الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 346 ـ 360
(346)
    ذلك أن هذه الامور التي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنما هي امور حقيقية واقعية من غير تجوز غير انها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها التي في باطنها ، وقد مر الكلام في ذلك ، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى : « يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، وقوله تعالى : « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت ، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين : أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له وثانيهما : أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق وواقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلا في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أي حال فالجملتان أعني : قوله تعالى : « يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، وقوله تعالى : « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » كنايتان عن الهداية والاضلال ، وإلا لزم أن يكون لكل من المؤمن والكافر نور وظلمة معا ، فإن لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور ان يكون قبل الايمان في ظلمة وبالعكس في الكافر ، فعامة المؤمنين والكفار ـ وهم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفارا فقط ـ إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور ، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات ، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معا وهذا كما ترى.
    لكن يمكن أن يقال : إن الانسان بحسب خلقته على نورالفطرة ، هو نور إجمالي يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والاعمال الصالحة تفصيلا فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره ، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما ، والمؤمن بايمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلا ، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية ، والاتيان بالنور مفردا وبالظلمات جمعا في قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، للاشارة إلى ان الحق واحد لا اختلاف فيه كما ان الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : « وإن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم » الانعام ـ 153.
( بحث روائي )
     في الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في


(347)
ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : كانت المرئة من الانصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد ان تهوده ، فلما اجليت بنوا النضير كان فيهم من ابناء الانصار فقالوا : لا ندع أبنائنا فأنزل الله « لا اكراه في الدين ».
    اقول : وروي أيضا هذا المعنى بطرق اخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبي.
    وفيه : أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : كانت النضير أرضعت رجالا من الاوس ، فلما أمر النبي صلى اللهعليه وآله وسلم بإجلائهم ، قال أبنائهم من الاوس : لنذهبن معهم ولندينن دينهم ، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية لا اكراه في الدين.
    اقول : وهذا المعنى أيضا مروي بغير هذا الطريق ، وهو لا ينافي ما تقدم من نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم.
    وفيه أيضا : أخرج ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس : في قوله : لا اكراه في الدين قال : نزلت في رجل من الانصارمن بني سالم بن عوف يقال له : الحصين كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : قال : النور آل محمد و الظلمات أعدائهم.
    اقول : وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.
    ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ـ 258. أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مأة عام ثم بعثه قال كم لبثت


(348)
قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ـ 259. وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ـ 260.
( بيان )
     الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.
    قوله تعالى : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لاثبات المدعي أو لابطال ما يقابله ، واصل الحجة هو القصد ، غلب استعماله فيما يقصد به اثبات دعوى من الدعاوي ، وقوله : في ربه متعلق بحاج ، والضمير لابراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد : قال ابراهيم ربي الذي يحيى ويميت ، وهذا الذي حاج ابراهيم ( عليه السلام ) في ربه هو الملك الذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.
    وبالتأمل في سياق الآية ، والذي جرى عليه الامر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، والموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما.
    بيان ذلك : ان الانسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه ، المؤثرة فيه ، وهذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن اطوار الامم الخالية المتأمل في


(349)
حال الموجودين من الطوائف المختلفة ، وقد بينا ذلك فيما مر من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين والتدبير ، وقد مر أيضا بيانه ، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الانسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الانبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون والماديون ، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الانسان إنسانا وإن قبلت الغفلة والذهول.
    لكن الانسان الاولى الساذج لما كان يقيس الاشياء إلى نفسه ، وكان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة ، وكذا الافعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع ، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وان كانت جميع الازمة تجتمع عند الصانع الذي. يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لانواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الانواع كرب الارض ورب البحار ورب النار ورب الهواء والارياح وغير ذلك ، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صورا وتماثيل لتلك الارباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه ، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.
    ولذلك كانت الاصنام مختلفة بحسب اختلاف الامم والاجيال لان الآراء كانت مختلفة في تشخيص الانواع المختلفة وتخيل صور أرباب الانواع المحكية باصنامها ، وربما لحقت بذلك أميال وتهوسات أخرى. وربما انجر الامر تدريجا إلى التشبث بالاصنام ونسيان اربابها حتى رب الارباب لان الحس والخيال كان يزين ما ناله لهم ، وكان يذكرها وينسى ما ورائها ، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه ، كل ذلك انما كان منهم لانهم كانوا يرون لهذه الارباب تأثيرا في شؤن حياتهم بحيث تغلب ارادتها ارادتهم ، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.
    وربما كان يستفيد بعض اولي القوة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم


(350)
ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة ، فيطمع في المقام ويدعي الالوهية كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما ، فيسلك نفسه في سلك الارباب وإن كان هو نفسه يعبد الاصنام كعبادتهم ، وهذا وإن كان في بادء الامر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الارباب وغلبة جانبه على جانبها ، وقد تقدمت الاشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه : « أنا ربكم الاعلى » النازعات ـ 24 ، فقد كان يدعي انه أعلى الارباب مع كونه ممن يتخذ الارباب كما قال تعالى : « ويذرك وآلهتك » الاعراف ـ 127 ، وكذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله : أنا أحيي وأميت ، في هذه الآية على ما سنبين.
    وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين ابراهيم ( عليه السلام ) ونمرود ، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه الوهية ، ولو لا ذلك لم يسلم لابراهيم ( عليه السلام ) قوله : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه ان يقول : أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو ان بعض الآلهة الاخرى يأتي بها من المشرق ، وكان يرى ان هناك آلهة اخرى دون الله سبحانه ، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص ابراهيم ( عليه السلام ) كقصة الكوكب والقمر والشمس وما كلم به أباه في أمر الاصنام وما خاطب به قومه وجعله الاصنام جذاذا إلا كبيرا لهم وغير ذلك ، فقد كان يرى لله تعالى الوهية ، وان معه آلهة اخرى لكنه كان يرى لنفسه الوهية ، وانه أعلى الآلهة ، ولذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج ابراهيم ( عليه السلام ) في ربه ، ولم يذكر من امر الآلهة الاخرى شيئا.
    ومن هنا يستنتج ان المحاجة التي وقعت بينه وبين ابراهيم ( عليه السلام ) هي ، ان ابراهيم ( عليه السلام ) كان يدعي ان ربه الله لا غير ونمرود كان يدعي انه رب ابراهيم وغيره ولذلك لما احتج ابراهيم ( عليه السلام ) على دعواه بقوله : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : انا أحيي وأميت ، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الاصنام ، ولم يقل : وانا أحيي وأميت ، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الاصنام ، ولم يقل : وانا أحيي وأميت لان لازم العطف ان يشارك الله في ربوبيته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت ، ولم يقل أيضا : والآلهة تحيي وتميت.
    ولم يعارض ابراهيم ( عليه السلام ) بالحق ، بل بالتموين والمغالطة وتلبيس الامر على من


(351)
حضر ، فإن ابراهيم ( عليه السلام ) إنما أراد بقوله : ربي الذي يحيي ويميت ، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع ان يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن ان يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها ، ولا بشيء من هذه الموجودات الحية ، فإن حياتها هي وجودها ، وموتها عدمها ، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه ، ولو كان نمرود اخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازي أو الاعم من معناهما الحقيقي والمجازي فإن الاحياء كما يقال على جعل الحياة في شيء كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال : على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك ، وكذا الاماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة ، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا واطلق ذاك فقال : انا أحيي وأميت ، ولبس الامر على الحاضرين فصدقوه فيه ، ولم يستطع لذلك ابراهيم ( عليه السلام ) ان يبين له وجه المغالطة ، وانه لم يرد بالاحياء والاماتة هذا المعنى المجازي ، وان الحجة لا تعارض الحجة ، ولو كان في وسعه ( عليه السلام ) ذلك لبينه ، ولم يكن ذلك إلا لانه شاهد حال نمرود في تمويهه ، وحال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء ، فوجد انه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد ، فعدل إلى حجة اخرى لا يدع المكابر ان يعارضه بشيء فقال ابراهيم ( عليه السلام ) : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، وذلك ان الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصته ( عليه السلام ) لكنها وما يلحق وجودها من الافعال كالطلوع والغروب مما يستند بالاخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الارباب ، والفاعل الارادي إذا اختار فعلا بالارادة كان له ان يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الامر يدور مدار الارادة ، وبالجملة لما قال ابراهيم ذلك بهت نمرود ، إذ ما كان يسعه ان يقول : إن هذا الامر المستمر الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائما امر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب ، ولا كان يسعه ان يقول : إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك ، ولا كان يسعه ان يقول : إني انا الذي آتيها من المشرق وإلا طولب بإتيانها من المغرب ، فألقمه الله حجرا وبهته ، والله لا يهدي القوم الظالمين.


(352)
     قوله تعالى : « ان آتيه الله الملك » ، ظاهر السياق : انه من قبيل قول القائل : أساء إلى فلان لاني احسنت إليه يريد : ان احساني إليه كان يستدعي ان يحسن إلى لكنه بدل الاحسان من الاسائه فأساء إلى ، وقولهم : واتق شر من احسنت إليه ، قال الشاعر :
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار
    فالجملة أعني قوله : ان آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه ، فإن عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي ان يعلل بضد انعام الله عليه بالملك ، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه الا الاحسان إليه وايتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى : « فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا » القصص ـ 8 ، فهذه نكتة في ذكر ايتائه الملك.
    وهناك نكته اخرى وهي : الدلالة على ردائة دعواه من رأس ، وذلك انه انما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير ان يملكه لنفسه ، فهو انما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه ، وأما هو في نفسه فلم يكن الا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف ، ولا يشار إليه بنعت ، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر عنه بقوله : الذي حاج ابراهيم في ربه ، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره.
    واما نسبة ملكه إلى ايتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة : انه لا محذور فيه ، فإن الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الامة كسائر انواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء ، وقد أودع في فطرة الانسان معرفته ، والرغبة فيه ، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة ، قال تعالى : « وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة » القصص ـ 77 ، وان عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة وبوارا ، قال تعالى : « ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار » ابراهيم ـ 28 ، وقد مر بيان ان لكل شيء نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح والمسائة.
    ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين : ان الضمير في قوله ان آتيه


(353)
الله الملك ، يعود إلى ابراهيم ( عليه السلام ) ، والمراد بالملك ملك ابراهيم كما قال تعالى : « أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما » النساء ـ 54 ، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.
    ففيه أولا : ان القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون : « يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض » المؤمن ـ 29 ، وقوله تعالى حكاية عن فرعون ـ وقد امضاه بالحكاية ـ : « يا قوم أليس لي ملك مصر » الزخرف ـ 51 ، وقد قال تعالى : « له الملك » التغابن ـ 1 ، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك الا وهو منه تعالى ، وقال تعالى حكايه عن موسى ( عليه السلام ) : « ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة » يونس ـ 88 ، وقال تعالى في قارون : « وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة » القصص ـ 76 ، وقال تعالى خطابا لنبيه : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا ـ إلى ان قال ـ : « ومهدت له تمهيدا ثم يطمع ان ازيد » المدثر ـ 15 ، إلى غير ذلك.
    وثانيا : ان ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع ابراهيم في توحيده وإيمانه لا انه كان ينازعه ويحاجه في ملكه ، فإن ملك الظاهر كان لنمرود ، وما كان يرى لابراهيم ملكا حتى يشاجره فيه.
    وثالثا : ان لكل شيء نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الاشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مر تفصيل بيانه.
    قوله تعالى : « قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت » ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان ايضا كالنبات ، وقد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية الكرسي ، لكن مراده ( عليه السلام ) منهما اما خصوص الحياة والممات الحيوانيين أو الاعم الشامل له لاطلاق اللفظ ، والدليل على ذلك قول نمرود : أنا أحيي وأميت ، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلا ، ولا احياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلا ، فإن ذلك وأشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره


(354)
من أفراد الانسان ، وهذا يؤيد ما وردت به الروايات : انه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق احدهما وقتل الآخر ، وقال عند ذلك : أنا أحيي وأميت.
    وانما أخذ ( عليه السلام ) في حجته الاحياء والاماتة لانهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع ، وخاصة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والارادة وهما أمران غير ماديين قطعا ، وكذا الموت المقابل لها ، والحجة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقهم ، لان انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه ( عليه السلام ) في حقهم ، فلم يفهموا من الاحياء والاماتة إلا المعنى المجازي الشامل لمثل الاطلاق والقتل ، فقال نمرود : انا أحيي وأميت وصدقه من حضره ، ومن سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يؤمئذ في المعارف والمعنويات ، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري والتقدم المدني الذي يدل عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما ، فإن المدنية المادية أمر والتقدم في معنويات المعارف أمر آخر ، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها وانحطاطها في الاخلاق والمعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.
    ومن هنا يظهر : وجه عدم أخذه ( عليه السلام ) في حجته مسلئة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسموات والارض كما اخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله : « اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين » الانعام ـ 79 ، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم اجمالا كانوا أنزل سطحا من ان يعقلوه على ما ينبغي ان يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتضح مراده ( عليه السلام ) ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله : « ربي الذي يحيي ويميت ».
    قوله تعالى : « قال أنا أحيي وأميت » ، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي ويميت.
    قوله تعالى : قال إبراهيم : « فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر » ، لما ايس ( عليه السلام ) من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي ويميت ، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الامر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الاحياء والاماتة إلى حجة أخرى ، إلا انه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الاولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله : فإن الله الخ ، والمعنى : إن


(355)
كان الامر كما تقول : انك ربي ومن شأن الرب ان يتصرف في تدبير امر هذا النظام الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف انت بإتيانها من المغرب حتى يتضح انك رب كما ان الله رب كل شيء أو انك الرب فوق الارباب فبهت الذي كفر ، وانما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن ان الحجة الاولى تمت لنمرود وانتجت ما ادعاه ، ولذلك ايضا قال ، فإن الله ولم يقل : فإن ربي لان الخصم استفاد من قوله : ربي سوئا وطبقة على نفسه بالمغالطة فأتى ( عليه السلام ) ثانيا بلفظة الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق ! قد مر بيان ان نمرود ما كان يسعه ان يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون ان يبهت فيسكت.
    قوله تعالى : « والله لا يهدي القوم الظالمين » ، ظاهر السياق انه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره ، وبعبارة اخرى معناه ان الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على ابراهيم في الحجة لا انه لم يهده فكفر لذلك وذلك لان العناية في المقام متوجهة إلى محاجته ابراهيم ( عليه السلام ) لا إلى كفره وهو ظاهر.
     ومن هنا يظهر : ان في الوصف إشعارا بالعلية أعني : ان السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله : « ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام والله لا يهدى القوم الظالمين » الصف ـ 7 ، وقوله : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدى القوم الظالمين الجمعة ـ 5 ، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى : « فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين » الصف ـ 5.
    وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عما ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة ، ومؤد إلى الخيبة والخسران بالاخرة ، وهذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف وأكد القول فيها في آيات كثيرة.


(356)
     هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا ، وهي كلية لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه ، قال تعالى : « الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، دل على ان كل شيء بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته ، وليس ذلك الا بارتباطه مع غيره من الاشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتصال والانفصال والقرب والبعد والاخذ والترك ونحو ذلك ، ومن المعلوم ان الامور التكوينية لا تغلط في آثارها ، والقصود الواقعية لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها ، فالنار في مسها الحطب مثلا وهي حارة لا تريد تبريده ، والنامي كالنبات مثلا وهو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره وهكذا ، وقد قال تعالى : « ان ربي على صراط مستقيم » هود ـ 56 ، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود.
    ولازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين ان يكون لكل شيء روابط حقيقية مع غيره ، وان يكون بين كل شيء وبين الآثار والغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والاثر المخصوص المقصود منه ، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية انما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها والسبل الموصلة إليها ، فالبذرة انما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصة ، وكذلك الشجرة انما تثمر الثمرة التي من شأنها اثمارها ، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب ، قال تعالى : « والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا » الاعراف ـ 58 ، والعقل والحس يشهدان بذلك والا اختل قانون العلية العام.
    وإذا كان كذلك فالصنع والايجاد يهدي كل شيء إلى غاية خاصة ، ولايهديه إلى غيرها ، ويهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره ، صنع الله التي اتقن كل شيء ، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية واثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل اثرها لا محالة ، هذا في الامور التكوينية.


(357)
     والامور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية وغيرها على هذا الوصف أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين ، فالشؤن الاجتماعية والمقامات التي فيه والافعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولد منه إلا تلك الآثار والغايات ولاتتولد هي إلا منه فالتربية الصالحة لاتتحقق إلا من مرب صالح والمربي الفاسد لا يترتب على تربيته ، إلا الاثر الفاسد ( ذاك الفساد المكمون في نفسه ) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته ، وضرب على الفساد المطوي في نفسه بمأه ستر واحتجب دونه بألف حجاب ، وكذلك الحاكم المتغلب في حكومته ، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه ، وكل من تقلد منصبا اجتماعيا من غير طريقه المشروع ، وكذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق وحل بذلك محل الفعل الحق ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الامانة والاسائة موضع الاحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها اياما ، وتلبس بلباس الصدق والحق أحيانا ، سنة الله التي جرت في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.
    فالحق لا يموت ولا يتزلزل أثره ، وإن خفي على ادراك المدركين اويقات ، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره ، وإن كان ربما اشتبه أمره ووباله ، قال تعالى : « ليحق الحق ويبطل الباطل » الانفال ـ 8 ، من تحقيق الحق تثبيت أثره ، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه والتمويه ، وقال تعالى : « الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء » ابراهيم ـ 27 ، وقد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم ، ولا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني : من طريق الباطل كما قال تعالى ـ حكاية عن يوسف الصديق : « قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون » يوسف ـ 23 ، فالظالم لا يفلح في ظلمه ، ولا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتقي بتقواه ، قال


(358)
تعالى : « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين » العنكبوت ـ 69 ، وقال تعالى : « والعاقبة للتقوى » طه ـ 132.
    والآيات القرآنية في هذه المعاني ثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة ، ومن أجمعها وأتمها بيانا فيه قوله تعالى : « أنزل من السماء مائا فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبا مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذالك يضرب الله الامثال » الرعد ـ 17.
    وقد مرت إلاشارة إلى أن العقل يؤيده ، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية والمعلولية الجارية بين أجزاء العالم ، وأن التجربة القطعية الحاصلة من تكرار الحس تشهد به ، فما منا من أحد إلا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.
    قوله تعالى : « أو كلذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » ، الخاوية هي الخالية يقال : « خوت الدار تخوي خوائا إذا خلت ، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائم على أعمدة ، قال تعالى : جنات معروشات وغير معروشات » الانعام ـ 142 ، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش ، لكن بينهما فرقا ، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الاركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم ، ولذا صح أن يقال في الديار أنها خالية على عروشها ولا يصح أن يقال : خالية على سقفها.
    وقد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى : أو كلذي ، فقيل : إنه عطف على قوله في الآية السابقة : الذي حاج ابراهيهم ، والكاف اسمية ، والمعنى أو هل رأيت مثل الذي مر على قرية « الخ » ، وقد جئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد ، وقيل : بل الكاف زائدة ، والمعنى : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية « الخ » ، وقيل : انه عطف محمول على المعنى ، والمعنى : ألم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية ، وقيل : انه من كلام ابراهيم جوابا عن دعوى الخصم انه يحيي ويميت ، والتقدير : وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الذي مر على قرية « الخ » « فهذه وجوه ذكروه في » الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.


(359)
     وأظن ـ والله أعلم ـ أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير ، توضيحه : أن الله سبحانه لما ذكر قوله : « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، تحصل من ذلك : أنه يهدي المؤمنين إلى الحق ولا يهدي الكافر في كفره بل يضله أوليائه الذين اتخذته من دون الله اولياء ، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى ، وهي مراتب ثلاث مترتبة :
    اوليها : الهداية إلى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه ، حيث هدى ابراهيم إلى حق القول ، ولم يهد الذي حاجه بل ابهته وأضله كفره ، وإنما لم يصرح بهداية ابراهيم بل وضع عمدة الكلام في امر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله : والله لا يهدي القوم الظالمين.
    والثانية : الهداية إلى الحق بالارائة والاشهاد كما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من امر الاحياء بإماتته واحيائه وسائر ما ذكره في الآية ، كل ذلك بالارائة والاشهاد.
    الثالثة : الهداية إلى الحق وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه الحادثة ، وبعبارة اخرى بإرائة السبب والمسبب معا ، وهذا اقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما ان من كان لم ير الجبن مثلا وارتاب في امره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده واكل منه وذاق طعمه ، وتارة بإرائته قطعة من الجبن واذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الانفحه وخلط مقدار منها به حتى يجمد ثم اذاقته شيئا منه وهي أنفى المراتب للشبهة.
    إذا عرفت ما ذكرناه علمت ان المقام في الآيات الثلاث ـ وهو مقام الاستشهاد ـ يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال : ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق : الم تر إلى قصة ابراهيم ونمرود ، أو لم تر إلى قصة الذي مر على قرية ، أو لم تر إلى قصة ابراهيم والطير ، أو يقال : ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق : إما كما هدى ابراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية ، أو كالذي مر على قرية وهي نوع آخر ، أو كما في قصة إبراهيم والطير وهي نوع آخر ، أو يقال : ان الله


(360)
يهدي المؤمنين إلى الحق وأذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة ، واذكر الذي مر على قرية ، واذكر إذ قال إبراهيم رب ارني.
    فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام ، غير ان الله سبحانه اخذ بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب واستيفائا لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.
    ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : أو كالذي ، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة ، والتقدير : إما كالذي حاج ابراهيم أو كالذي مر على قرية ، ويظهر ايضا ان قوله في الآية التالية : واذ قال ابراهيم ، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير : اذكر قصة المحاجة وقصة الذي مر على قرية ، واذكر إذ قال ابراهيم رب ارني الخ.
    وقد ابهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها ، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس ، مع أن الانسب في مقام الاستشهاد الاشارة إلى اسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
    لكن الآية وهي الاحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما ، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام ، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الامور بالتصغير والتهوين تعظيما لمقام أنفسهم ، ولذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله ، ولذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصة من اسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الاجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.
    وأما التصريح باسم إبراهيم ( عليه السلام ) فإن للقرآن عناية تشريف به ( عليه السلام ) ، قال تعالى : « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » الانعام ـ 83 ، وقال تعالى : « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين » الانعام ـ 75 ، ففي ذكره ( عليه السلام ) بالاسم عناية خاصة.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس