(61)
المسألة الرابعة
     في تزيين الشاهد بالذهب والفضة والحلي والحلل ، وايقاد السراج فيها وتظيلها ، فالوهابي حرم كل ذلك واحتج عليه : تارة باللغو والعبث وأنها مما لا ينتفع به الميت ، وأخرى بما عن الشافعي من أن عمر رأى قبة على قبر ميت فنحاها وقال : دعوة يظله عمله ، وثالثة بحديث ابن عباس : « لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ».
     حجة الإمامية القائلين بالجواز :
     ( أولا ) أصالة الإباحة الدال عليها قوله تعالى : ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) ، وقد أسمعناكها مفصلا في المقدمة الأولى.
     ( وثانياً ) مقايسة زينة المشاهد ومعلقانها وحليها وحللها بزينة الكعبة وحللها وكسوتها ، فإن الجهة واحدة والإسراف واللغوية وعدم الاستفادة بها علة مشتركة. والحال أن سيرة الخلفاء الراشدين على تعظيم الكعبة بذلك ، بل وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ـ كما تشهد لها التواريخ بل وكتب الحديث.
     قال ابن خلدون في مقدمته : وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظم البيت وتبعث إليه الملوك بالأموال والذخائر كسرى وغيره. وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروقة ، وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعون ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة


(62)
مرتين بمائتى قنطار وزنا وقال له علي بن أبي طالب : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو استغت بهذا المال على حربك فلم يفعل ، ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه .. إلى أن قال أبو وائل : جلست إلى شيبة قال : جلس إلى عمر بن الخطاب فقال : همت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين. قلت : ما أنت بفاعل. قال : لم يفعله صاحبك فقال : هما اللذان يقتدى بهما.
     قال ابن خلدون : وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس ، فإنه أخرج الأموال وقسمها على عساكره.
     وأقول : ومن بعد الأفطس كان الأمر على ما كان عليه زمن الخلفاء ، فتهدى للبيت ولحرم رسول الله الأموال والذخائر إلى أن قامت فتنة الوهابية في المدينة ومكة المشرفة ، فأباحوا ما في الحرمين الشريفين إعراضاً منهم عن سيرة النبي صلى عليه وآله وسلم وسير أصحابه التابعين له بإحسان.
     وفي البخاري في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى : ( واجعلنا للمقتين إماما ) قال : أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا.
كراهية التظليل
     ( وثالثاً ) إن ما نقل عن عمر غايته كراهية التظليل دون الحرمة ، كيف وقبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر تحت السقف بمرأي ومتظر من المسلمين والصحابة والتابعين إلى يومنا هذا.
     مضافاً ، إلى ما في البخاري والعقد الفريد من أنه لما مات الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت… ومعلوم أن القبة تظل القبر


(63)
ولأجل ذلك يصح المصير إلى أن الكراهة ربما ترتفع ببعض المصالح العامة ، مثل حفظ الزائر والقارئ للقرآن عند القبر عن الحر والبرد ، وهي مصلحة راجحة إلى المسلمين وإن لم ينتفع بها الميت.
     ( ورابعاً ) أن رواية ابن عباس ـ لو صحت ـ لخالفتها السنة وعمل المسلمين فإن الإسراج عند قبر النبي صلى صلى الله عليه وآله وسلم عليه المسلمون من زمن الخلفاء إلى يومنا هذا.
     ( وخامسهاً ) أن كون الإسراج لغواً وعبثاً يدفعة انتفاع المؤمنين بالضياء من الزائرين ، سيما القادمين من مكان بعيد ، البائتين في نواحي القبر ، وكذلك ينتفع به القارئ للقرآن في تلك المشاهد ، فلا يكون أسرافاً كما توهم.


(64)
المسألة الخامسة
في زيادة قبور الأئمة عليهم السلام
     قالت الوهابية : لا يجوز زيارة قبور الأئمة ولا شد الرحال من الأماكن البعيدة لأجل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنها من الشرك وعبادة لغير الله تعالى.
     قال ابن تيمية في : 1/131 من كتاب منهاج السنة : قد علم من ضرورة دين الإسلام أن النبي لم يأمر بما ذكروه ـ يعني الإمامية ـ من أمر المشاهد ، ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين بل هذا من دين المشركين الذين قال الله تعالى فيهم : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) .
     قال ابن عباس : هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح ، لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، فطال عليهم الأمد ، فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم.. إلى آخر كلامه.
     وقال أيضاً في جملة كلام له على الإمامية : إنهم يعظمون المشاهد المبنية على القبور ، فيعكفون عليها مشابهة للمشركين ، ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق ، ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج إلى الكعبة ، بل يسبون من لا يستغني بالحج الذي فرضه الله تعالى على عباده ، وهذا من جنس دين النصارى والمشركين الذين يفضلون عبادة الأوثان على عبادة الرحمن. وقد صنف شيخهم المفيد كتاباً سماه مناسك المشاهد ، جعل


(65)
قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس ـ انتهى.
     واجتج من قال بتحريم شد الرحال إلى زيارة قبر النبي ـ كابن الألوسي ـ بما في البخاري من حديث « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » ـ انتهى.
     واحتج ابن عبد الوهاب في جملة كلماته في كشف الشبهات على تحريم مطلق ما عليه الإمامية من تعظيم قبور الأنبياء والأولياء وإكرامها والالتزام بها وبآدابها ـ من الزيارة والدعاء والتوسل وطلب الشفاعة : بأن هذه من جعل الإلهة. قال : ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل إسلامهم وعلمه بصلاحهم أنهم : ( قالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) وقول أناس من الصحابة : اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط ، فحلف أن هذا مثل قول بني إسرائيل أن اجعل لنا إلها ـ انتهى.
     أقول : الكلام في هذه المسألة يتم في ضمن مباحث :
المبحث الأول
تجويز الامامية زيارة القبور

     إن الإمامية على جواز زيارة قبور المؤمنين ، وأنها مستحبة شرعا ، فضلا عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لتواتر الأحاديث الصحيحة الصريحة في استحبابها مضافاً إلى عمل المسلمين قاطبة من زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا هذا ، فضلا عن عمل النبي في زيارته شهداء أحد وحضوره صلى الله عليه وآله وسلم لزيارة البقيع :


(66)
     وفي سنن النسائي وابن ماجه وإحياء العلوم للغزالي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ».
     وفيها عن ابن أبي مليكة عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في زيارة القبور.
     وفيها أيضاً عن أبي هريرة قال : زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة.
     وفيها أيضاً عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : نهيتكم عن زيارة القبور ، فمن أراد أن يزور فليزر ، فإنها تذكركم الآخرة ولا تقولوا هجراً.
     وفي الإحياء عن ابن أبي مليكة قال : أقبلت عائشة يوماً من المقابر فقلت : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عنها ؟ قالت : نعم ثم أمر بها.
     وفي الصحاح والسنن الأحاديث الواردة عن صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية زيارة الأموات ، وأن الزائر متى خرج إلى البقيع يقول : السلام على أهل الديار من المؤمنين.
     هذه في فضل زيارة الصلحاء ، ويكفيك من الأحاديث المعتبرة في فضل زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه البيهقي والغزالي وغيرهم من أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « من زارني وجبت له شفاعتي » وهذه شفاعة اختصر بها الزائر غير شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم العامة للمؤمنين.


(67)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة.
     وعن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « من حج ولم يزرني فقد جفاني ».
     وعن أبي هريرة مرفوعاً عن النبي قال : من زارني بعد موتي فكأنما زارني حياً.
     وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال « من جح وقصدني في مسجدني كانت له حجتان مبرورتان »… إلى غير ذلك من الأحاديث المتكاثرة البالغة حد التواتر.
     قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته : والذي نعتقده أن رتبة نبينا على مراتب المخلوقين ، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل ، إذ هو أفضل منهم ، وأنه يسمح سلام المسلم عليه ، وتسن زيارته إلا أنه يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه.
جواز زيارة النبي حيا وميتاً
     أقول : ( أولا ) أنه جازت زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه حياً في قبره جزت زيارة أهل بيته وأصحابه لهذه الجهة ، فلا وجه لتخصيصه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزيارة دون غيره من الأنبياء والصلحاء ، كما أنه لا وجه لتخصيص النبي بالزيارة من بين التوسل والاشتشفاع والاستغاثة ، فانه إذا اثبت حياته المستقرة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم يسمع نداء من يناديه تابعتها آثارها كما لا مخفى.


(68)
     و( ثانياً ) أنه لا وجه لمنع الشيخ شد الرحال إلى زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير رواية البخاري ، وهي مردودة من وجوه :
     أولها : إعراض المسلمين عنها لو كانت لها دلالة ، لاستمرار سيرتهم على شد الرحال من الأماكن البعيدة إلى زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، كما كان يشد إليه الرحال على حياته ، فلقياس أحد الحالتين على الأخرى مدرك واضح ، سيما بالنظر إلى قوله : « من زراني بعد موتي فكأنما زراني حياً ».
     وثانيها : مخالفتها للنصوص المذكورة الصحيحة المعتضدة بعمل الأصحاب الصريحة في جواز شد الرحال إلى زيارة قبر النبي وقبور أصحابه وأهل بيته من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من حج ولم يزرني فقد جفاني » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من حج وقصدني في مسجدي كانت له جتان » ولم يقل صلّى الله عليه وآله وقصد مسجدي كما قاله الشيخ.
     وثالثها : إن المستثنى منه الحديث؛ إما خصوص المساجد أو عموم الأسفار. فعلى الأول : المعنى لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد.
     كما صرح بالمستثنى منه الشيخ سليمان النجدي في الهدية السنية فائلا : وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا تشد الرحال إلى مسجد إلا لثلاثة مساجد : المساجد الحرام والمسجد الأقصى ، ومسدي هذا ».


(69)
     وعليه لا يعم الحديث المشهد ، كما لا يعم سائر الأسفار ، ولم يقل بعمومه لها أحد وهذا نظير مالو قال الموالي لعبدهلا » تمض إلا إلى ثلاثة أطباء فلان وفلان وفلان » وسماهم بأسمائهم ، فإنه لا يفهم منه في أي محاورة وأي لسان حرمة المضى إلى غير الاطباء العلماء والزهاد.
     ( وعلى الثاني ) يلزم النهي عن مطلق شد الرحال إلى الأسفار المباحة ، ولم يقل به أحد مع أنه يلزم تخصيص الأكثر الذي لا يصح حمل الكلام عليه.
المبحث الثاني
تعظيم قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة ليس بشرك

     في نقل البحث مع ابن عبد الوهاب وأتباعه من الوهابية فنقول :
     إن قولهم : « تعظيم قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأئمة بزيارتها والارتحال إليها شوقاً وحباً شرك ، وجعل للإله نظير الطلب من موسى مع إيمانهم بالله أن يجعل لهم إلهاً » ، الجواب عنه :
     أولا : المنع عن أنهم طلبوا من موسى إلهاً شفيعاً يتقربون به إلى الله وإنما طلبوا منه إلهاً مدبراً ، ولذا لما أضلهم السامري وأخرج لهم عجلا جسداً له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى فنسى ، كفروا واعتقدوا أن العجل هو خالقهم ومدبرهم حيث أن له خواراً.
     ويفصح عن ذلك قوله : « هذا إلهكم وإله موسى » ما كان لموسى إلهاً شفيعاً غير إلهه الخالق المدبر.
     وقال المفسرون : المعنى قال السامري إن هذا إلهكم وإله موسى ، وأن


(70)
موسى نسى ربه هنا وذهب يطلبه في موضع آخر ، والقوم إما كانوا في غاية البلادة والجلافة حيث اعتقدوا أن العجل المعمول هو إله السماء والأرض ، أو كان اعتقادهم في العجل اعتقاد الحلولية ، وعلى التقديرين لا وجه لإنكار ابن عبد الوهاب أن القوم أرادوا من موسى إلهاً خالقاً مدبراً.
     ثانياً : إنا لو سلمنا كون القوم على إيمانهم حين ما طلبوا من موسى ذات أنواط ، لكن الكفر والشرك ليس في طلبها ، ولذا لم يكفرهم موسى بل قال لهم : ( إنكم قوم تجهلون ) وإنما الكفر والشرك يكون في عبادتها.
     ومعلوم أن عبادة غير الله توجب الكفر والشرك ، ولكني أين هذا ممن لا يعبد الشفيع في توسله به والاستشفاع منه ؟؟
     وتوهم أن ذلك عبادة لغير الله ، مدفوع بخروجه عن الفهم المستقيم ، كما نبهناكم عليه … بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
     وثالثاً : إن جعل الشفيع والوسيلة إلى الله تعالى إذا كان من عند الله تعالى لا يضر بالإيمان الخالص بالله ، ألا ترى أن الأنبياء سفراء ووسائط بين الخلق والخالق ، يتوسل الناس بهم ويشد الرحال إليهم عليهم السلام شوقاً وحباً وتبركا بهم ، وقضاء للحاجة من الله تعالى بواسطتهم ، ولا يكون ذلك من جعل الآلهة ؟؟
     ومثل ذلك شد الرحال إليهم عليهم السلام بعد وفاتهم لغرض الحاجة والدعاء والمسألة ، أنهم يسمعون نداء من يناديهم واستغاثة من يستغيث بهم.