(71)
المبحث الثالث
أدلة الوهابية على حرمة الزيارة

     في المبحث مع ابن تيمية فنقول إنه استدل منهاج السنة على حرمة الزيارة بحديث ابن عباس : « لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور ».
     والجواب عنه :
     أولا : أنه خبر واحد ظني لا يقاوم الأخبار المتواترة المفيدة للقطع ، فلا ترفع اليد عن القطع بالظن.
     وثانياً : أن اللعن قبل النسخ. كما تدل عليه رواية ابن أبي مليكة عن عائشة حين أقبلت من المقابر وفيه. قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ؟ قالت : نعم ثم أمر بها. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : نهيتكم من زيارة القبور ، فمن أراد أن يزور فليزر.
     قال محمد بن عبد الهادي في حاشية النسائي في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم « نهيتكم » الخ : جميع بين الناسخ والمنسوخ والنهي والأذن.
     وثالثاً : النهي متوجه إلى النساء ، لحرمة خروجهن من بيوتهن بغير الإذن ، أو لما في الخروج من لزوم الفساد.
     قال ابن تيمية : الشيعة يعظمون المشاهد مشابهة للمشركين.
     ويرده : إن الشيعة وسائر المسلمين يعظمون قبر النبي صلى الله عليه وأله وسلم وقبور الأئمة تعظيما للدين ولكونها شعائر الله ، ومن الحرمات التي أوجب سبحانه إحترامها وحرم على الأمة هتكها.


(72)
     وحسبك لوجوب تعظيم قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حكاه الغزالي ـ الذي هو من أئمة الشافعية ـ عن كعب الأحبار : أنه مامن فجر يطلع إلا ونزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا منل ذلك وحتى إذا انشقت الأرض في سبعين ألفاً من الملائكة يوقرونه ـ الحديث.
     ومثل قبر النبي في كونه مهبط الرحمة قبور أهل بيته وأصحابه المنتجبين ، فلا يترك زيارتهم تبركاً بقبورهم وحباً وشوقاً إليهم ، كما كان الناس يحبونهم ويشتاقون إلى زيارتهم حال حياتهم. وليست الزيارة عبادة للمزور ، وإلا لما جازت شرعأ زيارة المؤمن حياً مع أنها جائزة وراجحة إجماعا.
طعن ابن تيمية على الشيعة والرد عليه
     وأما قول ابن تيمية : « النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد » فالجواب عنه : أنه قول بلا دليل مع أن لنا الدليل من أمر النبي بزيارة قبره وقبور سائر المؤمنين ، ولولا أمره لما كان المسلمون يزدلفون إلى زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلونه شعاراً لهم ويحجون إليه في كل عام كما يحجون إلى بيت الله الحرام ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من حج وزار قبري كان كمن زارني ».
     وفي إحياء العلوم في باب زيارة النبي قال نافع : كان ابن عمر ـ رأيته مائة مرة أو أكثر ـ يجئ إلى القبر فيقول : « السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على أبي ».
     وهذا هو العكوف على قبر الذي أنكرته الوهابية على المسلمين وادعت أنه الشرك.


(73)
     وتندفع بأن الشرك إنما هو مع عدم مشروعية الزيارة ، وإلا فمع المشروعية والأمر من الشارع لا تكون الزيارة عبادة لغير الله ، ألا ترى أن إطاعة أئمة الدين لا يكون خروجا من الدين ، حيث أنه بأمر من رب العالمين ؟؟ ومن هنا نقول : إن سجدة الملائكة لآدم عليه السلام ما كانت شركا ، ولا الأمر بها إشراكاً.
     وأما قول ابن تيمية على كل من يجوز الزيارة من فرق المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والأولياء.
     فالجواب عنه إن المسلمين لا يؤدون منسكاً خاصاً عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور أهل بيته وأصحابه إلا ما هو الوارد شرعاً ، وفي عدة من السنن :
في سنن الزيارة
     أحدهما : الصلاة والسلام المصرح بهما الشرع كتاباً وسنة : ( فمن الكتاب ) قوله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ، وقوله تعالى : ( وسلام على آل يس ) الشامل لحيهم وميتهم ومثله قوله سبحانه : « وسلام على المرسلين ».
     وأصرح من الجميع قوله سبحانه ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ) وقوله تعالى : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ) .
     ( ومن السنة ) ما هو الواجب شرعاً في الصلاة من أول : « السلام


(74)
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » ومنه يعلم جواز السلام على غير النبي من المؤمنين وأئمة الدين من بعيد وقريب ، كل ذلك مضافاً إلى ماورد في زيارة النبي صلى الله عليه وآله وزيارة قبور المؤمنين.
     وثانيها : التمسح يالضرائح المقدسة وتقبيلها والتبرك بها ، فالإمامية حكموا بجوارها ، والوهابية صاورا إلى المنع عنها ، معللا بأنها عادات المشركين.
     والجواب عنها :
     أولا : إن المتبع في أمثال ذلك ـ مما لم يرد عنه نهى من الشارع ـ أصالة الإباحة في الأفعال والأقوال ، حسبما عرفت في المقدمة.
     وثانياً ـ إن مجرد كون فعل من عادة جماعة من أهل الضلال لا توجب صيرورته حراما ، كما عليه الإجماع الذي في كلام ابن تيمية في منهاج السنة قائلا : إن الذي عليه أئمة المسلمين أن ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع ، وأصل الأئمة كلهم يوافقون هذا ـ انتهى.
     وثالثاً : إن المسح لا يكون من الأفعال العبادية المتمحضة في العبادة حتى يكون محرما عند عدم الوظيفة الشرعية ، وإنما هو من الأفعال العادية والحركات البدنية التي لا يتوقف الإتيان بها على صدور الأمر من الشارع ، فلو أتى به الإنسان لا بقصد العباد لم يفعل محرماً ، كما لو نظر إلى القبر أو جلس عنده وغير ذلك مما لا يتوقف على اتباع الشارع.
     نعم لو أتى به قاصداً به العبادة كان بدعة ، وذلك لتوقف العبادة على


(75)
الأمر من الشارع المفقود هنا. وأما لو أتى به حباً وشرفا لصاحب القبر فلا يكون عبادة حتى يكون حراما مع عدم الاستنان شرعا.
     فدعوى الوهابية أن المسح على القبر عبادة يتوقف على الاتباع دون الابتداع يدفعها ما ذكرنا من المنع الشاهد عليه الوجدان ، لنهوضه على أن من يمسح القبر ويمسه أو يستلمه لا يرى من نفسه إلا الحب والشوق والتبرك ، لا عبادة القبر أو صاحبه.
     ورابعاً : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بعادة أهل الكتاب ، كما في صحيح البخاري في باب صفة النبي عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله يحب موافقة أهل الكتاب.
     وفي البخاري أيضاً في باب صيام يوم عاشوراء عن عائشة قالت : كان يوم عاشوراء يصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه في الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه.
     وفيه أيضاً عن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فصوموه.
     وخامساً : أن التمسح بقبر النبي واستلامه نظير التمسح بحجر الاسود وتقبيله واستلامه واستلام الركن اليماني المسنون شرعا إجماعا ، وعليه الصحاح والسنن.
     ففي البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال : لولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.


(76)
     فإذا صح أن النبي يقبل الحجر ولم يكن ذلك من نحو تعظيم الشجرة على انها ذات أنواط فليكن التمسح بالقبر هكذا ، لوحدة الوجه المشروع.
     والعجب مع ذلك مما في رسالة أحمد الرومي نقلا عن الأزرقي عن قتادة في قوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » أنه قال : الناس أمروا أن يصلوا عند المقام ولم يؤمروا أن يمسحوا ـ انتهى.
     فإنه إن كان المسح به حراما وكان شركا خفياً فالصلاة أولى بعدم الجواز لعظم شأنها وتمحضها في العبادة. فتكون مفسدة الشرك فيها أعظم من مفسدة المسح ، فإن قلت ـ كما قاله الغزالي ـ : اللازم عند استلام الحجر تصميم العبد على أنه يبايع الله ، لما ورد أن الحجر يمين الله في الارض.
     قلنا : إن الغرض ذلك من مسح قبر النبي وقبر الوصي لما في التنزيل : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) .
     فإن قلت ـ كما قاله الغزالي في : ص209 من إحياء العلوم ـ : وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالمستجار فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت وتبركا بالمماسة ورجاء للتحصن من النار ، ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان ، كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل.
     قلنا : إن الغرض من المسح والالتصاق بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الولي المطلق أيضاً ذلك عند الامامية حرفاً بحرف ، فلا يقدمون عليه إلا ونيتهم التبرك وطلب القرب حباً وشوقاً إلى صاحب وسؤال الشفاعة منه


(77)
والإلحاح في بذل الشفاعة لهم يوم القيامة ، نظراً إلى قوله تعالى : ( وما كان الله معذبهم وأنت فيهم ) وقوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) وقوله تعالى : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لو جدوا الله تواباً رحيما ) .
     قد صح عن النبي : إن مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق… وإن مثل أهل بيتي فيكم كباب حطة في بني اسرائيل.
     وسادساً : إن المعتمد في المسح عند المسلمين مافي صحيح البخاري في كتاب المناقب في باب صفة النبي وفيه عن الحكم قال : سمعت أبا جحيفة يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهاجرة إلى البطحاء ، فتوضأ ثم صلى الظهر ، إلى أن قال : وقام الناس فجعلوا يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم. قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من المسك.
     وفي أواخر هذا الباب : أنه خرج بلال فنادى بالصلاة ، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله فوقع الناس عليه يأخذونه منه.
     أقول : فاذا صح التمسح بيد النبي والتبرك بفضل وضوئه حال حياتهم ولم يكن من جعل الآلهه وعبادة ذات أنواط ، ولا من الأخذ بعادة اليهود والنصارى صح أيضاً التمسح والتبرك بقبره بعد وفاته لا تحاد الوجه.
     وسابعاً : إنه لو سلمنا كون المسح على القبر حراما شرعا واقعاً لكنه ليس لمن رأى أنه حراماً منع غيره ممن يرى أنه مباحا شرعا ، اعتماداً على ما ذكرنا من الوجوه ، لأن النهي عن المنكر إنما هو لمن يرى أنه منكر وليست


(78)
مسألة حرمة المسح على القبر من المسائل الضروية المسلمة عند كل طائفة أن تتبع رغائب طائفة اُخرى وإلا لبطلت المذاهب والإجماع على صحتها. مع أنها مختلفة في كثير من المسائل الفرعية. ولم يحكم أحد عليهم بوجوب الموافقة.
     وثالثها : صلاة الزيارة يصليها الزائر عقيب الزيادة في أي مكان شاء ويهدي ثوابها إلى روح المزور ، ولا بأس بها شرعا لأن الصلاة خير موضوع ولكونها نظير قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الميت.
     وقد أورد في البخاري في باب علامات النبوة : أنه خرج النبي يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم أنصرف.
     فالغرض بيان جواز الصلاة عند القبر أولا ، وجواز الصلاة عند قبر المزور ترحماً على الميت وإهداء لثوابها إليه ثانياً ، فتكون من النسك الجائزة ، فيندفع بذلك ما في كتاب مجموعة التوحيد : من أن الغلاة ـ عنى بها الإمامية ـ إذا وصلوا إلى القبور يصلون عندها ركعتين… إلى قوله : فلا تكون صلاتهم لله تعالى بل للشيطان.
     أقول : فلو قال أن صلاتهم لله شكراً له تعالى لما وفقهم إلى زيارة قبور الأنبياء والأولياء ومنحهم من الفضل ما لم يمنح به غيرهم ، لكان بمجنب عن متابعه الهوى وأبعد من الكذب والافتراء. والسلام من اتبع الهدى.
     ورابعها : سؤال الزائر من الله حاجته عقيب الصلاة ، وهذا جائز وليس شركا ـ لا جلياً ولا خفياً ـ كما في الرسائل النجدية ، فإن الدعاء لم يقيد بوقت خاص ولا مكان مخصوص لقوله تعالى : ( ادعوني استجيب لكم ) .


(79)
     نعم أنكرت الوهابية جواز التوجه حال الدعاء نحو الحجرة النبوية ، مصرحين بالمنع في رسائلهم ، ويردهم قوله تعالى : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .
     وفي البخاري : كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي على راحلته أينما توجهت به.
     ( ودعوى ) الوهابية ـ تبعاً لابن القيم ـ : أن ذلك من التشبه بعبدة الأصنام الذين يقفون تجاه اللات والعزى حال الدعاء ، ولذا شرعا النهي عن الصلاة في أوقات خاصة وأماكن مخصوصة ، فإنه لقطع مفسدة التشبه بعبادات أهل الشرك.
     مدفوعة بأنه لو كان حال الدعاء نحو المقبرة ذريعة إلى الشرك لزم الشارع أن يعينه بالنهي عنه ، كما نهى عن الصلاة في الأماكن المكروهة أو المحرومة ، ولما لم يبين مرجوعية التوجه حال الدعاء نحو الحجرة الطاهرة لا يمكننا الحكم بالمرجوحية بعد ثبوت الرخصة العامة في الآيات المذكورة ، والحجة الشرعية تقتضي الأخذ بعموم العام إلى أن يأتي المخرج القطعي..
     وليس لنا في قبال الآيات البينات حجة وافية اليد عنها ، فالحكم بخلافها سلوك منهج لم يأذن به الله تعالى ، كل ذلك مضافا إلى ما حكم به الإمام مالك حين ما سأله المنصور فقال له : يا أبا عبد الله استقبل القبلة وأدعو الله أم أستقبل رسول الله ؟ فقال مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله ، بل استقبله واستشفع به ـ الحديث.


(80)
     ولا يخفي أن هذه الرواية ذكرها جملة من أعاظم علماء السنة بأسانيد صحيحة فراجع شفاء السقام للإمام السبكي وخلاصة الوفاء للسمودي والمواهب اللدنية للعلامة القسطلاني ، إلى غير ذلك من أقوال للعلماء في كتبهم حتى يظهر لك أنه لا وجه للحكم بالشرك على من توجه حال الدعاء نحو الحجرة الطاهرة.