد يساعدنا في عملية التغير هو علمنا كيف يفكر العقل وكيف ترتبط المعلومات مع بعضها ، فمتى عرفنا ذلك صح لنا أن نغير أي سلوك نريده في أي إنسان.

    كيف يعمل العقل ؟
    الطريقة التي يعمل بها العقل هي من أعقد العمليات التي يعجز الإنسان أن يدركها بحقيقتها وكمالها ، وذلك لأن الإنسان لم يحط بحقيقة العقل لأنه يعقل به وإن عقل ذاته ، ولكن لا كنهه وحقيقته.
    ولكن يمكن أن نقدم مقدمات تساعد على فهم عملية العقل بشكل مبسط ومختصر. وهي كالتالي :
    النقطة الأولى : العقل هو وجود مجرد يدرك الكليات. أما الدماغ الذي في رأس الإنسان ليس هو العقل. بل هو جهاز يمكنه من خلاله التعامل مع العقل ؛ فإن حقيقة الإبصار ليست بالعين بل العين هو وسيلة من وسائل الإبصار وليست هي الإبصار ، وكذلك العقل فإنه مجرد له تنزل في عالم المادة وارتباط بالجسد من خلال هذا الدماغ الظاهري. وإن العمليات التي يرسلها الدماغ من إشارات وعمليات عصبية ما هي إلا ارتباط بينها وبين العقل المجرد. وإلا كيف يمكن لرأس الصغير أن يحوي كل هذه المعلومات والصور التي لا نهاية لها ؟
    النقطة الثانية : أن العقل في عملية التعامل مع الأمور الظاهرية يرسل إشارات تشير إلى المقصود وإلى المراد. هذه الإشارات هي العملية العقلية ،


(221)
فمتى كانت هذه الإشارات صحيحة كانت النتيجة صحيحة. ولذلك قد يحدث للإنسان في بعض الأحيان أن لا يعرف ما يريد أو يحس بتضارب في الأفكار ، وذلك لأن الإشارات الذهنية لم تكن واضحة للعقل حتى يصدر أمراً واضحاً يفيد الإنسان في التعامل مع أي مسألة من المسائل التي يعيشها.
    النقطة الثالثة : يمكن أن يفسر عمل العقل بربطه بين الأمور الموجودة المختزنة عنده في ساحة لا نهاية ، وهذا الربط يصور صورة أخرى تفيد المستعلم. وبعبارة أخرى نقول : إن الإنسان عندما يطلب أمراً مجهولاً عنه فإنه يستعين بالعقل لكي يرفع حيرته ، والعقل يقوم بربط هذا الشيء المعطى إليه بما يوافقه في تركيبته أو شكله أو ما يلائمه ، وبذلك يرفع الحيرة عند الإنسان عندما تعطى له صورة واضحة. ومنها تعرف ما يقال إن نصف الجواب حسن السؤال. أي ان أعطي سؤال صحيح عن معنى معين بدقة فإنه يساعد العقل لينتقل إلى المعلومات الموجودة عنده إلى ما يلائمها فيعطيك النتيجة المطلوبة.
    النقطة الرابعة : أن الربط الحاصل في العمليات العقلية له أساس وأساسه التكرار المتكرر من إيراد الصورتين متعاقبتين بحيث يتعقلهما العقل معاً من شدة الارتباط الناشئ بينهما من كثرة الاستعمال بحيث يكون وجود أحدهما وجود الآخر عند العقل. وهذه النظرية هي التي اعتمدها الشهيد الصدر في عملية الوضع بين المعاني والألفاظ مستفيداً مما أثبته العالم السوفيتي بافلوف في تجربته على بعض الحيوانات من ملاحظة سيلان اللعاب بسبب إعطاء الطعام ، ثم جعل إعطاء الطعام تابع لضرب الجرس أو النور الموجه للكلاب فوجد أنه متى ضرب الجرس يسيل اللعاب حتى لو لم يعط الطعام ، وما كان ذلك إلا بسبب الارتباط الناشئ من جري تكرر العملية مرات متعددة حتى ألفت القوة المتخيلة عندها ذلك وصار ثبوتاً لها. وكذلك الإنسان فإن


(222)
الارتباط في العقل بين الأشياء يكون من جراء الاقتران بينها ، وبتعبير الشهيد الصدر في بحثه ( القرن الأكيد ) ، حيث يحصل علاقة راسخة بين وجود شيء وآخر ، ويكونان وجوداً واحداً.
    خلاصة نظرية بافلوف :
    لاشك أن نظرية بافلوف وتفسيرها لكيفية عمل العقل وكيف يتفاعل مع الانعكاسات الشرطية التي توجه للحيوان والتي تطبق أيضاً على الإنسان له أثر كبير على الأبحاث ، ولذلك لا بأس بذكر ملخص لهذه النظرية على شكل نقاط ، فقد ذكر صلاح نصر في كتابه ( الحرب النفسية ) ج 2 ، ص 44 تلخيص النظرية :
    « 1 ـ عند حدوث توترات معينة أو صدمات فإن الكلاب تستجيب تماماً مثل الإنسان تبعاً لاختلاف أمزجتها المختلفة الموروثة التي سبق أن أشرنا إليها.
    2 ـ لا تتوقف ردود فعل الإنسان والكلب للتوترات العادية على كيانه الموروث فقط ، بل كذلك على المؤثرات البيئية التي يتعرض لها ، وهذه المؤثرات تغير تفاصيل سلوكه فقط ولكن لا تغير النمط العصبية السيطرة عليها.
    3 ـ تنهار الكلاب كالآدميين وذلك حينما تصبح التوترات أو الصدمات أكثر مما ينبغي أو بدرجة لا تستطيع اجهزتها العصبية السيطرة عليه.
    4 ـ يختلف مقدار التوتر الذي يستطيع الإنسان أو الحيوان السيطرة عليه دون أن يصاب بالإنهيار بإختلاف حالته البدنية ، كما يمكن تقليل المقاومة بوسائل أخرى مثل : الإجهاد والحمي والمخدرات والتغير في وظائف الغدد.
    5 ـ عندما يستثار الجهاز العصبي استشارة شاملة ، ويحدث له توقف كامل كعامل وقائي ، فإننا نستطيع أن نميز ثلاث مراحل مختلفة من التغيرات في السلوك وهذه المرحلة هي :


(223)
    أ ـ المرحلة ( المتعادلة ) حيث يعطي فيها المخ نفس الاستجابات لكل من المثيرات القوية والضعيفة.
    بـ ـ مرحلة التناقض وهي التي يستجيب فيها المخ للمثير الضعيف بشكل أكبر إيجابية من المثير المقوي.
    ج ـ مرحلة التناقض الشديد ، وهي تتحول فيها ردود الفعل الشرطية والأنماط السلوكية من الموجب إلى السالب وبالعكس ».
    ولا شك أن لكل نقطة من هذه النقاط أثراً في عملية التحليلات العقلية التي يجريها الإنسان أو الحيوان من خلال المؤثرات الخارجة التي تؤثر عليه سلباً أو إيجابياً.
    المقدمة الخامسة : أن العقل يصدر أمراً للجسد بأن يقوم بفعل ما إذا كان مشتاقاً له يرى فيه كمالاً ومنفعة له من خلال الصورة التي تحضر أمامه ، كأن يعطش الإنسان فيشتاق إلى الماء وذلك لأن حقيقة العطش عنده تقابلها حقيقة الارتواء ، وعندما يحضر معنى الارتواء يأتي منشؤه وهو الماء المحقق لوجوده فيشتاق إليه ، ويبعث الجسد نحو طلب الماء وتحقيق مقدماته أو ينفر من فعل يرى فيه صورة سيئة ووجوداً ضاراً له كأن يعلم أن هذا الماء فيه سم قاتل فينفر من شربه ولو كان عطشاناً ؛ لأن الماء موجب لهلاك النفس لأن فيه سماً وإن كان يحتاج إليه. وهكذا طريقة تعامل العقل مع كل الأمور.

    الفرق بين الادراك والدوافع :
    إن تصرف الإنسان نحو أي أمر تابع إلى أمرين مهمين أحدهما الدافع لهذا الأمر والإدراك له ، ولعل عدم وضوح معنى الدوافع الحقيقة للأمور والإدراك جعل كثير من علماء النفس والاجتماع لا يميز بينهما ؛ فهذا لورين


(224)
كورت أحد علماء النفس والاجتماع عندما يواجه سؤالاً مثل : هل السلوك الناتج عن دافع يرجع إلى الصفات الموجودة في الميدان النفسي المباشر أم إلى تأثير التجربة الماضية ؟
    فإنه يجيب على ذلك بقوله : إن الميدان النفسي يتكون من البيئة الطبيعة الخارجية ، والحالة النفسية الداخلية ، وكذا الآثار العصبية للتجارب الماضية ، وبالرغم من أن الإنسان هو سيد مصيره وقدره في بعض الاحيان ، فإن ضغط العصور يقع عليه في أحيان أخرى.
    ومراده من الميدان النفسي هو الدافع المحرك الذي يعبر عنه بالحالة الداخلية للإنسان والآثار العصبية للتجارب الماضية هو عبارة عن الإدراك وتصورها. وعند التامل الحقيقي في المسألة نجد أن الدافع شيء والإدراك شيء آخر ؛ فالدافع هو الرغبة الحقيقة في حب الكمال والبقاء وعشق الذات لنفسها ، وأما الإدراك فهو ذلك الموضح لنفس كمالها الذي تنشده وترغب فيه. ومن هنا نستطيع أن نتحكم في أي سلوك من خلال هذين الأمرين :
    الأمر الأول : وهو الاعتماد على حب الإنسان لبقائه فكلما استطعنا أن نصور له ما يحقق بقاءه ندفع الإنسان نحو الأمر الذي نريده.
    والأمر الثاني : وهو التحكم في نفس المدرك والإدراكات من خلال التجارب والتعليم وغير ذلك مما يعطي العقل الصورة الكمالية للإنسان نفسه فتسع نفسه لها. وبعبارة أخرى أن المدركات أو الإدراك وتشخيص العقل لها يوجه الدافع نحو الكمال الذي ينشده ويرغبه في تحقيق البقاء ؛ فيكون العقل هو المحدد للكمال والدافع هو المحرك لتحقيق الكمال. فمتى تحكمنا في هذين الأمرين استطعنا أن نغير فكر أي إنسان وخصوصاً الطفل الصغير ففهم.


(225)
    ومن هنا قال صلاح نصر ـ في كتابه ( الحرب النفسية ) ج 1 ، ص 30 ـ : « إن دراسة الإدراك أمر على جانب كبير من الأهمية لعلم النفس الاجتماعي ؛ لأن اتجاهات الناس يمكن أن تتغير. ومن المهام الرئيسية لعالم النفس الاجتماعي أن يحاول ـ على الأقل ـ إحداث مثل هذه التغييرات. ولكن لكي نغير اتجاهاً ما يجب علينا أولاً وقبل كل شيء أن نغير مفهوم الأشياء التي يبنى عليها هذا الاتجاه. وتغير الاتجاه يعني أيضاً تنظيم الإدراك ».

    استحكام الفعل وعدمه :
    إن الفعل الصادر من الإنسان يلاحظ بعدة لحاظات ، وهي كالتالي :
    1 ـ أن يكون الفعل الصادر من الإنسان على نحو الاستحكام والتمكن من الفعل من غير تكلف ولا عناء ، بل هي سجية تصدر منه الفعل كالكلام الصادر من الإنسان الكبير ؛ فإن كلامه يكون سجية له وملكة وكذا الأفعال الأخرى فإن كانت صادرة عنه بمثل صدور الكلام عنه يكون ملكة عنده. وتغير هذه الملكة والعادة ليس بمستحيل ، بل من الأمور الصعبة التي تحتاج إلى مجاهدة وعزم ومراقبة حتى يقلع الإنسان عن فعل معين أو يعمل فعلاً معيناً بنحو السجية.
    2 ـ أن يكون الفعل الصادر من الإنسان على نحو الاستحكام ولكن لم يصل إلى مرحلة الملكة ، ولم تصل إلى أن تغرس جذورها في الإنسان فإن تغيرها يكون بقدر استحكامها وقربها من الملكة ، وتحتاج إلى مجاهدة ومثابرة ولكن بنحو أخف مما سبق ، وهكذا بقية المراتب بقربها من المرحلة الأولى.
    3 ـ أن يكون الفعل الصادر من الإنسان على نحو التكلف والتفعل لا على نحو السجية ، وهذا تغيره من أسهل الأمور ولكن يحتاج إلى توجه وإرادة في
عبقـرية مبكـرة لأطفالنا ::: فهرس