الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 31 ـ 45
(31)
الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه ، ثم الدلالة على تجدد الاجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما ، ثم تقييده الجواب أعني قوله : أجيب دعوة الداع بقوله : إذا دعان ، وهذا القيد لا يزيد على قوله : دعوة الداع المقيد به شيئا بل هو عينه ، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى : « ادعوني أستجب لكم » المؤمن ـ 60 ، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها ، مع كون الآية قد كرر فيها ـ على إيجازها ـ ضمير المتكلم سبع مرات ، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.
    والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي ، والسؤال جلب فائدة أو در من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره ، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.
    ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.
    وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والافعال وساير ما ينسب إليهم من الازواج والاولاد والمال والجاه وغيرها ، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الانحاء كما في قولنا : نفسه ، وبدنه ، وسمعه ، وبصره ، وفعله ، واثره ، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا : زوجه وماله وجاهه وحقه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار ـ إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أياما كان وتمليكه فالله عز اسمه ، هو الذي اضاف نفوسهم واعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس ، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والافئدة ، وهو الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا.
    فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه ، وهو الحائل بين الشئ وبين كل ما يقارنه : من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو اقرب إلى خلقه من كل


(32)
شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى : « ونحن اقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون » الواقعة ـ 85 ، وقال تعالى : « ونحن اقرب إليه من حبل الوريد » ق ـ 16 ، وقال تعالى : « ان الله يحول بين المرء وقلبه » الانفال ـ 24 ، والقلب هو النفس المدركة.
    وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الاطلاق واقرب إليهم من كل شيء عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب اي دعاء دعى به احد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان الملك عام ، والسلطان والاحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود : ان الله لما خلق الاشياء وقدر التقادير تم الامر ، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء ، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان الامر مفروغ عنه ، ولا كما يقوله جماعة من هذه الامة : ان لا صنع لله في افعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجوس هذه الامة فيما رواه الفريقان من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : القدرية مجوس هذه الامة.
    بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شيء شيئا الا بتمليك منه سبحانه واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه ، يقع ، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية ، قال تعالى : « يا ايها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني » الفاطر ـ 15.
    فقد تبين : ان قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، كما يشتمل على الحكم اعني اجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم ، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم ، واطلاق الاجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فانه مجيبه الا ان ههنا امرا وهو انه تعالى قيد قوله : اجيب دعوة الداع بقوله إذا دعان ، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه ، فان قولنا : اصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو اكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة ، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي


(33)
يجب الاصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان ، يدل على أن وعد الاجابة المطلقة ، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه ، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة ، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا ، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا ، قال تعالى : « وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار » ابراهيم ـ 34 ، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر ، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا ، وقال تعالى : « يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن » الرحمن ـ 29 ، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.
    فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الاجابة ، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الاجابة فقد فقد أحد امرين وهما اللذان ذكرهما بقوله : دعوة الداع إذا دعان.
    فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء ، وانما التبس الامر على الداعي التباسا كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت ، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الانبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك ، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.
    وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالاسباب العادية أو بامور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره ، لا من يعمل بشركة الاسباب والاوهام ، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.
    فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية ، وبه يظهر معاني سائر الآيات


(34)
النازلة في هذا الباب كقوله تعالى : « قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم » الفرقان ـ 77 ، وقوله تعالى : « قل أرايتم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما كنتم تشركون » الانعام ـ 41 ، وقوله تعالى : « قل من ينجيكم في ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون » الانعام ـ 64 ، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزيا وسؤالا فطريا يسأل به ربه ، غير انه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالاسباب فأشركها لربه ، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه ، مع انه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى ، ولما وقع الشدة وطارت الاسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله ، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الاسباب ، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء ، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك والنسيان.
    وكقوله تعالى : « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » المؤمن ـ 60 ، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالاجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها : عن عبادتي أي عن دعائي ، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث انها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار انما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض اقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.
    وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى : « فأدعوا الله مخلصين له الدين » المؤمن ـ 14 ، وقوله تعالى : « وادعوه خوفا وطمعا ان رحمة الله قريب من » المحسنين الاعراف ـ 56 ، وقوله تعالى : « ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين » الانبياء ـ 90 ، وقوله تعالى : « ادعوا ربكم تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين» الاعراف ـ 55 ، وقوله تعالى : « إذ نادى ربه نداء خفيا ، إلى قوله ، ولم أك بدعائك ربي شقيا » مريم ـ 4 ، وقوله تعالى : « ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله » الشورى ـ 26 ، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة ، وهي تشتمل على


(35)
اركان الدعاء وآداب الداعي ، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى ، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.
    قوله تعالى : « فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي » ، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام : ان الله تعالى قريب من عباده ، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء ، وهو ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه ، فهو يدعوهم إلى دعائه ، وصفته هذه الصفة ، فليستجيبوا له في هذه الدعوة ، وليقبلوا إليه ، وليؤمنوا به في هذا النعت ، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.
( بحث روائي )
    عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيما رواه الفريقان : الدعاء سلاح المؤمن ، وفي عدة الداعي في الحديث القدسي : يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك.
    وفي المكارم عنه ( عليه السلام ) الدعاء افضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال : « قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم » ، وروي ذلك عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ).
    وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أوحى الله إلى بعض انبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولابعدنه من فرجي وفضلي ، ايأمل عبدي في الشدائد غيري ، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد ، بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.
    وفي عدة الداعي ايضا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت اسباب السموات واسباب الارض من دونه فان سئلني لم أعطه وان دعاني لم أجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السموات والارض


(36)
رزقه ، فإن دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان استغفرني غفرت له.
    اقول : وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية الاسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الاشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه ، وللانسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته ان لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله ، ويشعر ايضا ان كل ما يتوجه إليه من الاسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل امر ، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الاسباب ولازم ذلك ان لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الاسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري ، والانسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك انه سئل ربه واتصل حاجته ، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الاسباب إلى ربه فاستفاض منه ، وإذا طلب ذلك من سبب من الاسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وانما هو امر صوره له تخيله لعلل اوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة ، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر.
    ونظير ذلك : ان الانسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه واهم واحب فترك الاول وأخذ بالثاني ، وربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الاول وترك الثاني ، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة ، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحه فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه ، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط ، واما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو ، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا ، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه ، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الاحاديث ، وهو اللائح من قول علي ( عليه السلام ) فيما سيأتي : أن العطية على قدر النية الحديث.
    وفي عدة الداعي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة


(37)
    وفي الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلا خيرا.
    اقول : وذلك ان الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة. كما مر ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.
    وفي العدة أيضا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إفزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه وادعوه ، فإن الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة ، واما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.
    وفي نهج البلاغة : في وصية له ( عليه السلام ) لابنه الحسين ( عليه السلام ) : ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئابيب رحمته ، فلا يقنطنك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل ، واجزل لعطاء الامل ، وربما سألت الشئ فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفي عنك وباله ، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.
    اقول : قوله : فإن العطية على قدر النية يريد ( عليه السلام ) به : ان الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه ، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه ، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي احسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والاجابة.
    وقد بين ( عليه السلام ) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالابطاء في الاجابة ، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا ، أو بما هو خير منه في الآخرة ، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل ، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لان السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الاجابة على بطؤ ، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم ان فيه سعادته


(38)
وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.
    وفي عدة الداعي عن الباقر ( عليه السلام ) ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه ، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.
    اقول : وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان ، وجابر ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وابن أبي مغيث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ثماني روايات ، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء ايماء إلى أنه تعالى فيها ـ تعالى عن ذلك وتقدس.
    وهو قول فاسد ، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة ، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم ، كما هو ظاهر في الصلوة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها ، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية ، ومنها الدعاء ، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط ، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة ، وقد روى الشيخ في المجالس وألاخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين ( عليه السلام ) عن النبي ، وفي عدة الداعي مرسلا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.
    وفي البحار عن علي ( عليه السلام ) أنه سمع رجلا يقول : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، قال ( عليه السلام ) : أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى : « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » ولكن قل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
    اقول : وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات ، وفيها : أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه ، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.


(39)
    وفي عدة الداعي عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.
     وفي العدة أيضا عن علي ( عليه السلام ) لا يقبل الله دعاء قلب لاه.
    اقول : وفي هذا المعنى روايات أخر ، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو.
    وفي دعوات الراوندي : في التوراة يقول الله عز وجل للعبد : إنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك ، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة.
    اقول : وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات ، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لاجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم ، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبدا عوقب بما يريده على غيره ، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة ، قال تعالى : « ويدع الانسان بالشر دعائه بالخير وكان الانسان عجولا » الاسراء ـ 11.
    وفي عدة الداعي : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لابي ذر : يا ابا ذر ألا اعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله ، قال لى الله عليه واله وسلم : احفظ الله يحفظك الله ، احفظ الله تجده امامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.
    اقول : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة : يعني : ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك ، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الاسباب في الرخاء ، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها ، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير ، فهو لم يدع ربه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر ، ففي مكارم الاخلاق عن الصادق ( عليه السلام ) قال ( عليه السلام ) من تقدم في الدعاء أستجيب له إذا نزل البلاء ، وقيل : صوت معروف ، ولم


(40)
يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة : ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث ، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى : « نسوا الله فنسيهم » التوبة ـ 67 ، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع ، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام.
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وإذا سئلت فأسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، ارشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الاسباب العادية التي بين أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الايصال ، والامر بيد الله تعالى ، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب ، وإن كان أبي الله ان يجري الامور الا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الاسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى الغاء الاسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه ، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب ، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك اسباب؟
     واعتبر ذلك بالانسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الاسباب كان كمن سأل الانسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن ، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل ، وليس ذلك تقييدا للقدرة الالهية غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي ، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه ، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل ، إذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون الاباليد ، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقا ، كذلك الواجب تعالى قادر على الاطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الاسباب فزيد مثلا وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا ، لو تخلف واحد من هذه العلل


(41)
والشرائط لم يكن هو هو ، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها ، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، تفريع على قوله : وإذا سألت فاسأل الله ، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله : وإذا سألت وسببه ، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الاسباب فيها حقيقة ، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى ، وأما هو تعالى : فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن ، ولذلك عقب الجملة بقوله : ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ.
    ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا : ان الدعاء من القدر.
    اقول : وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء : ان الحاجة المدعو لها اما ان تكون مقضية مقدرة اولا ، وهي على الاول واجبة وعلى الثاني ممتنعة ، وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء ، والجواب : أن فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن اسباب وجوده ، والدعاء من اسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه ، وهذا هو المراد بقولهم : ان الدعاء من القدر ، وفي هذا المعنى روايات اخر.
    ففي البحار عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لايرد القضاء الا الدعاء.
    وعن الصادق ( عليه السلام ) : الدعاء يرد القضاء بعد ماأبرم ابراما.
    وعن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) : عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل يرد البلاء ، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا.
    وعن الصادق ( عليه السلام ) ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم ابراما ـ فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه.
    اقول : وفيها اشارة إلى الاصرار وهو من محققات الدعاء ، فان كثرة الاتيان


(42)
بالقصد يوجب صفائه.
    وعن اسماعيل بن همام عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.
    اقول : وفيها اشارة إلى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب.
    وفي المكارم عن الصادق ( عليه السلام ) : لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد
    وعن الصادق ( عليه السلام ) ايضا ، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا أستجيب له.
    وعن الصادق ( عليه السلام ) أيضا ـ وقد قال لرجل من اصحابه أني لاجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا اجدهما ـ قال : فقال : وماهما؟ قلت : ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى اجابة ، قال افترى الله اخلف وعده؟ قلت : لا ، قال : فمه؟ قلت : لا ادري قال : لكني أخبرك من أطاع الله فيما امر به ثم دعاه من جهه الدعاء اجابه ، قلت : وما جهة الدعاء؟ قال : تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء ، ثم قال : وما الآية الاخرى؟ قلت : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وأرانى أنفق ولا أرى خلفا ، قال : ا فترى الله اخلف وعده؟ قلت : لا ، قال : فمه؟ قلت : لا أدرى ، قال : لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وانفق في حقه لم ينفق درهما الا اخلف الله عليه.
    اقول : والوجه في هذه الاحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة.
    وفي الدر المنثور عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان الله إذا اراد ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء وعن ابن عمر ايضا عنه صلى عليه وآله وسلم : من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له ابواب الرحمة ، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له ابواب الجنة.
    اقول : وهذه المعنى مروي من طرق ائمة اهل البيت ايضا : من أعطي الدعاء أعطي الاجابة ، ومعناه واضح مما مر.


(43)
    وفي الدر المنثور أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال.
    اقول : وذلك ان الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الاسباب يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة واسبابها العادية حتى ان الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب لكن يبقى الاذعان بتعين الطرق ووساطة الاسباب المتوسطة فإنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب ، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن اسبابها وان لم يكن للاسباب الا الوساطة دون التأثير ، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الالهية ، وهذا التوهم هو الذي اوجب ان نعتقد استحالة تخلف المسببات عن اسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم ، والقرب عن الحركة ، والشبع عن الاكل ، والرى عن الشرب ، وهكذا ، وقد مر في البحث عن الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية ، وبعبارة أخرى توسط الاسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على اسبابها العادية بل البحث العقلي النظري ، والكتاب والسنة تثبت اصل التوسط وتبطل الانحصار ، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها.
    إذا عرفت هذا علمت : ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما ان العمدة من معجزات الانبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون اني اقدر ان أعطيهم ما يسألوني.
    وفي المجمع ، قال : وروي عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) انه قال : وليؤمنوا بي اي وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون ، اي لعلهم يصيبون الحق ، أي يهتدون إليه


(44)
    أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ـ 187.
( بيان )
    قوله تعالى : « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » ، الاحلال بمعنى الاجازة ، وأصله من الحل مقابل العقد ، والرفث هوالتصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره ، من الالفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء ، وقد كني به هيهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الالفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والاتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية ، وكذا لفظ الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن اخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح ، كما ان الفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل ، وتعدية الرفث بألى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل.
    قوله تعالى : « هن لباس لكم وأنتم لباس لهن » ، الظاهر من اللباس معناه المعروف ، وهو ما يستر به الانسان بدنة ، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته ويستر به عورته.
    وهذه استعارة لطيفة ، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله : احل لكم ليلة الصيام


(45)
الرفث إلى نسائكم ، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس ، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره ، واما الرفث إليه فلا لانه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.
    قوله تعالى : « علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم » ، الاختيان والخيانة بمعنى ، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله : انكم تختانون ، دلالة على معنى الاستمرار ، فتدل الآية على ان هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لانفسهم ، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو ، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما ، وخاصة إذا اجتمعا ، ظاهران في ذلك.
    وعلي هذا فالآية دالة على ان حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام ، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين ، ويشعر به أو يدل عليه قوله : أحل لكم ، وقوله : كنتم تختانون ، وقوله : فتاب عليكم وعفا عنكم ، وقوله : فالآن باشروهن ، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال : فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى ، وهو ظاهر.
    وربما يقال : ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الاكل والشرب ، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق اهل السنة والجماعة ، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى : « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » الآية ، فهموا منه التساوي في الاحكام من جميع الجهات ، وقد كانت النصارى كما قيل : إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في اول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون ، غير ان ذلك صعب عليهم ، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لانفسهم ، والشيوخ ربما اجهدهم الكف عن الاكل والشرب بعد النوم ، وربما اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الاكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح والاكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان ، وظهر بذلك : ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم التشبيه في اصل فرض الصوم لا في
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس