(81)
المسألة السادسة
     قد نسب الوهابيون إلى الأمامية أموراً ليست في كتبهم ، ولا توجد في أصول مذهبهم :
     منها : تجويزهم الطواف حول مراقد أئمتهم والحج إلى تلك المشاهد ، اكتفاءاً منهم به عن الحج إلى البيت العتيق.
     ومنها : تقديمهم القرابين والنذور للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ، والحال أن النذر لا يكون إلا لله.
     ومنها : اتخاذهم تلك المراقد مساجد يعبدونها ويصلون إليها كما يصلى إلى الكعبة.
     فههنا دعاوى ثلاثة :
     الأولى : تجويز الشيعة الطواف حول المراقد المشرفة… ولا يخفى أنها مدفوعة ، لعدم جوازه عند الموحدين فضلا عن المسلمين ، فلو طاف أحد حول المراقد قاصداً به العبادة فهو كافر مشرك ، وأما إذا طاف لا بذلك القصد بل بقصد التبرك والتشرف أو قاصداً به الإلحاح في طلب النجاح فلا يكون ذلك كفراً وشركا « ولكل امرئ مانوى ».
     ولا يكون الطواف في حد نفسه عبادة يحرم إيقاعه مطلقاً ، وإنما هو من الأفعال التي لا تكون عبادة إلا إذا أتى العبد به بقصد العبادة.
     وقد نص الشارع على أن الأعمال بالنيات ، ويزيدك وضوحاً أن الشكر


(82)
إذا وقع لله كان عبادة له ، بخلاف ما إذا وقع لغيره تعالى ، ولذا جاز الأمر به لغيره في قوله تعالى : ( أن اشكر لي ولوالديك ) .
     وأوضح من ذلك وقوع الأمر بالسجدة لآدم عليه السلام ، ولقد اجمع المفسرون لقوله تعالى : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً ) على أن هذه السجدة ليست سجدة عبادة بل سجدة تعظيم ، نظير سجدة الملائكة لآدم عليه السلام.
     فاندفعت شبهة الوهابية كما اندفعت أيضاً شبهة من يقول : إن أهل التوحيد كيف لا يجوزون عبادة غير الله تعالى ؟
     والحال أن القرآن ناطق بجوازها من قوله تعالى : ( وإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ومن قوله تعالى ( يا أبت إني رأيت أحد عشركوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) وقوله تعالى : ( ورفع أبويه على عرش وخروا له شجداً ) ؟؟
     مضافاً إلى أن عليها عمل المسلمين ، حيث يطوفون حول البيت ويعظمون الأحجار بالاستلام ، فنقول ـ جواباً عن شبهتهم ودفعاً لتسويلاتهم ـ :
     إن المقصود بالطواف ليس عبادة البناء ، وإنما هو كالسجود نحو الكعبة يراد به تعظيم المنسوب إليه ، لأن البيت بيت الله تعالى ، وأن سجدة الملائكة لآدم لم تكن سجدة عبادة ، وإلا كان لإبليس أن يجيب بأنها شرك ينافي التوحيد ، لا إنه يستكبر ويقول : أنا خير منه.
     الثانية : دعوى تقديم الإمامية الذبائح والنذورات إلى المشاهد ، ويكذيها


(83)
الرجوع الى مصنفات الإمامية المصرحة بأن النذر والعهد والأضحية لا تكون إلا لله تعالى (1) .
     نعم المشاهد مأوى الفقراء والمساكين ، فكل من يقدم إليها النذر أو القربان غرضه التفريق على المستحق لا غير ، فكل من قال بغير ما قلنا فقد كفر بالله ، وكل من نسب ذلك إلى الإمامية فقد كذب وافترى.
     الثالثة : دعوى أن الإمامية عباد القبور ، فيسجدون إلى القبر.
     وفيها : أما أولا : فلأن الإمامية لايصلون الى أي قبر كان ، ولاجرت عادتهم عليها ، فلو صلوا أحياناً فذلك لا لكون القبر عندهم قبلة ، وكيف يكون ذلك عند من يدين بالاسلام ويقول : بأن القبلة هي الكعبة ؟؟ فهل رأى أحد أن الإمامية يضحون أو يذبحون على خلاف القبلة أو نحو قبور الأئمة مع أن مذابحهم بمرأى ومنظر من عامة الخلق ؟
جواز الصلاة الى القبر عن كراهية
     نعم الصلاة إلى القبر مسألة فقهية لادخل لها بالعقائد الدينية ، ولم يذكرها واحد من أهل الفضل في أصول العقائد. ألاترى أن العلماء قاطبة اختلفوا في الصلاة في أماكن مخصوصة كراهية وتحريماً ؟ مثل الصلاة في الحمام وبيوت الغائط وجواد الطرق وإلى نار مضرمة وإلىالصور والتماثيل أو إنسان مواجه مع أن القائل بالحرمة وفساد الصلاة فيها لم يقل بالكفر والشرك.
     وفي البخاري : باب كراهة الصلاة في المقابر ، وفيه أيضاً : باب من صلى
(1) وهي جائزة في أي مكان كان حتى في بيت المسلم نفسه.
(84)
وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به وجه الله عز وجل. ثم ذكر ما يدل على جواز الصلاة إليها.
     قوله : ( فأراد به وجه الله ) شاهد على أن مورد البحث نفس الصلاة إلى القبر ، كما يصلى الإنسان إلى أي جدار كان ، من غير أن يجعل القبر مسجدا يصلى نحوه كما يصلى إلى الكعبة ، وإلا فلا وجه لاختصاص الحرمة وفساد الصلاة بالصلاة إلى القبر ، بل يعم سائر الصور التي قالوا فيها بالكراهة.
     بل لو صلى الإنسان نحو الحائط وجعله قبلة لصلاته عوضاً عن الكعبة كانت صلاته باطلة ، ولو صلى لا بهذه الجهة كانت صلاته صحيحة.
     ومثل ذلك الصلاة نحو القبر حيث أراد المصلي بصلاته وجه الله لا وجه صاحب القبر ، فإنها إذ لم يرد من الشرع ما يدل على الفساد والحرمة كانت صحيحة ، ولذا ذهب في البخاري إلى الكراهة.
     واستدل علىالجواز بأن عمر رأى أنس بن مالك يصلى عند القبر ، فقال : القبر القبر ، ولم يأمره بالإعادة.
     وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها. وبأنه لما مات الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت ، أورده في باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.
     وأما ثانياً : فلأن ما استدل به ابن تيمية بما عن عائشة أنه : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي مات فيه : لعن الله اليهودي والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً.


(85)
     فالجواب عنه : إن الحديث لا دلالة له على حرمة الصلاة نحو القبر إذا أراد المصلى بهاوجه الله تعالى ، وإنما يدل على لعن اليهود على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبدونها كما يعبدون موسى وعيسى ، أو يجعلونها قبلة نظير بيت المقدس عندهم والكعبة عند المسلمين.
كلام ابن عبدالوهاب وابن تيمية في الصلاة الى القبر
     ويشهد لذلك ما في منهاج السنة من رواية مالك في الموطأ أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
     فإن الحديث ناطق بحرمة اتخاذ القبر مسجداً يسجد إليه ، ومعلوم أن ذلك شرك لو اعتقده المصلى.
     ويدل على ذلك ايضاً قول عائشة : « غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً ».
     قال السندي شارح النسائي : مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يحذر أمته أن يضعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم ، من اتخاذهم تلك القبور مساجد : إما بالسجود إليها تعظيما ، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها.
     وعن النووي في شرح صحيح مسلم : قال العلماء : إنما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به ، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ، ولذا قال في الحديث : « ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً » انتهى.


(86)
وقال جلال الدين السيوطي في شرحه على النسائي :
     قال البيضاوي : لما كان اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنها ، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع المسلمين من مثل ذلك ، وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه فلا يدخل في ذلك الوعيد.


(87)
المسألة السابعة
     في هدم المساجد المشيدة حول المراقد المشرفة
     مذهب الوهابية على وجوب هدم المساجد المبنية حول المراقد المشرفة واحتجوا لذلك : بأنها أسست على غير تقوى من الله ، وبحديث عائشة : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها تصاوير ، فقال رسول الله : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
     وقال الإمامية ـ بل وسائر المسلمين ـ على جواز البناء وحرمة الهدم ، لكونها من مساجد الله الواجب تعظيمها ، نظير مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد الأموي وبيت المقدس الذي دفن فيه كثير من الأنبياء من ولد إسحق ، وعليه السيرة القطعة أيضاً ، وفتوى العلماء بأن من اتخذ فسحة منالمكان مسجداً ولو كان في ناحية القبر ـ نظير مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبره وقبر أبي بكر وعمر ـ جاز ذلك" كما عرفته من كلام البيضاوي وجلال الدين السيوطي.
     والجواب عن الرواية :
     أولا : أنها معارضة بما في البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وآله وسلم « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدرك رجل من أمتي الصلاة صلاها » ، وبأنه لما مات الحسن بن علي عليه السلام ضربت امرأته قبة على قبره إلى سنة فإنه يدل على جواز الصلاة في ناحية القبر بالملازمة الواضحة.
     وثانياً : أن كون النصارى واليهود شرار الخلق ليس من جهة بناء المسجد على القبر ، وإلا لما مدح الله تعالى المؤمنين بقوله : ( وقال الذين غلبوا على


(88)
أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) بل لأن اليهود والنصارى زادوا على كفرهم كفراً آخراً ، حيث أشركوا لأجل تعظيمهم صور الصالحين منهم بجعلها في معابدهم نظير الأصنام المعلقة في الجاهلية على الكعبة.
     وأين هذا ممن جعل فسحة من الأرض مسجداً لا يريد به غير التوجه إلى الله ولا تعظيم أحد غير الله ؟
     والكتاب العزيز ناطق بجوازه ، ففي تفسير الجلالين : « وقال الذين غلبوا على أمرهم » وهم المؤمنون و « لنتخذن عليهم » أي حولهم « مسجداً » يصلى فيه ، وفعل ذلك عن باب الكهف.
     وفي تفسير الرازي « لنتخذن عليهم مسجداً » نعبد الله فيه ونستبقى آثار أصحاب الكهف يسبب ذلك ـ انتهى.
     وإذا جاز اتخاذ المسجد على باب الكهف بنص القرآن استبقاء للأثر من دون أن يكون شركا ، فها نحن نعمل بما جوزه القرآن إلى أن يثبت بنص ـ يعتمد عليه ـ النسخ أو التخصيص المخرج عن حكمه.


(89)
خاتمة
     مباينة الوهابية لسائر المسلمين

     في بيان ما عليه الطائفة الوهابية ، وهي عدة أمور اتخذوها شعاراً لهم ، منها مباينتهم مباينة عظيمة لسائر طوائف المسلمين ، حتى إنهم جعلوا ديارهم ديار توحيد وديار غيرهم ديار شرك ، كما هو دأب الخوارج في أصول مذهبهم. وهذه مباينة مذمومة شرعاً ، كيف لا وهي تفرق منهى عنه في قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) وقوله سبحانه : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) .
     وفي البخاري في كتاب الفتنة عن حذيفة بن اليمان قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : هم من أهل جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرقة كلها.
     وليت علماء الوهابية الذين ألفوا رسائل في أصول التوحيد وبينوا فيها أنواع الشرك والكفر يعدون من أقسام الكفر كفر التفرقة عن الجماعة ، نظراً إلى قوله تعالى ( لست منهم في شيء ) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام ».
     ومنها : أن الوهابية أصحاب الزلازل والفتن بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما


(90)
في البخاري في كتاب الفتن عن أبي عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال مرتين : اللهم بارك لنا في يمننا ، اللهم بارك لنا في شامنا. قالوا : وفي نجدنا ؟ قال : هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان.
     وفيه أيضاً عن سالم عن أبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال إلى جنب المنبر فقال : الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.
     وأيضاً عن نافع عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مستقبل المشرق يقول : ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.
     وفي شرح السنة عن عقبة ابن عمر قال : أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده نحو اليمن وقال : الإيمان ههنا ، إلا أن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان.
في شرك المحبة والرد عليه
     ومنها : أنهم جعلوا من أقسام الشرك « شرك المحبة » كما في كتاب مجموعة التوحيد ، واستندوا في ذلك إلى قوله سبحانه : ( ويجعلون لله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ) .
     وفيه : أنه لم يتحصل معنى لما جعلوه شركا ، فإن أرادوا أن مجرد محبة غير الله شرك لزم عليهم شرك المسلمين جميعاً لمحبتهم آبائهم وأولادهم وأموالهم وأحبائهم ، ولم يقل به أحد ولم يأت به شرع ، وإن أرادوا أن المحبة ينتهى بها الأمر إلى عبادة المحبوب من الأنبياء والصديقين ، قلنا : إن الانتهاء إليها ممنوع ولاملازمة إلا عند الغلاة ، وما عداهم من المسلمين لا يعبدون من يحبونه