الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 211 ـ 225
(211)
كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الادب الالهي البارع ، وتقييد الامر بالاتيان بقوله امركم الله ، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما امر الله به امرا تكوينيا للدلالة على انه مما يتم به نظام النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من اصول النواميس التكوينية.
    وهذه الآية أعني قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، تماثل قوله تعالى : « فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم » البقرة ـ 187 ، وقوله تعالى : « فأتوا حرثكم انى شئتم وقدموا لانفسكم » البقرة ـ 223 ، من حيث السياق ، فالظاهر ان المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالاعضاء والقوى الهادية إلى التوليد ، كما ان المراد بالكتابة في قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك ، وهو ظاهر ، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي المتعلق بالازواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.
    وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه ، فإنه مبني إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى : فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته ، وإما على الاستدلال بدلالة الامر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف.
    على ان الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى : فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب ، ولو كان بالامر في قوله تعالى : من حيث امركم الله ، فهو إن كان امرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية ، وإن كان امرا تشريعيا كان للايجاب الكفائي ، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للامر الايجابي العيني المولوي.
    قوله تعالى : « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » ، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الاخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الاصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه ، وخاصة


(212)
في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة ، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه ، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله : « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » ، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم ، أعني قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في الميحض ، وقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله ، والآية أعني قوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه ، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى : المتطهرين ، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله : التوابين ، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا ، أعني : إن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة ، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه ، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر.
    قوله تعالى : « نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الارض التي يعمل فيها الحرث والزراعة ، وأنى من اسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى ، وربما استعمل في المكان أيضا ، قال تعالى : « يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله » آل عمران ـ 37 ، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم ، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم ، وكيف كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله : شئتم ، وهذا هو الذي يمنع الامر أعني قوله تعالى : فأتوا حرثكم ، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لايجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته.
    ثم إن تقديم قوله تعالى : نساءكم حرث لكم ، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن ، فإن كان الاطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية الاطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية ، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض ، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه


(213)
    أن ينسخه آية الحرث ، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما ، ودلالتها أيضا على أن تحريم الاتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائما ، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى : « ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم » المائدة ـ 6.
    ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، المشتمل أولا على التوسعة ، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ، ومن هذا البيان يظهر : ان آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.
    فمحصل معنى الآية : أن نسبة النساء إلى المجتمع الانساني نسبة الحرث إلى الانسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وابقائها كذلك النساء يحتاج اليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لان الله سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن ، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الاصلية مائلة منعطفة إليهن ، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة ، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت ، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله ، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لانفسكم.
    ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية ، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الاطلاق ، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لانفسكم ، بالتسمية قبل الجماع.
    قوله تعالى : « وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين » ، قد ظهر : ان المراد من قوله : قدموا لانفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال


(214)
والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل ، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إلاحياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام ، قال تعالى : « وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون » الذاريات ـ 56 ، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الارض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج ، وتيههم في أودية الغي والغفلة.
    فالمراد بقوله : قدموا لانفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء ، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى انفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى : « ونكتب ما قدموا وآثارهم » يس ـ 12.
    وبهذا الذي ذكرنا يتأيد : ان المراد بتقديمهم لانفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى : « يوم ينظر المرء ما قدمت يداه » النبأ ـ 41 ، وقال تعالى أيضا : « وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا » المزمل ـ 20 ، فقوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه الخ ، مماثل السياق لقوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون » الحشر ـ 18 ، فالمراد ( والله اعلم ) بقوله تعالى : وقدموا لانفسكم تقديم العمل الصالح ، ومنه تقديم الاولاد برجاء صلاحهم للمجتمع ، وبقوله تعالى : واتقوا الله ، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله ، وبقوله تعالى : واعلموا أنكم ملاقوه إلخ الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية ، التقوى بمعنى الخوف ، وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام ، قال تعالى : « واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه » الانفال ـ 24 ، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله : وبشر المؤمنين ، كما صدر آية الحشر بقوله : « يا أيها الذين آمنوا ».


(215)
( بحث روائي )
     في الدر المنثور : أخرج احمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو يعلى وابن المنذر وابو حاتم والنحاس في ناسخه وابو حيان والبيهقي في سننه عن انس : ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك فأنزل الله : « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض » الآية ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء الا النكاح ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه ، فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ان اليهود قالت : كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى ظننا ان قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم يحد عليهما.
    وفي الدر المنثور عن السدي في قوله : ويسألونك عن المحيض ، قال : الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح.
    أقول : وروي مثله عن مقاتل ايضا.
    وفي التهذيب عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث في قوله تعالى : « فأتوهن من حيث أمركم الله » الآية ، قال ( عليه السلام ) : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.
    وفي الكافي : سئل عن الصادق ( عليه السلام ) : ما لصاحب المرئه الحائض منها؟ فقال ( عليه السلام ) : كل شيء ما عدا القبل بعينه.
    وفيه أيضا عنه ( عليه السلام ) : في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها ، قال ( عليه السلام ) : إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء ، قبل ان تغتسل ، وفي رواية : والغسل أحب إلى.
    أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قرائه يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل : إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة ، ففيه


(216)
معنى الاختيار فيناسب الاغتسال ، بخلاف الاول فإنه حصول الطهارة ، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم ، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك ، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد الغسل كما أفاده ( عليه السلام ) بقوله : والغسل أحب إلى ، لاحرمة الاتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى ، فافهم ذلك.
    وفي الكافي ايضا عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » ، قال : كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صنعه فأنزل الله في كتابه : « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ».
    اقول : والاخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : ان اول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة.
    وفيه عن سلام بن المستنير ، قال : كنت عند ابي جعفر ( عليه السلام ) فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر ( عليه السلام ) : أخبرك أطال الله بقاك وامتعنا بك ـ : إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا ، قال : فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) إنما هي القلوب ، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر ( عليه السلام ) أما إن اصحاب محمد قالوا يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال : فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت ـ وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك ، وحتى كأنا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة ، ومشيتم على الماء ، ولو لا انكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم ، ان المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله عز وجل : « إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين » ، وقال تعالى :


(217)
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه.
    أقول : وروي مثله العياشي في تفسيره ، قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لو تدومون على الحالة ، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه ، وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى : « الذين إذا اصابتهم مصيبة » البقرة ـ 156.
    وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لولا انكم تذنبون الخ ، اشارة إلى سر القدر ، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الاسماء من الاقتضائات ، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى : « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، وسائر آيات القدر ، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل : إن الله يحب التوابين الخ ، من كلام ابى جعفر ( عليه السلام ) ، والخطاب لحمران ، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس ، ورينها عن القلب ، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب ، نظير ما ورد في قوله تعالى : « لا يمسه إلا المطهرون » الواقعة ـ 79 ، من الاستدلال به على ان علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت ، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة. وكما ان الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى : « وان من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم » الحجر ـ 21 ، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك ، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى : « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية » آل عمران ـ 7. ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الاشارة : ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه. ويظهر ايضا : معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله ( عليه السلام ) : انزل الله على ابراهيم ( عليه السلام ) الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة أشياء : خمسة في الرأس وخمسة في البدن ، فاما التي في الراس : فاخذ الشارب ، واعفاء اللحى ، وطم الشعر ،


(218)
والسواك ، والخلال ، واما التي في البدن : فأخذ الشعر من البدن ، والختان ، وقلم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء ، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث ، والاخبار في كون هذه الامور من الطهارة كثيرة ، وفيها : ان النوره طهور.
    وفي تفسير العياشي : في قوله تعالى : « نسائكم حرث لكم » الآية : عن معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا ( عليه السلام ) انه قال : أي شيء تقولون في اتيان النساء في أعجازهن؟ قلت بلغني ان اهل المدينة لا يرون به بأسا ، قال ( عليه السلام ) : ان اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله : نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم ، يعني من خلف أو قدام ، خلافا لقول اليهود في ادبارهن.
    وفيه عن الصادق ( عليه السلام ) في الآية فقال ( عليه السلام ): من قدامها ومن خلفها في القبل.
    وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال : وإياكم ومحاش النساء ، وقال : إنما معنى نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، أي ساعه شئتم.
    وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : كتبت إلى الرضا ( عليه السلام ) في مثله ، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله.
    أقول : والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة ، مروية في الكافي والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي ، وهي تدل جميعا : ان الآية لاتدل على أزيد من الاتيان من قدامهن ، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق ( عليه السلام ) في رواية العياشي عن عبد الله بن ابي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن إتيان النساء في أعجازهن قال : لا بأس ثم تلا هذه الآية : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.
    اقول : الظاهر ان المراد بالاتيان في اعجازهن هو الاتيان من الخلف في الفرج ، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.
    وفي الدر المنثور : أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله ، قال : كانت الانصار تأتي نسائها مضاجعة ، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فأراد ان يأتيها فقالت : لا إلا كما يفعل فاخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )


(219)
فأنزل : فأتوا حرثكم أنى شئتم أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد ان يكون في صمام واحد.
    اقول : وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية ، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا ( عليه السلام ) .
    وقوله : في صمام واحد أي في مسلك واحد ، كناية عن كون الاتيان في الفرج فقط ، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساء ، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقول أئمة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم ( عليهم السلام ) إلا أنهم ( عليهم السلام ) لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية ، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط : قال : إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين » الحجر ـ 71 ، حيث عرض ( عليه السلام ) عليهم بناته وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشيء من القرآن.
    والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة ، فقد روي عن عبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم : أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية حتى ان المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه.
    ففي الدر المنثور عن الدار قطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك علي المصحف يا نافع ! فقرأ حتى أتى على ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، قال لي : تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية ، قلت له : من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها.
    اقول : وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة ، قال : وقال ابن عبد البر : الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.
    وفي الدر المنثور أيضا : أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي


(220)
في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزلت ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، الآية.
    وفيه أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني ، قال : سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي : الساعة غسلت رأسي عنه.
    وفيه أيضا : أخرج الطحاوي من طريق إصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم ، قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني : وطى المرأة في دبرها ثم قرأ : نسائكم حرث لكم ، ثم قال : فأي شيء أبين من هذا؟
     وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم إنما كان هذا الحي من الانصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب ، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من امر أهل الكتاب ان لا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أثر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الانصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الانصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت : إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد.
    اقول : ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق اخرى أيضا عن مجاهد ، عن ابن عباس.
     وفيه أيضا : اخرج ابن عبد الحكم : ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك ، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له : فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها ( الاعكان جمع عكنة بضم العين : ما انطوى وثنى من لحم البطن ) أفي ذلك حرث : قال : لا ، قال ، أفيحرم؟ قال : لا ، قال : فكيف تحتج بما لا تقولون به؟


(221)
    وفيه أيضا : اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض؟ قال : بلى فأقرأ : ويسألونك عن المحيض إلى قوله : فأتوهن من حيث امركم الله فقال : ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال : كيف بالآية نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم؟ فقال : اي ، ويحك ، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا ، ولكن انى شئتم من الليل والنهار.
    اقول : واستدلاله كما ترى مدخول ، فإن آية المحيض لاتدل على أزيد من حرمة الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الادبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على انك قد عرفت ان آية الحرث ايضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الادبار ، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس : الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر الذي في قوله تعالى : « فأتوهن من حيث امركم الله » الآية ، وقد عرفت فيما مر من البيان انه من افسد الاستدلال ، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه ، وان آية الحرث ايضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث ، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات.
     ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ـ 224. يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ـ 225. للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فائوا فإن الله غفور رحيم ـ 226. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ـ 227.


(222)
( بيان )
    قوله تعالى : « ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا » إلى آخر الآية ، العرضة بالضم من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للاكل ، ومنه ما يقال للهدف : إنه عرضة للسهام ، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح ، وللدابة المعدة للسفر إنها عرضة للسفر وهذا هو الاصل في معناها ، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخلية في اصل المعنى.
    والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل ، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للاصبع التي يسب بها.
    ومعنى الآية ( والله اعلم ) : ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما امر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إنشاء الله.
    وعلى هذا يصير قوله تعالى : أن تبروا إلخ ، بتقدير ، لا ، أي أن لا تبروا ، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى « يبين الله لكم أن تضلوا » النساء ـ 17 ، اي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا ، ويمكن أن لا يكون بتقدير ، لا ، وقوله تعالى : أن تبروا ، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : ولا تجعلوا ، من النهى أي ينهيكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الاكثار من الحلف بالله سبحانه ، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أديكم إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم


(223)
ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه ، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول ، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها ، فيكون على حد قوله تعالى : « ولا تطع كل حلاف مهين » القلم ـ 10 ، والانسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى : أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا ، كما مر. وفي قوله تعالى : والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى الاول أظهرها كما لا يخفى.
    قوله تعالى : « لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم » إلى آخر الآية ، اللغو من الافعال مالا يستبعد أثرا ، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومعلقاته ، فلليمين إثر من حيث انه لفظ ، واثر من حيث انه مؤكد للكلام ، واثر من حيث انه عقد واثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه ، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف ، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول : لا والله وبلى والله.
    والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من اعماله من خير أو شر ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها ، وكسب اللوم والذم ، واللعن والطعن ، والذنوب والآثام ، ونوهما بالآعمال المستتبعة لذالك ، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب ، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة لنفسه ، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك.
    وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لاغير.

    وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح ،


(224)
فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الاذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان ، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الانسان البتة.
    ونظير هذه الآية قوله تعالى : « فإنه آثم قلبه » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : « وجاء بقلب منيب » ق ـ 33.
    والظاهر : أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما ، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب ، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة ، وإن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والارادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح ، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئا لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للابصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك ، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.
    وربما يؤيد هذا النظر : ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشيء وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضرباته.
    وربما أيده أيضا : ان الابحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية أعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني ، إذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد ، وحدة حقيقية.
    ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي ، فإن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم الازمنة ، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسميه مبدء الحكم


(225)
     والامر بالرأس ، واشتقاق اللغات المختلفة منه ، كالرأس والرئيس والرئاسة ، ورأس الخيط ، ورأس المدة ، ورأس المسافة ، ورأس الكلام ، ورأس الجبل ، والرأس من الدواب والانعام ، ورئاس السيف.
    فهذا ـ على ما يظهر ـ هو السبب في إسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب ، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته ، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى انفسهم ، يقال : أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية.
    وفي القرآن شيء كثير من هذا الباب ، قال تعالى : « يشرح صدره للاسلام » الانعام ـ 125 ، وقال تعالى : « إنك يضيق صدرك » الحجر ـ 97 ، وقال تعالى : « وبلغت القلوب الحناجر » الاحزاب ـ 10 ، وهو كناية عن ضيق الصدر ، وقال تعالى : « ان الله عليم بذات الصدور » المائدة ـ 7 ، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات في كتابه تعالى اشارة إلى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد.
    وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطد.
    ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للاشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى : « إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » البقرة ـ 284 ، وقال تعالى : « ولكن يناله التقوى منكم » الحج ـ 37.
    وفي قوله تعالى : « والله غفور حليم » ، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين ، فإنه مما
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس