الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 181 ـ 195
(181)
الحسنات والسيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية دون الحركات والسكنات التي هي آثار الاجسام الطبيعية فقد قال تعالى : « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير » الشورى ـ 30 ، وقال تعالى : « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوئا فلا مرد له » الرعد ـ 11 ، وقال تعالى : « ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الانفال ـ 53 ، والآيات ظاهرة في ان بين الاعمال والحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.
    ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى : « ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون » الاعراف ـ 96 ، وقوله تعالى : « ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون » الروم ـ 41.
    فالحوادث الكونية تتبع الاعمال بعض التبعية ، فجرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات ، وانفتاح أبواب البركات ، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية ، وتماديه في الغي والضلالة وفساد النيات وشناعة الاعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الامم بفشو الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان واعماله ، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك ، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل.
    فالامة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها ، قال تعالى : « أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق » المؤمن ـ 21 ، وقال تعالى : « وإذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا » الاسراء ـ 16 ، وقال تعالى : « ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون » المؤمنون ـ 44 ، هذا كله في الامة الطالحة ،


(182)
والامة الصالحة على خلاف ذلك.
    والفرد كالامة يؤخذ بالحسنة والسيئة والنقم والمثلات غير ان الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما انه يؤخذ بمظالم غيره كابائه واجداده ، قال تعالى حكاية عن يوسف ( عليه السلام ) : « قال انا يوسف وهذا اخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع اجر المحسنين » يوسف ـ 90 ، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزة وغيرهما ، وقال تعالى : « فخسفنا به وبداره الارض » القصص ـ 81 ، وقال تعالى : « وجعلنا له لسان صدق عليا » مريم ـ 50 ، وكأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى : « جعلنا كلمة باقية في عقبه » الزخرف ـ 28 ، وقال تعالى : « وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فأراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما » الكهف ـ 82 ، وقال تعالى : « فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم » النساء ـ 9 ، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه. وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من افراد الانسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة انعمها عليه وامتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول : « قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام اكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم » النمل ـ 40 ، وقال تعالى : « لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » ابراهيم ـ 7 ، والآية كسابقتها تدل على ان نفس الشكر من الاعمال الصالحة التي تستتبع النعم.
    وان كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه واستدراجا وإملائا يملى عليه كما قال تعالى : « ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » الانفال ـ 30 ، وقال تعالى : « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون واملي لهم ان كيدي متين » القلم ـ 45 ، وقال تعالى : « ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون » الدخان ـ 17.
    وإذا انزلت النوازل وكرت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب ، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحك ، قال تعالى : « احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ام حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون » العنكبوت ـ 4


(183)
وقال تعالى : « وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء » آل عمران ـ 140.
    وإن كان المصاب طالحا كان ذلك اخذا بالنقمة وعقابا بالاعمال ، والآيات السابقة دالة على ذلك.
    فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله ، وأما قوله تعالى : « ولو لا ان يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين » الزخرف ـ 35 ، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به ( والله اعلم ) ذم الدنيا ومتاعها وانها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه ، ولذلك يؤثر للكافر ، وان القدر للآخرة ولو لا ان افراد الانسان امثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر.
    فان قيل : الحوادث العامة والخاصة كالسيول والزلازل والامراض المسرية والحروب والاجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت ، وعليه فلا محل للتعليل بالاعمال الحسنة والسيئة بل هو فرضية دينية ، وتقدير لا يطابق الواقع.
    قلت : هذا اشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى : « ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء » الاعراف ـ 64.
    وجملة القول فيه : ان الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبه لمقاصد القرآن واهله ، فهم لا يريدون بقولهم : ان الاعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا ، ابطال العلل الطبيعية وانكار تأثيرها ، ولا تشريك الاعمال مع العوامل المادية ، كما ان الالهيين لا يريدون بإثبات الصانع ابطال قانون العلية والمعلولية العام واثبات الاتفاق والمجازفة في الوجود ، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية واستناد بعض الامور إليه والبعض الآخر إليها ، بل مرادهم اثبات علة في طول علة ، وعامل معنوي فوق العوامل المادية ، واسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن


(184)
بالترتيب : اولا وثانيا ، نظير الكتابة المنسوبة إلى الانسان وإلى يده.
    ومغزى الكلام : هو ان سائق التكوين يسوق الانسان إلى سعادته الوجودية وكماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة ، ومن المعلوم ان من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الاعمال ، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو اشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد ، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من اعضائه فإن وفق له اصلح المحل وان عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به.
    وقد دلت المشاهدة والتجربة على ان الصنع والتكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجه إليه ، ولا معنى لاستثناء الانسان في نوعه وفرده عن هذه الكلية ! ودلتا ايضا على ان التكوين يعارض كل موجود نوعي بامور غير ملائمة تدعوه إلى اعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده ويوصله غايته وسعادته التي هيأها له ، فما بال الانسان لا يعتنى في شأنه بذلك؟ وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى « وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لا يعلمون » الدخان ـ 39 ، وقوله تعالى : « وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا » ص ـ 27 ، فكما ان صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا ومن غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرد ايجاده ، ولم يبال : إلى ما يؤل امره؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لامره شاهدا على راسه ، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لاجلها وركب اجزائه للوصول إليها اصلح حاله وتعرض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من راس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة ، كذلك الحال في خلق السموات والارض وما بينهما ومن جملتها الانسان ، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا ، ولم يوجده هبائا ، بل للرجوع إليه كما قال تعالى : « افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون » المؤمنون ـ 115 ، وقال تعالى : « وان إلى ربك المنتهى » النجم ـ 42 ، ومن الضروري حينئذ ان تتعلق العناية الربانية إلى


(185)
ايصال الانسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والارشاد ، ثم بالامتحان والابتلاء ، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية ، فإن في ذلك اتقانا للصنع في الفرد والنوع وختما للامر في امة وإراحة الآخرين ، قال تعالى : « وربك الغني ذو الرحمة ان يشاء يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشأكم من ذرية قوم آخرين » الانعام ـ 133 ، ( انظر إلى موضع قوله تعالى : وربك الغني ذو الرحمة ).
    وهذه السنة الربانية اعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي اخبر الله عنها انها سنة غير مغلوبة ولا مقهورة ، بل غالبة منصورة كما قال تعالى : « وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير وما انتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير » الشورى ـ 31 ، وقال تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون » الصافات ـ 173.
    ومن احكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء : ان قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء ، ومن خواص قبيل السعادة كل صفة وخاصة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والامن والتأصل والبقاء ، كما ان مقابلاتها من الزهاق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبية وما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.
    والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة ، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا : « كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء » إبراهيم ـ 27 ، و قوله تعالى : « ليحق الحق ويبطل الباطل » الانفال ـ 8 ، وقوله تعالى : « والعاقبة للتقوى » طه ـ 132 ، وقوله تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون » الصافات ـ 173 ، وقوله تعالى : « والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون » يوسف ـ 21 ، إلى غير ذلك من الآيات.
    وتذييل الكلام في هذه الآية الاخيرة بقوله : ولكن اكثر الناس لا يعلمون ، مشعر


(186)
بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل اكثرهم جاهلون بها ، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل احد لم يجهلها الاكثرون ، وانما جهلها من جهلها ، وانكرها من انكرها من جهتين :
     الاولى : ان الانسان محدود فكره ، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده ولا يغيب عنه ، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل ، ويحسب دولة يوم دولة ، ويعد غلبة ساعة غلبة ، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود ، لكن الله سبحانه ، وهو المحيط بالزمان والمكان ، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم على كل شيء إذا حكم حكم فصلا ، وإذا قضى قضى حقا ، والاولى ، والعقبى بالنسبة إليه واحدة ، لا يخاف فوتا ، ولا يعجل في أمر ، فمن الممكن ( بل الواقع ذلك ) ان يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر ، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمه ، فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب ( ساء ما يحكمون ) ، لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه ، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ، قال تعالى : « لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد » آل عمران ـ 196.
    والثانية : ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات ، فإن غلبة الجسمانيات وقهرها ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار ، وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد ، فكانوا يقتلون فريقا ، ويأسرون آخرين ، ويفعلون ما يشائون بالتحكم والتهكم ، وقد دل التجارب وحكم البرهان على ان الكره والقسر لا يدوم ، وان سلطة الاجانب لا يستقر على الامم الحية استقرارا مؤبدا ، وإنما هي رهينة أيام قلائل.
    وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها ، وبأن تربى أفرادا تعتقدها وتؤمن بها ، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإحكامه حصن ، فإذا استقر الايمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا وإن استخفى يوما أو برهة ، ولذلك نجد ان الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ اكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة


(187)
فسلاح المعنى أشد بأسا.
    هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شؤونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال والوهم ، وأما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح وأبين.
    فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال والباطل ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال ، ومن المعلوم ان الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل.
    والحق من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف ولا متخلف ، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا ، وإن غلب عليه عدو الحق ، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار ، ووافق ذلك رضاه تعالى ، قال تعالى : « إلا ان تتقوا منهم تقية » آل عمران ـ 28 ، وان قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا ، قال تعالى : « ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون » البقرة ـ 154.
    فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا ، اما ظاهرا وباطنا ، واما باطنا فقط ، قال تعالى : « قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين » التوبة ـ 52.
    ومن هنا يظهر : أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا وباطنا معا ، أما ظاهرا : فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الانساني هداية تكوينية إلى الحق والسعادة ، وسوف يبلغ غايته ، فإن الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به ، وانما هو مقدمة لظهور الحق ولما ينقض سلسلة الزمان ولما يفن الدهر ، والنظام الكوني غير مغلوب البتة ، وأما باطنا : فلما عرفت ان الغلبة لحجة الحق.
    واما ان لحق القول الفعل كل صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن ، ولباطل القول والفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الابحاث : ان المستفاد من قوله تعالى : « ذلكم الله ربكم خالق كل شيء » المؤمن ـ 62 ، وقوله تعالى : « الذي أحسن كل شيء خلقه الم » السجدة ـ 7 وقوله تعالى « ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك » النساء ـ 79 ، ان السيئات اعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض


(188)
للوجود بخلاف الحسنات ، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كل جمال وحسن ، ومنبع كل خير وسعادة كالثبات والبقاء ، والبركة والنفع دون السيئ من القول والفعل ، قال تعالى : « أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض » الرعد ـ 17.
    ومن احكام الاعمال : ان الحسنات من الاقوال والافعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الافعال والاقوال ، وقد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل ( ونعني بالعقل ما يدرك به الانسان الحق والباطل ، ويميز به الحسن من السيئ ).
    ولذلك أوصى باتباعه ونهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغش والغرر في المعاملات ، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الافعال والاعمال توجب خبط العقل الانساني في عمله وقد ابتنيت الحياة الانسانية على سلامة الادراك والفكر في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية.
    وأنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية والفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت ان الاساس فيها هي الاعمال التي يبطل بها حكومة العقل ، وان بقية المفاسد وان كثرت وعظمت مبنية عليها ، ولتوضيح الامر في هذا المقام محل آخر سيأتي إنشاء الله تعالى.
( بحث روائي )
    في الدر المنثور : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله ، قلت : يا رسول الله فأين وقد قرات القرآن؟ قال وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.


(189)
     اقول : وفي الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإنما يختلف باختلاف الاعتبار ، واما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه ، وقد مر ان عسى في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين : كل شيء في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب ! واعجب منه ما نقل عن بعض آخر : ان كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين : حرف في التحريم : عسى ربه إن طلقكن ، وفي بني إسرائيل عسى ربكم ان يرحمكم.
    وفي الدر المنثورايضا : اخرج ابن جرير من طريق السدي : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث سرية وفيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الاسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن صفوان السلمي حليف لبنى نوفل ، وسهل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة.
    وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب ، وكتب مع ابن جحش كتابا وأمره ان لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه ان سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لاصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لامر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان ، أضلا راحلة لهما ، وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان ، وعمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة وانفلت المغيرة ، وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها اصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلما رجعوا إلى المدينة بالاسيرين وما غنموا من الاموال ، قال المشركون : محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله : يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين اكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمدا ، والفتنة وهي الشرك اعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله : وصد عن سبيل الله وكفر به.
    اقول : والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم ، وروي هذا المعنى ايضا في المجمع ، وفي بعض الروايات : ان السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم ، وفي الدر المنثور أيضا : أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد الله بن جحش إلى


(190)
نخلة فقال له : كن بها حتى تأتينا بخبر من اخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتابا قبل ان يعلمه انه يسير ، فقال اخرج انت واصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه ، فما أمرتك به فامض له ، ولا تستكرهن أحدا من اصحابك على الذهاب معك ، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه : ان امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من اخبار قريش بما اتصل اليك منهم ، فقال لاصحابه حين قرء الكتاب : سمع وطاعة ، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ، فإني ماض لامر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني ان استكره منكم أحدا فمضى معه القوم ، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه ، فتخلفا عليه يطلبانه ، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة ، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف ، أدم وزيت ، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا ، قال عمار : ليس عليكم منه بأس ، وائتمر القوم بهم اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو آخر يوم من جمادي ، فقالوا : لئن قتلتموهم انكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب المغيرة فأعجزهم ، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، فأوقف رسول الله الاسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا ، فلما قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما قال سقط في ايديهم وظنوا ان قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش ـ حين بلغهم أمر هؤلاء ـ : قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال ، وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام ، فأنزل الله في ذلك : يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية ، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العير وفدى الاسيرين ، فقال المسلمون : ـ يا رسول الله ! أتطمع ان يكون لنا غزوة؟ فانزل الله : « إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله » ، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش.
    اقول : وفي كون قوله تعالى : « إن الذين آمنوا والذين هاجروا » الآية ، نازلة في أمر


(191)
أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر ، والآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء ، وتدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب.
    وفي الروايات إشارة إلى ان المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك ، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين ، ويؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق : ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كلهن في القرآن : منهن يسألونك عن الخمر والميسر ، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية ، ويؤيد ذلك ان الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم.
     يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ـ 219. في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم ـ 220.
( بيان )
     قوله تعالى : « يسألونك عن الخمر والميسر » ، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر ، والاصل في معناه الستر ، وسمي به لانه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر ، ويقال : لما تغطي به المرأة رأسها الخمار ، ويقال : خمرت الاناء إذا غطيت رأسها ، ويقال : أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير ، وسميت الخميرة خميرة لانها تعجن أولا ثم تغطى وتخمر من قبل ، وقد كانت العرب لا تعرف من اقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير ، ثم زاد الناس في اقسامه


(192)
تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر ، والجميع خمر.
    والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والاصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل ، وقد كان اكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار ، وهو الضرب بالقداح وهي السهام ، وتسمى أيضا : الازلام والاقلام.
    وأما كيفيتة فهي انهم كانوا يشترون جزورا وينحرونه ، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزئا ، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى ، والمنيح ، والسنيح ، والرغد ، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزئا ، وللتوأم جزئان ، وللرقيب ثلاثة أجزاء ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلي سبعة ، وهو أكثر القداح نصيبا ، وأما الثلاثة الاخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها ، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الاجزاء المفروضة ، وصاحبوا القداح الثلاثة الاخيرة يغرمون قيمة الجزور ، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الانصباء والسهام.
    قوله تعالى : « قل فيهما إثم كبير » ، وقرء إثم كثير بالثاء المثلثة ، والاثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشئ أو في العقل يبطئ الانسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاخرى وهذان على هذه الصفة.
    أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والامعاء والكبد والرئة وسلسلة الاعصاب والشرائين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما الف فيه تأليفات من حذاق الاطباء قديما وحديثا ، ولهم في ذلك احصائات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الامراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.
    وأما مضراته الخلقية : من تشويه الخلق وتأديته الانسان إلى الفحش ، والاضرار والجنايات ، والقتل وإفشاء السر ، وهتك الحرمات ، وإبطال جميع القوانين والنواميس الانسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة ، وخاصة ناموس العفة في


(193)
الاعراض والنفوس والاموال ، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل ، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملات الدنيا ونغصت عيشة الانسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.
    وأما مضرته في الادراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الانسان وتغييره مجرى الادراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ا فيه من الاثم والفساد ، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاخر.
    والشريعة الاسلامية كما مرت إليه الاشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم ، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهى كالخمر ، والميسر ، والغش ، والكذب ، وغير ذلك ، ومن اشد الافعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الافعال وقول الكذب والزور من بين الاقوال.
    فهذه الاعمال أعني : الاعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الانسانية ، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة الا وهي امر من سابقتها ، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة ، فخاب السعي ، وخسر العمل ، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء الا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا ، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة انشاء الله.
    ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الاعمال الشهوانية اسرع من شيوع الحق والحقيقة ، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجرى على نواميس السعادة الانسانية ، ولذلك ان الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الاحكام على سبيل التدريج ، وكلفهم بالرفق والامهال.
    ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في إلآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات : احديها : قوله تعالى : « قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق » الاعراف ـ 33 ، والآية مكية حرم فيها الاثم صريحا ، وفي الخمر


(194)
اثم غير انه لم يبين ان الاثم ما هو وان في الخمر اثما كبيرا.
    ولعل ذلك انما كان نوعا من الارفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الاغماض كما يشعر به ايضا قوله تعالى : « ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا » النحل ـ 67 ، والآية أيضا مكية ، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى : « يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى » النساء ـ 43 ، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في افضل الحالات وفي افضل الاماكن وهي الصلاة في المسجد.
    والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى ان تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق ، ولا معنى للنهى الخاص بعد ورود النهى المطلق ، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الاسهل إلى الاشق لا بالعكس.
    ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى : ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الاثم في الخمر فيهما إثم كبير وتقدم نزول آية الاعراف المكية الصريحة في تحريم الاثم.
    ومن هنا يظهر : فساد ما ذكره بعض المفسرين : ان آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير لا يدل على أزيد من ان فيه إثما والاثم هو الضرر ، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة اخرى ، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة ، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون ، كأنهم رأوا انهم يتيسر لهم ان ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى : فهل أنتم منتهون.
    وجه الفساد أما أولا : فإنه أخذ الاثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الاثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع ، وكيف يمكن أخذ الاثم بمعنى الضرر في قوله تعالى : « ومن يشرك بالله فقد افترى إثما


(195)
عظيما » النساء ـ 47 ، وقوله تعالى : « فإنه آثم قلبه » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : « ان تبوء بإثمي وإثمك » المائدة ـ 29 ، وقوله تعالى : « لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم » النور ـ 11 ، وقوله تعالى : « ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه » النساء ـ 111 ، إلى غير ذلك من الآيات.
    وأما ثانيا : فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر ، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة ، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول وإثمهما أكبر من نفعهما وارجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد ، اجتهاد في مقابل النص.
    واما ثالثا : فهب ان الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الاثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الاعراف المحرمة للاثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية.
    على ان آية الاعراف تدل على تحريم مطلق الاثم وهذه الآية قيدت الاثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في ان الخمر فرد تام ومصداق كامل للاثم لا ينبغي الشك في كونه من الاثم المحرم ، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالاثم ولم يصف الاثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى : « ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما » النساء ـ 48 ، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.
    ثم نزلت آيتا المائدة : « يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون » المائدة ـ 91 ، وذيل الكلام يدل على ان المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل : فهل أنتم منتهون ، هذا كله في الخمر.
    واما الميسر : فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة امر مشهود معاين ، والعيان يغني عن البيان ، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة انشاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى : قل فيهما اثم
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس