الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 91 ـ 105
(91)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    واما الاستدلال عليه بأن في النهي اخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية ابي موسى من قوله : ان نأخذ بكتاب الله فإن الله قال : واتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدى انتهى ، فقد عرفت ان الكتاب يدل على خلافه ، واما ان ترك التمتع سنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكونه لم يحل حتى نحر الهدى ففيه :
     اولا : انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الاخر التي مر بعضها آنفا.
    وثانيا : ان الروايات ناصة على ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صنعها ، وانه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اهل بالعمرة واهل ثانيا بالحج ، وانه خطب وقال : أبا لله تعلمون ايها الناس ، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية ان حج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان حج قران وان المتعة كانت تطلق على حج القران !
    وثالثا : ان مجرد عدم حلق الراس حتى يبلغ الهدى محله ليس احراما للحج ولا يثبت به ذلك ، والآيه ايضا تدل على ان سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق ، إذا لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.
    ورابعا : هب ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اتى بغير التمتع لكنه امر جميع اصحابه ومن معه بالتمتع ، وكيف يمكن ان يعد ما شأنه هذا سنته؟ وهل يمكن ان يتحقق امر خص به رسول الله نفسه ويأمر أمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس؟ !
    واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله : ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحوا بهن حجاجا انتهى ، وكما في بعض الروايات قد علمت ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعله واصحابه ولكني كرهت ان يعرسوا بهن في الاراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم انتهى ، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم ، والله ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه ! ومن أعجب


(92)
الامر أن الآيه التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه !
    واعجب منه : « ان الاصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول » الآية ! وامر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا : أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقام خطيبا ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.
    واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي عن سعيد بن المسيب من قوله : مع ان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى.
    ففيه أيضا : أنه اجتهاد في مقابل النص ، على ان الله سبحانه يرد عليه في نظير المسأله بقوله : « يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ان الله عليم حكيم » التوبة ـ 28.
    واما الاستدلال عليه بإن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي ( عليه السلام ) ولكنا كنا خائفين انتهى ، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور ، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال : يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر ، أو يحبسه امر حتى يذهب ايام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث.
    ففيه : ان الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت ان الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون


(93)
    قوله تعالى : « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » الآية.
    على أن جميع الروايات ناصة في ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اتى بحجه تمتعا ، وانه أهل بإهلالين للعمرة والحج.
    واما الاستدلال عليه : بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما في روايتي الدر المنثور عن ابي ذر ، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه ، وإن كان المراد انه كان حكما خاصا لاصحاب النبي لا يشمل غيرهم ، ففيه انه مدفوع بإطلاق قوله تعالى : « ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام » الآية.
    على ان إنكار بعض أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وابي موسى ومعاوية ( وروي ان منهم ابا بكر ) ينافي ذلك !
    واما الاستدلال عليه بالولاية وانه إنما نهى عنه بحق ولايته الامر وقد فرض الله طاعة أولي الامر إذ قال « اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم الآية » النساء ـ 54 ، ففيه ان الولاية التي جعلها القرآن لاهلها لا يشمل المورد.
    بيان ذلك : ان الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما انزله الله على رسوله كقوله تعالى : « اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم » الاعراف ـ 3 ، وما بينه رسول الله مما شرعه « ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله » التوبه ـ 29 ، وقوله تعالى : « ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » الحشر ـ 7 ، فالمراد بالايتاء الامر بقرينة مقابلته بقوله : وما نهيكم عنه ، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الاوامر وانتهاء النواهي ، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى : « ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون » المائدة ـ 45 ، وفي موضع آخر « فاولئك هم الفاسقون » المائدة ـ 47 ، وفي موضع آخر « فاولئك هم الكافرون » المائدة ـ 44 ، وقال تعالى : « وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا » الاحزاب ـ 36 ، وقال : « وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة » القصص ـ 68 فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك ، وقد نص القرآن على انه


(94)
كتاب غير منسوخ وان الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة ، قال تعالى : « وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد » فصلت ـ 42 ، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الامة ، أولي الامر فمن دونهم.
    ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : « اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم » إنما يجعل لاولى الامر حق الطاعة في غير الاحكام فهم ومن دونهم من الامة سواء في انه يجب عليهم التحفظ لاحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب ، فالذي يجب فيه طاعة اولي الامر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الامة فيه ، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.
    فكما ان الواحد من الناس له ان يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الاكل له من مال نفسه ، وله ان يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا ، وله ان يترافع إلى الحاكم إذا نازعه احد في ملكه ، وله ان يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع ، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الاحكام على حالها ، وليس له أن يشرب الخمر ، ولا له ان يأخذ الربا ، ولا له ان يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رأى صلاح نفسه في ذلك لان ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى ، هذا كله في التصرف الشخصي ، كذلك ولي الامر له ان يتصرف في الامور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الاحكام الالهية على ما هي عليها ، فيدافع عن ثغور الاسلام حينا ، ويمسك عن ذلك حينا ، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة ، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الانفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.
    وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين ان يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الامر من قبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.
    ولو جاز لولي الامر ان يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق ، ولم يكن لاستمرار الشريعه إلى يوم القيمة


(95)
معنى البتة ، فما الفرق بين ان يقول قائل : ان حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه ، وبين ان يقول القائل : ان اباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم اهمالها ، أو ان اجراء الحدود مما لا تهضمه الانسانية الراقية اليوم ، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟ !
    وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور : اخرج اسحق بن راعويه في مسنده ، واحمد عن الحسن : ان عمر بن الخطاب هم ان ينهي عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب ، فقال : ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزل عمر.
     ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ـ 204. وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ـ 205. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ـ 206. ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد ـ 207.
( بيان )
     تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما ان الآيات السابقة اعني قوله تعالى : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا « الخ » ، تشتمل على تقسيم لهم غير ان تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة ، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الايمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.
    قوله تعالى : « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا » « الخ » اعجبه الشئ


(96)
اي راقه وسره ، وقوله : في الحياة الدنيا ، متعلق بقوله : يعجبك ، اي ان الاعجاب في الدنيا من جهة ان هذه الحياة نوع حياة لا تحكم الا على الظاهر ، واما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب ، لا يشاهده الانسان وهو متعلق الحياة بالدنيا الا ان يستكشف شيئا من امر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه : من قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه ، والمعنى انه يتكلم بما يعجبك كلامه ، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق ، والعناية بصلاح الخلق ، وتقدم الدين والامه وهو اشد الخصماء للحق خصومة ، وقوله : الد ، افعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة ، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب ، وقيل : الخصام مصدر ، ومعنى ألد الخصام اشد خصومة.
    قوله تعالى : « وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها » « الخ » التولي هو تملك الولاية والسلطان ، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية : أخذته العزة بالاثم ، الدال على ان له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه ، والسعي هو العمل والاسراع في المشي ، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأوتي سلطانا وتولى امر الناس سعى في الارض ليفسد فيها ، ويمكن ان يكون التولي بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة ، اي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره ، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الارض لاجل الفساد والافساد.
    قوله تعالى : « ويهلك الحرث والنسل » ، ظاهرة انه بيان لقوله تعالى : ليفسد فيها اي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل ، ولما كان قوام النوع الانساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال : اما التوليد فظاهر ، واما التغذي فانما يركن الانسان فيه إلى الحيوان والنبات ، والحيوان يركن إلى النبات ، فالنبات هو الاصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات ، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى انه يفسد في الارض بإفناء الانسان وابادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.
    قوله تعالى : « والله لا يحب الفساد » ، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون


(97)
والوجود ( الفساد التكويني ) فإن النشأة نشأة الكون والفساد ، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد ، ولا حياة إلا بموت ، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية ، وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه.
    وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله انما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به اعمال عباده فيصلح اخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة البشرية ، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه في قوله تعالى : كان الناس أمه واحدة.
    فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الارض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها ، وتغيير حكم الله عما هو عليه ، والتصرف في التعاليم الدينية ، بما يؤدي إلى فساد الاخلاق واختلاف الكلمة ، وفي ذلك موت الدين ، وفناء الانسانية ، وفساد الدنيا ، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم اكتاف هذه الامة الاسلامية ، وتصرفهم في امر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين الا وبالا ، وللمسلمين الا انحطاط ، ا وللامة الا اختلافا ، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب ، ولا الانسانية الا خطفة لكل خاطف ، فنتيجة هذا السعي فساد الارض ، وذلك بهلاك الدين اولا ، وهلاك الانسانية ثانيا ، ولهذا فسر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية كما سيأتي انشاء الله.
    قوله تعالى : « وإذا قيل له اتق الله اخذتة العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد » ، العزة معروفة ، والمهاد الوطاء ، والظاهر ان قوله : بالاثم متعلق بالعزة ، والمعنى انه إذا أمر بتقوى الله اخذتة العزة الظاهرة التي اكتسبها بالاثم والنفاق المستبطن في نفسه ، وذلك ان العزة المطلقة انما هي من الله سبحانه كما قال تعالى : « تعز من تشاء وتذل من تشاء » آل عمران ـ 26 ، وقال تعالى : « ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين » المنافقين ـ 8 ، وقال تعالى : « أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا » النساء ـ 139.
    وحاشا ان ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب اثما أو شرا فهذه العزة انما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الامر عزة بحسب ظاهر الحياه الدنيا


(98)
لا عزة حقيقية اعطاها الله سبحانه لصاحبها.
    ومن هنا يظهر ان قوله : بالاثم ليس متعلقا بقوله : اخذته ، بأن يكون الباء للتعدية ، والمعنى حملته العزة على الاثم ورد الامر بالتقوى ، وتجيبه الآمر بما يسوئه من القول ، أو يكون الباء للسببية ، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الاثم الذي اكتسبه ، وذلك ان اطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم امضائها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها ، بخلاف ما لو سميت عزة بالاثم.
    واما قوله تعالى : « بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم اهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص » ص ـ 2 ، فليس من قبيل التسمية والامضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله : كم اهلكنا من قبلهم « الخ » فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا اصيلة.
    قوله تعالى : « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » « الخ » ، مقابلته مع قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله « الخ » يفيد ان الوصف مقابل الوصف أي كما ان المراد من قوله : ومن الناس من يعجبك ، بيان ان هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالاصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله : ومن الناس من يشري نفسه « الخ » ، بيان ان هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد الا ما اراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له الا بربه ولا ابتغاء له الا لمرضات الله تعالى ، فيصلح به امر الدين
    والدنيا ، ويحيى به الحق ، ويطيب به عيش الانسانية ، ويدر به ضرع الاسلام ، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر اعني قوله تعالى : والله رؤوف بالعباد ، بما قبله ، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين ، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة ، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى : « ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض » البقرة ـ 251 ، وقال تعالى :


(99)
« ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » الحج ـ 40 ، وقال تعالى : « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين » الانعام ـ 89 ، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه ، ولا هوى له إلا في ربه ، وإصلاح الارض ومن عليها ، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى : « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به » التوبة ـ 111 ، إلى غير ذلك من الآيات.
( بحث روائي )
    في الدر المنثور عن السدي : في قوله تعالى : « ومن الناس من يعجبك » الآية ، انها نزلت في الاخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة ، أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة وقال : جئت أريد الاسلام ويعلم الله اني لصادق فأعجب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك منه فذلك قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه ، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله : « وإذا تولى سعى في الارض » الآية.
    وفي المجمع عن ابن عباس : نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لانه يظهر خلاف ما يبطن ، قال : وهو المروي عن الصادق ( عليه السلام ).
    اقول : ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات. وفي بعض الروايات عن أئمه اهل البيت انها من الآيات النازلة في أعدائهم.
    وفي المجمع عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ويهلك الحرث والنسل : أن المراد بالحرث ههنا الدين ، والنسل الانسان.
    اقول : وقد مر بيانه ، وقد روي : ان المراد بالحرث الذرية والزرع ، والامر التطبيق سهل.
    وفي امالي الشيخ عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : « ومن الناس من يشري


(100)
نفسه » الآية ، قال : نزلت في علي ( عليه السلام ) حين بات على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    اقول : وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في شأن ليلة الفراش ، ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبي وغيره.
    وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب ، قال : لما اردت الهجرة من مكة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت لي قريش يا صهيب قدمت الينا ولا مال لك وتخرج انت ومالك ، والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ربح البيع صهيب مرتين.
    اقول : ورواه بطرق أخرى في بعضها ونزلت : « ومن الناس من يشري نفسه » الآية ، وفي بعضها نزلت في صهيب وابي ذر بشرائهما انفسهما بأموالهما وقد مر ان الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.
    وفي المجمع عن علي ( عليه السلام ) : ان المراد بالآية الرجل يقتل على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    اقول : وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص.
    يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ـ 208. فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ـ 209. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الامور ـ 210.


(101)
( بيان )
    هذه الآيات وهي قوله : يا ايها الذين آمنوا إلى قوله : « ألا إن نصر الله قريب » الآيه سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل ، وانه لم ينفصم وحدة الدين ، ولا ارتحلت سعادة الدارين ، ولا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم ، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها ، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الامم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الامة لكن الله يعدهم بالنصر : الا ان نصر الله قريب.
    قوله تعالى : « يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة » ، السلم والاسلام والتسليم واحدة وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا ، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة ، فهو امر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه ، فيجب ذلك على كل مؤمن ، ويجب على الجميع ايضا ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وايضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر إليه ، ولا يذعنوا لانفسهم صلاحا باستبداد من الرأي ولا يضعوا لانفسهم من عند انفسهم طريقا يسلكونه من دون ان يبينه الله ورسوله ، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم ، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف.
    ومن هنا ظهر : ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من امر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم ، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.
    وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك ايضا : فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك ، وإذا كان سالكه هو المؤمن ، وطريقه إنما هو طريق الايمان فهو طريق شيطاني في الايمان ، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم


(102)
فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان ، واتباعه اتباع خطوات الشيطان.
    فالآية نظيرة قوله تعالى : « يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » البقرة ـ 169 ، وقد مر الكلام في الآية ، وقوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر » النور ـ 21 ، وقوله تعالى : « كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين » الانعام ـ 142 ، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى : كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة ، فهذه الآية في معنى قوله تعالى : « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا » آل عمران ـ 103 ، و قوله تعالى : « وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله » الانعام ـ 153 ، ويستفاد من الآية أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس.
    قوله تعالى : « فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات » ، الزلة هي العثرة ، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم ـ والزلة هي اتباع خطوات الشيطان ـ فاعلموا ان الله عزيز غير مغلوب في امره ، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته ، ويجريه فيكم من غير ان يمنع عنه مانع.
    قوله تعالى : « هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام » « الخ » ، الظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به ، وظاهر الآية ان الملائكه عطف على لفظ الجلالة ، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله ش ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما اوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق ، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون ، أو بحيث لا يعبئ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك ، وإلى الله ترجع الامور ، فلا مفر من حكمه وقضائه ، فالسياق يقتضي ان يكون قوله : هل ينظرون ، هو الوعيد الذي اوعدهم به في قوله


(103)
تعالى في الآية السابقة « فاعلموا ان الله عزيز حكيم ».
    ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الاجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث ، ويلازم الفقر والحاجة والنقص ، فقد قال تعالى : « ليس كمثله شيء » الشورى ـ 11 ، وقال تعالى : « والله هو الغني » الفاطر ـ 15 ، وقال تعالى : « الله خالق كل شيء » الزمر ـ 62 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن ، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شيء من الصفات أو الافعال الحادثة إليه تعالى ينبغي ان يرجع إليها ، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافى صفاته العليا واسمائه الحسنى تبارك وتعالى ، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الاتيان إليه تعالى كقوله تعالى : « وجاء ربك والملك صفا صفا » الفجر ـ 22 ، وقوله تعالى : « فأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا » الحشر ـ 2 ، و قوله تعالى : « فأتى الله بنيانهم من القواعد » النحل ـ 26 ، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست اسمائه كالاحاطة ونحوها ولو مجازا ، وعلى هذا فالمراد بالاتيان في قوله تعالى : أن يأتيهم الله الاحاطة بهم للقضاء في حقهم.
    على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الافعال عن استقلال الاسباب ووساطة الاوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها إلى امره ك قوله تعالى : « الله يتوفى الانفس » الزمر ـ 42 ، وقوله تعالى : « يتوفيكم ملك الموت » السجدة ـ 11 ، و قوله تعالى : « توفته رسلنا » الانعام ـ 61 ، فنسب التوفي تارة إلى نفسه ، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى : « في أمر الملائكة بأمره يعملون » الانبياء ـ 27 ، وكذلك قوله تعالى : « ان ربك يقضي بينهم » يونس ـ 93 ، وقوله تعالى : « فإذا جاء أمر الله قضي بالحق » المؤمن ـ 78 ، وكما في هذه الآية : « ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام » الآية وقوله تعالى : « هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » النحل ـ 33.
    وهذا يوجب صحة تقدير الامر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير : جاء ربك ، ويأتيهم الله ، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله.


(104)
     فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك ، وذلك أن أمثال قوله تعالى : « والله هو الغني » الفاطر ـ 15 ، وقوله تعالى : « العزيز الوهاب » ص ـ 9 ، وقوله تعالى « اعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها ، ملئ بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى ، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى ، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته.
    فالمجئ والاتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب ، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات ، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز : فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم ، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير ، وركوبها كل سهل ووعر ، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة.
    وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة : إن الله عزيز حكيم ، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية : « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » النحل ـ 33 ، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى : « ولكل أمة رسول» يونس ـ 47 ، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى : « وأقم وجهك للدين حنيفا » الروم ـ 30 ، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا ، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا ، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.


(105)
     قوله تعالى : « وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور » ، السكوت عن ذكر فاعل القضاء ، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله : وإلى الله ترجع الامور ، لاظهار الكبرياء على ما يفعله الاعاظم في الاخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.
( بحث روائي )
    قد تقدم في قوله تعالى : « يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا » الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع ، وفي بعض الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مر مرارا في نظائره.
    وفي التوحيد والمعاني عن الرضا ( عليه السلام ) في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام قال : يقول : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت ، وعن قول الله عز وجل : « وجاء ربك والملك صفا صفا » قال : ان الله عز وجل لا يوصف بالمجئ والذهاب ، تعالى عن الانتقال وانما يعني به وجاء امر ربك والملك صفا صفا.
    اقول : قوله ( عليه السلام ) يقول هل ينظرون ، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائه.
    والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره فإن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر ، قال تعالى : « بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون » الانبياء ـ 27 ، وقال تعالى : « ينزل الملائكة بالروح من امره » النحل ـ 2.
    وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الانكاري في قوله : هل ينظرون الا ان يأتيهم الله الخ لانكار مجموع الجملة لا لانكار المدخول فقط ، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا امرا محالا وهو : أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم ، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال ، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات ، وفيه : أنه لا يلائم ما مر : أن الآيات
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس