الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 196 ـ 210
(196)
كبير ومنافع للناس ، قد مر الكلام في معنى الاثم ، واما الكبر فهو في الاحجام بمنزلة الكثرة في الاعداد ، والكبر يقابل الصغر كما ان الكثرة تقابل القلة ، فهما وصفان اضافيان بمعنى ان الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر اكبر منه ، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلة ، ويشبه ان يكون اول ما تنبه الناس لمعنى الكبر انما تنبهوا له في الاحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية ، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها ، قال تعالى : « إنها لاحدى الكبر » المدثر ـ 35 ، وقال تعالى : « كبرت كلمة تخرج من أفواههم » الكهف ـ 5 ، وقال تعالى : « كبر على المشركين ما تدعوهم إليه » الشورى ـ 13 ، والعظم في معناه كالكبر ، غير ان الظاهر ان العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد اجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الاصلية.
    والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الامور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما ان الخير والشر يطلقان على الامور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها ، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي ، ولما قوبل ثانيا بين الاثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع والغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل : واثمهما اكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.
    قوله تعالى : « ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو » ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة ، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الاثر والعفو بمعنى التوسط في الانفاق ، وهذا هو المقصود في المقام ، والله العالم.
    والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى : « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين » الآية.
    قوله تعالى : « يبين الله لكم » إلى قوله : في الدنيا والآخرة ، الظرف أعني قوله


(197)
تعالى : في الدنيا والآخرة ، متعلق بقوله : تتفكرون وليس بظرف له ، والمعنى لعلكم تتفكرون في امر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما ، وان الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
    وفي الآية أولا : حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة ، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الاخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية ، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الانسان وشقاوته.
    وثانيا : ان القرآن وان كان يدعو إلى الاطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد ، غير انه لا يرضي ان يؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الامر ، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.
    وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الاحكام والقوانين ، وايضاح اصول المعارف والعلوم.
    قوله تعالى : « ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير » ، في الآية اشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى ، ثم قيل ولو شاء الله لاعنتكم ، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في امر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى ، والامر على ذلك ، فإن ههنا آيات شديدة اللحن في امر اليتامى كقوله تعالى « ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا » النساء ـ 10 وقوله تعالى : « وآتوا اليتامى اموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا » النساء ـ 2 ، فالظاهر ان الآية نازلة بعد آيات سورة النساء ، وبذلك يتأيد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي ، وفي قوله تعالى : قل إصلاح لهم خير ، حيث نكر الاصلاح ، دلالة على ان المرضي عند الله سبحانه نوع من الاصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحا في ظاهر الامر فقط ،


(198)
فالتنكير في قوله تعالى : إصلاح لافاده التنويع فالمراد به الاصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة ، ويشعر به قوله تعالى ـ ذيلا ـ : والله يعلم المفسد من المصلح.
    قوله تعالى : « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم ، وبذلك يحصل التوازن بين اثقال الاجتماع ، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي ، وبين الغني المثرى والفقير المعدم ، وكذا كل ناقص وتام ، وقد قال تعالى : « إنما المؤمنون إخوة » الحجرات ـ 10.
    فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم ان يكون كالمخالطة بين الاخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس ، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له ، فالاية تحاذي قوله تعالى : « وآتوا اليتامى أموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا » النساء ـ 2 ، وهذه المحاذاة من الشواهد على ان في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها ، وكما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح ، فالمعنى : ان المخالطة ان كانت ( وهذا هو التخفيف ) فلتكن كمخالطة الاخوين ، على التساوي في الحقوق ، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لو كان بغرض الاصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير ، ولا يخفى حقيقة الامر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.
    قوله تعالى : « والله يعلم المفسد من المصلح » إلى آخر الآية ، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز ، والعنت هو الكلفة والمشقة.
( بحث روائي )
     في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدى أبا الحسن ( عليه السلام ) عن الخمر : هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : بل هي محرمة فقال : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله تعالى : إنما حرم ربي الفواحش ما


(199)
ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق ( إلى ان قال : ) فأما الاثم فإنها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر واثمهما اكبر من نفعهما كما قال الله تعالى ، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية ، فقلت له : صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، قال : فو الله ما صبر المهدي ان قال لى : صدقت يا رافضي.
    اقول : وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية.
    وفي الكافي أيضا عن ابى بصير عن احدهما ( عليهما السلام ) قال : إن الله جعل للمعصية بيتا ، ثم جعل للبيت بابا ، ثم جعل للباب غلقا ، ثم جعل للغلق مفتاحا ، فمفتاح المعصية الخمر.
    وفيه أيضا عن ابى عبد الله ( عليه السلام ) قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن الخمر رأس كل إثم.
    وفيه عن اسماعيل قال : أقبل أبو جعفر ( عليه السلام ) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا : هذا إله أهل العراق فقال بعضهم : لو بعثتم إليه بعضكم ، فأتاه شاب منهم : فقال يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال ( عليه السلام ) : شرب الخمر.
    وفيه أيضا عن ابى البلاد عن احدهما ( عليهما السلام ) قال : ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر ، إن احدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على امه وابنته ، واخته وهو لا يعقل.
    وفي الاحتجاج : سأل زنديق أبا عبد الله ( عليه السلام ) : لم حرم الله الخمر ولالذة أفضل منها؟ قال : حرمها لانها ام الخبائث ورأس كل شر ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية الاركبها الحديث.
    اقول : والروايات تفسر بعضها بعضا ، والتجارب والاعتبار يساعدانها.
    وفي الكافي عن جابر عن ابى جعفر ( عليه السلام ) قال : لعن رسول الله في الخمر عشرة : غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ،


(200)
وبايعها ، ومشتريها وآكل ثمنها.
    وفي الكافي والمحاسن عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.
    اقول : وتصديق الروايتين قوله تعالى : « ولا تعاونوا على الاثم والعدوان » المائدة ـ 3.
    وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : عاق ، ومنان ، ومكذب بالقدر ، ومدمن خمر.
    وفي الامالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق ( عليه السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال : إن شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودا وجهه ، مزرقة عيناه ، مائلا شدقه ، سائلا لعابه ، والغا لسانه من قفاه.
    وفي تفسير القمي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : حق على الله ان يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات ، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد ، والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه.
    اقول : ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى : « إن شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم » الدخان ـ 49. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.
    وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول : الميسر هو القمار.
    اقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.
    وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عباس : إن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا ، فما ننفق منها ، فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالا يأكل حتى يتصدق به.


(201)
    وفي الدر المنثور أيضا عن يحيى : أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالا : يارسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله : ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.
    وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : العفو الوسط.
    وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق ( عليه السلام ) : الكفاف. وفي رواية أبي بصير : القصد.
    وفيه أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) : في الآية : الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، قال : هذه بعد هذه ، هي الوسط.
    وفي المجمع عن الباقر ( عليه السلام ) : العفو ما فضل عن قوت السنة.
    اقول : والروايات متوافقة ، والاخيرة من قبيل بيان المصداق.
    والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء ، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.
    وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى : عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إنه لما نزلت : « إن الذين يأكلون أموال اليتامى » : « ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا » ، أخرج كل من كان عنده يتيم ، وسالوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله : يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.
    وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، « وإن الذين يأكلون أموال اليتامى » الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأنزل الله : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
    اقول : وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.


(202)
     ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ـ 221.
( بيان )
    قوله تعالى : « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » ، قال الراغب في المفردات : أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ، ومحال ان يكون في الاصل للجماع ثم استعير للعقد لان أسماء الجماع ، كلها كنايات ، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه ، انتهى ، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود.
    والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه ، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان ، فالقول بتعدد الاله واتخاذ الاصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة ـ وخاصة ـ إنهم قالوا : عزير ابن الله أو المسيح ابن الله ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحبائه وهو شرك ، وأخفى منه القول باستقلال الاسباب والركون إليها وهو شرك ، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته ، فكل ذلك من الشرك ، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به ، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا ، قال تعالى : « ولله على الناس حج البيت ( إلى أن قال ) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين آل » عمران ـ 97 ، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة ، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافر بالحج ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين ، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل


(203)
الافعال المشاركة لها في مادتها ، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم ، ولاسناد الفعل حكم آخر.
    على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى : « لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة » البينة ـ 1 ، وقوله تعالى : « إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام » التوبة ـ 28 ، وقوله تعالى : « كيف يكون للمشركين عهد » التوبة ـ 7 ، وقوله تعالى : « وقاتلوا المشركين كافة » التوبة ـ 36 ، وقوله تعالى : « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » التوبة ـ 5 إلى غير ذلك من الموارد.
    وأما قوله تعالى : « وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين » البقرة ـ 135 ، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى : « ماكان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين » آل عمران ـ 67 ، ففي إثبات الحنف له ( عليه السلام ) تعريض لاهل الكتاب ، وتبرئه لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى معنوية النصارى محضا بل هو ( عليه السلام ) غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا المشركين عبدة الاوثان.
    وكذا قوله تعالى : « وما يؤمن أكثر هم بالله إلا وهم مشركون » يوسف ـ 106 ، وقوله تعالى : « وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة » فصلت ـ 7 ، وقوله تعالى : « إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون » النحل ـ 100 ، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن ، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين ، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الاولياء المقربون من صالحي عباد الله.
    فقد ظهر من هذا البيان على طوله : ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.
    ومن هنا يظهر : فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى :


(204)
« اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية » المائدة ـ 6.
    أو أن الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، وآية الممتحنة اعني قوله تعالى : « ولا تمسكوا بعصم الكوافر » الممتحنة ـ 10 ، ناسختان لآية المائدة ، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة.
    وجه الفساد : ان هذه الاية اعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها ، وكذا آية الممتحنة وإن اخذ فيها عنوان الكوافر وهو اعم من المشركات ويشمل اهل الكتاب ، فإن الظاهر ان اطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى « من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين » البقرة ـ 98 إلا أن ظاهر الاية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها ، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.
    ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتدائا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة ، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف ، على ما يعطيه التدبر في سياقها ، فهي ابية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة ، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.
    على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة ، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.
    قوله تعالى : « ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم » ، الظاهر أن المراد بالامة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الاماء ويعيرون من


(205)
تزوج بهن ، فتقييد الامة بكونها مؤمنة ، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الاماء واستذلالهن ، والتحرز عن التزوج بهن يدل على ان المراد أن المؤمنة وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الانسان بحسب العادة.
    وقيل : ان المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية امة الله وعبده ، وهو بعيد.
    قوله تعالى : « ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن » الخ ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.
    قوله تعالى : « اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى والمغفرة والجنة بإذنه » ، اشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم ، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل ، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق ، والمعمية عن أبصار طريق الحق والحقيقة ، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك ، والدلالة إلى البوار ، والسلوك بالاخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار ، والمؤمنون ـ بخلافهم ـ بسلوكهم سبيل الايمان ، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة باذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الايمان ، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى الجنة والمغفرة.
    وكان حق الكلام أن يقال : وهؤلاء يدعون إلى الجنة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على ان المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية إلى ربهم ، لا يستقلون في شيء من الامور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه : « والله ولي المؤمنين » آل عمران ـ 68.
    وفي الآية وجه آخر : وهو ان يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن الخ ، فان جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والانس به الا البعد من الله سبحانه ، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة ، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى : « ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون » ، ويمكن ان يراد


(206)
بالدعوة الاعم من الوجهين ، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.
( بحث روائي )
     في المجمع في الآية : نزلت في مرئد بن ابى مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويا شجاعا ، فدعته امرأة يقال لها : عناق إلى نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية ، فقالت : هل لك ان تتزوج بي؟ فقال : حتى استاذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلما رجع استاذن في التزوج بها.
    اقول : وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس.
    وفي الدر المنثور اخرج الواحدي من طريق السدي عن ابى مالك عن ابن عباس في هذه الآية : ولامة مؤمنة خير من مشركة ، قال.
    نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له امة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فاتي النبي ليالله عليه وآله وسلم فاخبره خبرها ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ماهي يا عبد الله؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد ان لا إله إلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله ، هذه مؤمنة فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق لاعتقها ولاتزوجها ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح امة ، وكانوا يريدون ان ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم فانزل الله فيهم : ولامة مؤمنة خير من مشركة
     وفيه ايضا عن مقاتل في الآية ولآمة مؤمنة ، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة فاعتقها وتزوجها حذيفة.
    اقول : لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في اسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها ، وهنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، الآية ناسخا لقوله تعالى : « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، أو منسوخا به ، ستمر بك في تفسير الآية من سورة المائدة.
     ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله


(207)
يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ 222. نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ـ 223
( بيان )
    قوله تعالى : « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى » الخ المحيض مصدر كالحيض يقال : حاضت المرئة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء ، ولذلك يقال هي حائض كما يقال : هي حامل.
    والاذى هو الضرر على ما قيل ، لكنه لا يخلو عن نظر ، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما ان الضرر مقابل النفع وليس بصحيح ، يقال : دواء مضر وضار ، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر ، وايضا قال تعالى : « لن يضروكم الا اذى » آل عمران ـ 111 ، ولو قيل لن يضروكم إلاضررا لفسد الكلام ، وايضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في امثال قوله تعالى : « ان الذين يؤذون الله ورسوله » الاحزاب ـ 57 ، وقوله تعالى : « لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم » الصف ـ 5 ، فالظاهر ان الاذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.
    وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للارضاع ، واما على قولهم : ان الاذى هو الضرر فقد قيل : ان المراد بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض ، والمعنى : يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال
    فاجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الاطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل ، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.


(208)
     قوله تعالى : « فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن » ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة ، يقال : عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الانصباء ، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن ، والمراد بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين.
    وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى : فكانت اليهود تشدد في أمره ، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع ، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض ، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك ، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه ، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير ان العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في امر المحيض والتشديد في امر معاشرتهن في هذا الحال ، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.
    وكيف كان فقوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود ، ويؤكده قوله تعالى ثانيا : ولا تقربوهن ، إلا ان قوله تعالى اخيرا فأتوهن من حيث امركم الله ـ ومن المعلوم انه محل الدم ـ قرينة على ان قوله : فاعتزلوا ولا تقربوا ، واقعان موقع الكناية لا التصريح. <والمراد به الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.
    فالاسلام قد اخذ في امر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والاهمال المطلق الذي عليه النصارى ، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض ، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال : فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الاول اريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الاول ، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.
    قوله تعالى : « حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله » ، الطهارة وتقابلها النجاسة ـ من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية ، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من


(209)
الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الاصول.
    وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.
    فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمأرب العيش فالانسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى ، ويرغب فيه لذلك ، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد.
    وربما عرض للشئ عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه ، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون ، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه ، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشئ فيجتنبه ، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة ، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الاشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها ، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها.
    وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للامور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالانساب والافعال والاخلاق والعقائد والاقوال.
    هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس ، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات ، والنزاهة أصلها البعد ، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة ، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات ، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة ، لكن الاصل في القذارة معنى البعد ، يقال : ناقة قذرور تترك ناحية من الابل وتستبعد ويقال : رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم ، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس ، ويقال : قذرت الشئ بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته ، وعلى


(210)
هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعد الانسان عنه ، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء ، وكأن الاصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.
    وقد اعتبر الاسلام معنى الطهارة والنجاسة ، وعممهما في المحسوس والمعقول ، وطردهما في المعارف الكلية ، وفي القوانين الموضوعة ، قال تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية ، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم ، وقال تعالى : « وثيابك فطهر » المدثر ـ 4 ، وقال تعالى : « ولكن يريد ليطهركم » المائدة ـ 6 ، وقال تعالى : « أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم » المائدة ـ 41 ، وقال تعالى : « لا يمسه إلا المطهرون » الواقعة ـ 79.
    وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة ، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلوة وفي الاكل وفي الشرب ، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الاعيان النجسة ، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.
    وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد ، وينشر الاصل الواحد في فروعه.
    ومن هنا يظهر : أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه ، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان ، وبعد ذلك أصول الاخلاق الفاضلة ، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة ، وعلى هذا الاصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى : « يريد ليطهركم » المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى : « ويطهركم تطهيرا » الاحزاب ـ 33 ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.
    ولنرجع إلى ماكنا فيه فقوله تعالى : حتى يطهرن ، أي ينقطع عنهن الدم ، وهو الطهر بعد الحيض ، وقوله تعالى : فإذا تطهرن اي ، يغسلن محل الدم أو يغتسلن ، قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، امر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر ، وهو
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس