الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 166 ـ 180
(166)
السامع.
    وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب ، محبين للسلم ، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعا ، بيان ذلك : أنه لو قيل : عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم ، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع ، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من اخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط ، وأما من اخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الا عتزال ، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إلى خطأه في الامرين جميعا ، فيقال له : لا في كرهك أصبت ، ولا في حبك اهتديت ، عسى ان تكره شيئا وهو خير لك وعسى ان تحب شيئا وهو شر لك لانك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إلى حقيقة الامر ، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به ايضا قوله تعالى سابقا : أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما : عسى ان تكرهوا ، وعسى ان تحبوا.
    قوله تعالى : « والله يعلم وانتم لا تعلمون » ، تتميم لبيان خطأهم ، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم ، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال بقوله : عسى ان تكرهوا ، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها ، وزوال صفة الجهل المركب عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الامور ، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته ، فعليكم ان تسلموا إليه سبحانه الامر.
    والآية في إثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى : « إن الله لا يخفى عليه شيء » آل عمران ـ 5 ، وقوله تعالى : « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » البقرة ـ 255 ، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله : « وقاتلوا في سبيل الله » البقرة ـ 190.
    قوله تعالى : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر ، واشتمالها مع ذلك على ان إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله ، وان الفتنة أكبر من القتل ، يؤذن


(167)
بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلا ، وانه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات « إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم » الآية ، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم ، وطعن الكفار به ، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه.
    قوله تعالى : « قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام » ، الصد هو المنع والصرف ، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج ، والظاهر ان ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد ، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
    والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام ، وقد قيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » التوبة ـ 6 ، وليس بصواب ، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.
    قوله تعالى : « وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل » ، أي والذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين ، وهم أهل المسجد الحرام ، منه اكبر من القتال ، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل ، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به ، ولم يكن المؤمنون فيما اصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.
    قوله تعالى : « ولا يزالون يقاتلونكم » إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.
    قوله تعالى : « ومن يرتدد منكم عن دينه » الخ تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار.

    والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره ، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى : « لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » الزمر ـ 65 ،


(168)
وقوله تعالى : « إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط اعمالهم ، يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا اعمالكم » محمد ـ 33 ، وذيل الآية يدل بالمقابلة على ان الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى : « وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون » هود ـ 16 ، ويقرب منه قوله تعالى : « وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا منثورا » الفرقان ـ 23.
    وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير ، وقد قيل : إن اصله من الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إلى هلاكه.
    والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الاعمال في الدنيا والآخرة معا ، فللحبط تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة ، فإن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة ، قال تعالى : « من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون » النحل ـ 97 ، وخسران سعى الكافر ، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الايمان ، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه ، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت ، وهو الله سبحانه ، يبتهج به عند النعمة ، ويتسلى به عند المصيبة ، ويرجع إليه عند الحاجة ، قال تعالى : « أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها » الانعام ـ 122 ، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في افعاله ، وليس للكافر ، ومثله قوله تعالى ، « فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى » طه ـ 124 ، حيث يبين ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة ، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيده رحبة وسيعة.
    وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى : « ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لامولى لهم » محمد ـ 11.
    فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة الحيوة ، لا خصوص الاعمال العبادية ، والافعال القربية التي كان المرتد عملها واتى بها حال الايمان ، مضافا إلى ان الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي ، ولا فعل قربي


(169)
لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى : « يا ايها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم واضل اعمالهم ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم » محمد ـ 9 ، وقوله تعالى : « ان الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين » آل عمران ـ 22 ، إلى غير ذلك من الآيات.
    فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن ان يؤثر في سعادة الحياة ، كما ان الايمان يوجب حياة في الاعمال تؤثر بها اثرها في السعادة ، فإن آمن الانسان بعد الكفر حييت اعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة ، وإن ارتد بعد الايمان ماتت اعماله جميعا وحبطت ، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية ، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.
    ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء اعمال المرتد إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.
    توضيح ذلك : انه ذهب بعضهم إلى ان أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت ، فإن لم يرجع إلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك ، واستدل عليه بقوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية وربما أيده قوله تعالى : « وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا منثورا » الفرقان ـ 23 ، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت ، ويتفرع عليه انه لو رجع إلى الايمان تملك اعماله الصالحة السابقة على الارتداد.
    وذهب آخرون إلى ان الردة تحبط الاعمال من اصلها فلا تعود إليه وان آمن من بعد الارتداد ، نعم له ما عمله من الاعمال بعد الايمان ثانيا إلى حين الموت ، واما الآية فإنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع اعماله وافعاله التي عملها في الدنيا !
     وانت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف ، ان لا وجه لهذا النزاع اصلا ، وان الآية بصدد بيان بطلان جميع اعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته !


(170)
     وهنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير ، وهي ان الاعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها ، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.
    ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الاعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم ، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس ، ولازمه ان لا يكون عند الانسان من عمله إلا حسنة فقط أو سيئة فقط ، ومن قائل بالموارنة وهو ان ينقص من الاكثر بمقدار الاقل ويبقى الباقي سليما عن المنافي ، ولازم القولين جميعا ان لا يكون عند الانسان من اعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.
    ويردهما اولا قوله تعالى : « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم والله غفور رحيم » التوبة ـ 102 ، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الاعمال وبقائها على حالها إلى ان تلحقها توبة من الله سبحانه ، وهو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه.
    وثانيا : أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الاعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الانساني من طريق المجازاة ، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الاحباط ، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد.
    وذهب آخرون إلى أن نوع الاعمال محفوظة ، ولكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة.
    نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى : « يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم » الانفال ـ 29 ، وقال تعالى : « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية » البقرة ـ 203 ، وقال تعالى : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » النساء ـ 31 ، بل بعض الاعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى : « إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات » الفرقان ـ 70.
    وهنا مسألة أخرى هي كالاصل لهاتين المسألتين ، وهي البحث عن وقت استحقاق


(171)
الجزاء وموطنه ، فقيل : إنه وقت العمل ، وقيل : حين الموت ، وقيل : الآخرة ، وقيل : وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقر عليه ، فيكتب ما يستحقه حال العمل.
    وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات ، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الاوقات بحسب الانطباق ، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.
    والذي ينبغي أن يقال : إنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الاعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية » ـ 26 ، كان لازم ذلك كون النفس الانسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية ، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب ، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب ، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها ، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده ، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتا لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.
    وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الالهية وترتب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الاطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب المدح والذم عليها ، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسئ بمجرد صدور الفعل عن فاعله ، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلا للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد والتمرد ، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه ، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.


(172)
    ومن هنا يعلم : أن في جميع الاقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.
    وأن الحق أولا : أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد ، وإنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.
    وثانيا : أن حبط الاعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الاجر يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند الموت.
    وثالثا : أن الحبط كما يتعلق بالاعمال الاخروية كذلك يتعلق بالاعمال الدنيوية.
    ورابعا : أن التحابط بين الاعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

     من أحكام الاعمال : أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى : ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى : « إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة » آل عمران ـ 22 ، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة ، قال تعالى :« قل يا عبادي الذين أسرفو على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم » الزمر ـ 55 ، وقال تعالى : « فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى » طه ـ 124.
    وأيضا : من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول ، قال تعالى : « إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا


(173)
تبطلوا اعمالكم سورة » محمد ـ 33 ، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الامر بالاطاعة في معنى النهي عن المشاقة ، وإبطال العمل هو الاحباط ، وكرفع الصوت فوق صوت النبي ، قال تعالى : « يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون » الحجرات ـ 2.
    وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة ، قال تعالى : « وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات » هود ـ 114 ، وكالحج ، قال تعالى : « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » البقرة ـ 203 ، وكاجتناب الكبائر ، قال تعالى : « ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » النساء ـ 31 ، وقال تعالى : « الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة » النجم ـ 32.
    وأيضا : « من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل ، قال تعالى : انى أريد ان تبوء بإثمى واثمك » المائدة ـ 29 ، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت ، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ.
    وأيضا : من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الانسان لاعينها ، قال تعالى : « ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم » النحل ـ 25 ، وقال : « وليحملن أثقالا وأثقالا وأثقالهم » العنكبوت ـ 13 ، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الانسان لاعينها ، قال تعالى : « ونكتب ما قدموا وآثارهم » يس ـ 12.
    وأيضا : من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب ، قال تعالى : « إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات » الاسراء ـ 75 ، وقال تعالى : « يضاعف لها العذاب ضعفين » الاحزاب ـ 30 ، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله ، قال تعالى : « مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة » البقرة ـ 261 ، ومثله ما في قوله تعالى : « أولئك يؤتون أجرهم مرتين » القصص ـ 54 ، وما في قوله تعالى : « يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم


(174)
نورا تمشون به ويغفر لكم » الحديد ـ 28 ، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا ، قال تعالى : « من جاء بالحسة فله عشر أمثالها » الانعام ـ 160.
    وأيضا : من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات ، قال تعالى : « إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات » الفرقان ـ 70.
     « وأيضا : من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير ، قال تعالى : الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرء بما كسب رهين » الطور ـ 21 ، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الايتام من نسل الظالم ، قال تعالى : « وليخش الذين لو تركوامن خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم » النساء ـ 9.
    وأيضا : من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره ، ويجذب حسنات الغير إليه ، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير ، ويجذب سيئاته إليه ، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق ، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى : « ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم » الانفال ـ 37.
    وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز.
    وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر : أن في الاعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم ، وذلك أن فعل الاكل مثلا من حيث انه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية ، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره ، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه ، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا ، ولا يتعداه إلى غيره ، ولا يتبدل بغيره ، ولا ينقلب عن هويته وذاته ، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لاغير وكان زيد ضاربا لاغير ، وكان عمرو مضروبا لاغير إلى غير ذلك من الامثلة ، لكن هذه الافعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الاحكام كما قال تعالى :


(175)
« وما ظلمونا ولكن كانوا انفسهم يظلمون » البقرة ـ 57 ، وقال تعالى : « ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله » الفاطر ـ 43 ، وقال تعالى : « انظر كيف كذبوا على انفسهم » الانعام ـ 24 ، وقال تعالى : « ثم قيل لهم اين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين » المؤمن ـ 74.
    وبالجملة : عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه ، وربما نقل الفعل واسنده إلى غير فاعله ، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
    ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الاعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى ( فيما حكاه في كتابه ) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الامور على المجرمين في حال الموت والبرزخ ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول. قال تعالى : « ونفخ في الصور فصعق من في السموات والارض إلا ما شاء الله ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون » الزمر ـ 70 ، وقد تكرر في القرآن الاخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى : « وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية » إبراهيم ـ 22.
    ومن هنا نعلم : أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الاعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
    والذي يحل به هذه العقدة : ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية ، وتمسك بالاصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية ، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والانبياء رسلا إليهم ، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر ، والتبشير والانذار ،


(176)
والوعد والوعيد ، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.
    وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس ، فهو يصرح أن الامر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم ، غير انه شيء لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى : « والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم » الزخرف ـ 4.
    فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الاحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد ، ومن لطيف الامر : أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الافهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة ، ممكنة التوجيه بها ، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول ، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته ، ففي المثال الاول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي ، وفي المثال الثاني بإن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة ، في عين أنها افعال للتابعين فيها ، فهي افعال لهم معا ، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
    وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له ، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل ، أو حسنات الغير حسنات للانسان ، أو للانسان امثال تلك الحسنات ، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
    فالقرآن الكريم يعلل هذه الاحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الانسان بفعل غيره خيرا أو شرا ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله ، وجعل الفعل غير نفسه ، إلى غير ذلك ، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الافهام العامة ، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس ، وكانت الاحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا ، وسينكشف على


(177)
الانسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى : « ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق » الاعراف ـ 53 ، وقال تعالى : « وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين ( إلى أن قال ) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله » يونس ـ 39.
    وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الاحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » الزلزال ـ 8 ، وقوله تعالى : « لا تزر وازرة وزر أخرى » الانعام ـ 164 ، وقوله تعالى : « كل امرء بما كسب رهين » الطور ـ 21 ، وقوله تعالى : « وأن ليس للانسان إلا ما سعى » النجم ـ 39 ، وقوله تعالى : « إن الله لا يظلم الناس شيئا » يونس ـ 44 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
    وذلك ان الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره ، وكذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع ، فالمعصية معصيتان ، وكذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته ، وفاعل كمثله ، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى : لا تزر وازرة وزر أخرى الآية ونظائرها من حيث الجزاء ، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.
    وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون » الزمر ـ 70 ، فقوله : « وهو أعلم بما يفعلون ، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من افعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند انفسهم من غير علم ولا عقل ، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن اصحاب السعير لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير » الملك ـ 10 ، وفي الآخرة ايضا حيث قال


(178)
« ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا » الاسراء ـ 72 ، وقال تعالى : « نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة » الهمزة ـ 7 ، وقال تعالى في تصديق هذا السلب : « قالت أخريهم لاوليهم ربنا هؤلاء اضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون » الاعراف ـ 38 ، فأثبت لكل من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب ، اما المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم ، واما التابعين فلضلالهم وإقامتهم امر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر انهم جميعا لا يعلمون.
    فإن قلت : ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى : « كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون » فصلت ـ 3 ، وكالآيات التي تحتج عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال ، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والادراك لهم فيه ، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى : « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد » ق ـ 22 ، وقوله تعالى : « ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » السجدة ـ 12.
    قلت : مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم ، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الاعمال عنهم كما قال تعالى : « وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا » الاسراء ـ 13 ، وقوله تعالى : « قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين » الزخرف ـ 38 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى : « يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون » البقرة ـ 242.
    وقد أجاب الامام الغزالي عن إشكال انتقال الاعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله : إن نقل الحسنات والسيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة ، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره ، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى : « لمن الملك اليوم لله


(179)
الواحد القهار » ، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة ، وما لا يعلمه الانسان فليس بموجود له وإن كان موجودا في نفسه ، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الان في حقه.
    فقد سقط بهذا قول من قال : إن المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل؟. فنقول : المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة ، ولكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها ، وأثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الانسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال ، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة ، وإن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟ ! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة والظلمة ، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة ، وبالظلم والقسوة يستعد القلب للحجاب والبعد ، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضاد كما قال تعالى : « إن الحسنات يذهبن السيئات » وقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اتبع السيئة الحسنة تمحقها والآثام تمحيصات للذنوب ، ولذلك قال ( عليه السلام ) : إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله ، وقال ( عليه السلام ) : الحدود كفارات.
    فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها ، والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور ، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم ، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيئات.
    فإن قال قائل : ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم ، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلا حقيقة.
    قلنا إسم النقل قد يطلق على مثل هذا الامر على سبيل الاستعارة كما يقال : انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر ، وانتقل نور الشمس أو السراج من الارض إلى الحائط


(180)
إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات ، فليس فيه إلا أنه كنى بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب ، وسمى إثبات الوصف في محل وابطال مثله في محل آخر بالنقل ، وكل ذلك شائع في اللسان ، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد ، انتهى ملخصا.
    أقول : محصل ما أفاده أن اطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق اي القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني : استعارة اسم الطاعة لاثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لامحاء شيء واثبات شيء آخر في محل آخر ، وإذا إطرد هذا الوجه في سائر احكام الاعمال المذكورة عادت جميع هذه الاحكام مجازات ، وقد عرفت انه سبحانه قرر هذه الاحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي ، ويبني عليه احكامه من المصالح والمفاسد ، ولاريب ان هذه الاحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة ، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد ان الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا.
    هذا حال هذه الاحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن احكام العقل العملي ، واما بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات الا بحسب التحليل بمعنى ان نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.

    ومن احكام الاعمال : انها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى : « يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امدا بعيدا » آل عمران ـ 30 ، وقال تعالى : « وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا » الاسراء ـ 13 ، وقال تعالى : « ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء احصيناه في إمام مبين » يس ـ 12 ، وقال تعالى : « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد » ق ـ 22 ، وقد مر البحث عن تجسم الاعمال.

    ومن احكام الاعمال : ان بينها وبين الحوادث الخارجية ارتباطا ، ونعني بالاعمال
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس