الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 106 ـ 120
(106)
ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين ، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان ، على ان الكلام لو كان مسوقا لافاده ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى : « وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في انفسهم وعتو عتوا كبيرا » الفرقان ـ 21 ، وقوله تعالى : « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه » الانبياء ـ 26.
    على انه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى : في ظلل من الغمام ، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر.

     إعلم أنه ورد عن أئمه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق ( عليه السلام ) ، تفسيرها بظهور المهدي ( عليه السلام ) كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر ( عليه السلام ) بطريقين.
    ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور ، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني ، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات ، فمنهم من طرح هذه الروايات ، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرقة ، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها ، ومنهم ـ وهم أمثل طريقة ـ من ينقلها ويقف عليها من غير بحث.
    وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة ، وربما لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة ، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه ، وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال : ما حاصله : إن الموت بحسب العناية الالهية


(107)
لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل ، هذا محال إلا إن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم ( عليهم السلام ) وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شيء وما يتمسك به المثبتون غير تام ، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة ، هذا.
    ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثنائا ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا ، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين ، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب.
    وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه ، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها. وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا ، فإن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الاولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني ، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط ، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.
    وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه : أن الروايات متواترة معنى عن أئمه أهل البيت ، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الاول ، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة ، على أن عدة من الآيات النازلة فيها ، والروايات الواردة فيها تامة ه الدلالة قابلة الاعتماد ، وسيجئ التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى : « ويوم نحشر من كل امة فوجا


(108)
ممن يكذب بآياتنا » النمل ـ 83 وغيره من الآيات.
    على أن الآيات بنحو الاجمال دالة عليها كقوله تعالى : « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم » البقرة ـ 214 ، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الاموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم ، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل.
    على أن هذه القضايا التي اخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان ، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها.
    ولنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة ، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى ، فنقول : الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من اوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الاسباب ولاشاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الاوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.
    ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث ، حتى يدفع بعضها بعضا كما ان النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للاموات منا لا تدفع الدنيا ، ولا الدنيا تدفعها ، قال تعالى : « تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم » النحل ـ 63.
    فهذه حقيقة يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الاسباب عن


(109)
توهم الميت ، فعن علي ( عليه السلام ) « من مات قامت قيامته » ، وسيجئ بيان الجميع إنشاء الله.
    والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور ، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة ، لا يشوبها هوى نفس ، ولا يعتريه اغواء الشيطان ، ويعود فيه بعض الاموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا ، ويفصل الحق من الباطل.
    وهذا يفيد : أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة ، وإن كان دونه في الظهور لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة ، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي ( عليه السلام ) أيضا تمام لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة وقد ورد عن أئمة أهل البيت : ( أيام الله ثلاثة : يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة ) وفي بعضها : ( أيام الله ثلاثة : يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة ) ، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة ، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم ( عليه السلام ) بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة ، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع ، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه.
     سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمه الله من بعد ماجائته فإن الله شديد العقاب ـ 211. زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ـ 212.


(110)
( بيان )
     قوله تعالى : « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من » آية « الخ » تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى : « فإن زللتم مبعد ماجائتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم » ، الاية من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر.
    يقول : هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الامة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك ، ورزقهم من الطيبات ، وفضلهم على العالمين ، سلهم كم آتيناهم من آية بينة؟ وانظر في امرهم من اين بدئوا والى اين كان مصيرهم؟ حرفوا الكلم عن مواضعه ، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند انفسهم بغيا بعد العلم ، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الانداد ، والاختلاف وتشتت الآراء ، وأكل بعضهم بعضا ، وذهاب السودد ، وفناء السعادة ، وعذاب الذلة ، والمسكنة في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
    وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه : من يبدل نعمة واخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه ، والله شديد العقاب ، وعلي هذا فقوله : ومن يبدل نعمة الله إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم ، سنة جارية.
    قوله تعالى : « زين للذين كفروا الحياة الدنيا » ، في موضع التعليل لما مر ، وإن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فانها إذا زينت لانسان دعته إلى هوى النفس وشهواتها ، وأنست كل حق وحقيقة ، فلا يريد الانسان إلانيلها : من جاه ومقام ومال وزينة ، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شيء لاجلها وفي سبيلها ، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات ، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء ومايلائم سوددهم ورئاستهم ، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم ، وكنا شاهدناه في بني أسرائيل من قبل ، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من ان يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية ، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة


(111)
الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب.
    قوله تعالى : « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » الخ ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل.
     كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ـ 213.
( بيان )
    الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به ، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان : ان الانسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه امة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفعت بالتبشير والانذار : بالثواب والعقاب ، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين ، وإرسال المرسلين ، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدء والمعاد ، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية ، وظهرت الشعوب والاحزاب ، وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلابغيا من الذين أوتوا الكتاب ، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه ، وتمت عليهم الحجة ، فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين ، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه ، والله يهدي


(112)
من يشاء إلى صراط مستقيم.
    فالدين الالهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني ، والمصلح لامر حياته ، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها ، وينظم للانسان سلك حياته الدنيوية والاخروية ، والمادية والمعنوية ، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع ( الحياة الاجتماعية والدينية ) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.
    وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون مختلفة.

    ومحصل ماتبينه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولاكل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره : حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة ، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الارض ، فقد كانت الارض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع واليهما ينتهي هذا النسل الموجود ، قال تعالى : « انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل » الحجرات ـ 13 ، وقال تعالى : « خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها » الاعراف ـ 189 ، وقال تعالى : « كمثل آدم خلقه من تراب » آل عمران ـ 59 ، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الانواع وان الانسان مشتق من القرد ، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية ، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية ، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية ، بل حتى الامكانات الذهنية ، إذ لااعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع البحث ، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى : « ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » آل عمران ـ 59.


(113)
    وقد أنشأ الله هذا النوع ، حين ما أنشاء ، مركبا من جزئين ومؤلفا من جوهرين ، مادة بدنية ، وجوهر مجرد هي النفس والروح ، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية ، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية ، ثم يرجع الانسان إلى الله سبحانه ، قال تعالى : « ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشاناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين ثم انكم بعد ذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون » المؤمنون ـ 16 ، ( انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر ) ، وفي هذا المعنى قوله تعالى : « فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين » ص ـ 72 ، وأوضح من الجميع قوله سبحانه : « وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون » السجدة ـ 11 ، فإنه تعالى أجاب عن اشكالهم بتفرق الاعضاء والاجزاء واستهلاكها في الارض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفيهم ويضبطهم فلا يدعهم ، فهم غير أبدانهم ! فأبدانهم تضل في الارض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولافائتة ولامستهلكة وسيجئ انشاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له.

    وقد خلق الله سبحانه هذا النوع ، وأودع فيه الشعور ، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد ، ففيه قوة الادراك والفكر ، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه امر الحدوث والوقوع ، فله إحاطة مابجميع الحوادث ، قال تعالى : « علم الانسان ما لم يعلم » العلق ـ 5 ، وقال تعالى : « والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع


(114)
والابصار والافئدة » النحل ـ 78 ، وقال تعالى : « وعلم آدم الاسماء كلها » البقرة ـ 31 ، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء ، ويستطيع الانتفاع من كل امر ، اعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة واداة للاستفادة من غيره ، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية ، وسلوكه في مسالكه الفكرية ، قال تعالى : « خلق لكم ما في الارض جميعا » البقرة ـ 29 ، وقال تعالى : « وسخر لكم ما في السموات والارض جميعا منه » الجاثية ـ 13 ، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الاشياء مسخره للانسان.

    وانتجت هاتان العنايتان : اعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي ان يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الاشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه.
    توضيح ذلك : انك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان ، هذا الموجود الارضي الفعال بالفكر والارادة ، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه انه في افعاله الحيوية يوسط إدراكات وافكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل ، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان ، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف ، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ.
    ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لان يتوسط بين الانسان وبين افعاله الارادية كمفاهيم الارض والسماء والماء والهواء والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات ، وكمعاني قولنا : الاربعة زوج ، والماء جسم سيال ، والتفاح أحد الثمرات ، وغير ذلك من التصديقات ، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الادراكية ، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا


(115)
( ما نحكي عنه بلفظ أنا ) ، والكليات الاخر المعقولة ، فهذه العلوم والادراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إراده ولاصدور فعل ، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.
    وهناك شطرآخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا : إن هناك حسنا وقبحا وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك ، والخير يجب رعايته ، والعدل حسن ، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية ، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الافكار والادراكات لاهم لنا إلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الارادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة.
    وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الامر كذلك في القسم الاول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولاحاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية ، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة ، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل ، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل ، ونفورها عما لايلائمها يوجب حدوث صور من الاحساسات : كالحب والبغض ، والشوق والميل والرغبة ، ثم هذه الصور الاحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح ، وينبغي ولا ينبغي ، ويجب ويجوز ، إلى غير ذلك ، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الامر ، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة لها إلاالعمل ، ( وهي المسماة بالعلوم العملية ) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر.
    والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل ، والاخذ بالتصرف في الكون ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، قال تعالى : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى » الاعلى ـ 3 ، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده ، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه ، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.
    وقال تعالى في الانسان خاصة : « ونفس وما سواها فألهمها فجور ها وتقويها » الشمس ـ 8 ، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإلهام فطري منه تعالى ، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي ، وهي العلوم العملية التي لااعتبار


(116)
لها خارجة عن النفس الانسانية ، ولعله إليه الاشارة باضافة الفجور والتقوى إلى النفس.
    وقال تعالى : « وما هذه الحياة الدنيا إلالهو ولعب وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون » العنكبوت ـ 64 ، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط ، كذا الحياة الدنيا : من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي أمور خيالية لاواقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن ، بمعنى ان الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الانسان وأحواله.
    فالموجود بحسب الواقع من الانسان الرئيس إنسانيته ، وأما رئاسته فإنما هي في الوهم ، ومن الثوب المملوك الثوب مثلا ، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن ، وعلى هذا القياس.

    فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة ، ومن جملة هذه الافكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله ، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه ، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن ، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة ، ويعمل آلات من المادة ، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع ، واستخدام الابرة للخياطة ، واستخدام الاناء لحبس المايعات ، واستخدام السلم للصعود ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل ، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها.
    وبذلك يأخذ الانسان ايضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف ، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك ، وبذلك يستخدم ايضا انواع الحيوان في سبيل منافع حياته ، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها


(117)
وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها ، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين ، فيستخدمها كل استخدام ممكن ، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف ، كل ذلك مما لا ريب فيه.

     غير ان الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه ، وهم أمثاله ، يريدون منه ما يريده منهم ، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم ، وهذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية ، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه ، ويتعادل النسب والروابط ، وهو العدل الاجتماعي.
    فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني ، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار ، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبدا ، وهذا معنى ما يقال : إن الانسان مدني بالطبع ، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي ، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه ، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الامم القوية ، وعلى ذلك جرى التاريخ ايضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية.
    وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى : « إنه كان ظلوما جهولا » الاحزاب ـ 72 ، وقوله تعالى : « إن الانسان خلق هلوعا » المعارج ـ 19 ، وقوله تعالى : « إن الانسان لظلوم كفار » إبراهيم ـ 34 ، وقوله تعالى : « إن الانسان ليطغى ان رآه استغنى » العلق ـ 7.
    ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل ، وحسن تشريك المساعي ، ومراعاة التساوي ، مع ان المشهود دائما خلاف ذلك ، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه


(118)
الضعيف ، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

    ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والاخلاق المستندة إلى ذلك ، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي ، فيستفيد القوي من الضعيف اكثر مما يفيده ، وينتفع الغالب من المغلوب من غير ان ينفعه ، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة ، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام ، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج ، وداعيا إلى هلاك الانسانية ، وفناء الفطرة ، وبطلان السعادة.
    وإلى ذلك يشير تعالى بقوله : « وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا » يونس ـ 19 ، وقوله تعالى : « ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم » هود ـ 119 ، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها : ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية.
    وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد ، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الانسانية الواحدة ، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الافكار والافعال بوجه ، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الاحساسات والادراكات والاحوال في عين انها متحدة بنحو ، إو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الاغراض والمقاصد والآمال ، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الافعال ، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
    وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع ، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف ، ونيل كل ذي حق حقه ، وتحميلها الناس.
    والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد طريقين :


(119)
     الاول : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق ، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة ، مع الغاء المعارف الدينية ، من التوحيد والاخلاق الفاضلة ، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعي ، وجعل الاخلاق تابعة للاجتماع وتحوله ، فما وافق حال الاجتماع من الاخلاق فهو الخلق الفاضل ، فيوما العفة ، ويوما الخلاعة ، ويوما الصدق ، ويوما الكذب ، ويوما الامانة ، ويوما الخيانة ، وهكذا.
    والثاني : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الاخلاق واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
    وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الامة المجتمعة من الانسان : أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط ، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية ، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل ، فيه بوار هذا النوع ، وهلاك الحقيقة الانسانية ، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه ، بدء من عنده وسيعود إليه ، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية ، حياة طويلة الذيل ، غير منقطع الامد ، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية ، وكيفية سلوك الانسان فيها ، واكتسابه الاحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه ، بادئا منه عائدا إليه ، وإذا بنى الانسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده ، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه ، واباد حقيقته.
    فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير ، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف : من قتل ، وضرب ، وهتك عرض ، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك ، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.
    فقال قائل منهم : عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والامتعة ، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي ، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.


(120)
     وقال قائل منهم : ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على اساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه ، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية ، ويأخذ بالرحمة لرفقائه ، والعطوفة والشهامة والفضيلة ، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الامتعة الموجودة ، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.
    وقد أخطا القائلان جميعا ، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر ، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك.
    والقائل المصيب بينهم هو من يقول : تمتعوا من هذه الامتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة ، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق ، وما أريد منكم في وطنكم ، وما تريدونه لمقصدكم.

    ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد ، والاعتقاد والاخلاق والافعال ، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على اساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ، وانهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد ، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل ، فالتشريع الديني والتقنين الالهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره ، قال تعالى : « إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون » يوسف ـ 40 ، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية ، فقارن بعثة الانبياء بالتبشير والانذار بإنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.
    ومن هذا الباب قوله تعالى : « وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون » الجاثية ـ 24 ، فإنهم إنما
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس