الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 361 ـ 375
(361)
     ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الاحياء والاماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار ، قال تعالى : « وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم » الروم ـ 27 ، وقال تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام ـ إلى قوله ـ : « قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا » مريم ـ 9.
    قوله تعالى : « قال أنى يحيي هذه الله » ، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى : « واسئل القرية » يوسف ـ 82.
    وإنما قال هذا القول استعظاما للامر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الانكار أو ينشأ منه ، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة : اعلم أن الله على كل شيء قدير ولم يقل : الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز : « الآن حصحص الحق » يوسف ـ 51 ، وسيجئ توضيحه قريبا.
    على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة إلى الناس والانبياء معصومون حاشاهم عن الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد اصول الدين.
    قوله تعالى : « فأماته الله مأة عام ثم بعثه » ، ظاهره توفيه بقبض روحه وإبقائه على هذا الحال مأة عام ثم إحيائه برد روحه إليه.
    وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الاطباء بالسبات وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان ، أياما أو شهورا أو سنين ، كما أنه الظاهر من قصة اصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.
    قال : والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة امر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الانسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مأة سنة ، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلا ان تكون من الممكنات دون المستحيلات ، فقد احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إليه ثانيا بعد سلبه مأة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الاموات بعد سلبها عنهم الوفا من السنين ، هذا ملخص ما ذكره.


(362)
     وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الاماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات على تقدير تسليمه بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى : فأماته الله ، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ وهل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد ، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مأة سنة ثم إحيائه ، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه ، وقد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية : وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ، وسيجئ التعرض له.
    وبالجملة دلالة قوله تعالى : فأماته الله مأة عام ، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله : أنى يحيي هذه الله ، وقوله بعده ، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ، وقوله : وانظر إلى العظام ، مما لاريب فيه.
    قوله تعالى : « قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام » ، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره ، فحسب الموت والحياة نوما وانتباها ، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوما ( لو تخللت الليلة ) أو بعض يوم ( لو لم تتخلل ) قال : بل لبثت مأة عام.
    قوله تعالى : « فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه إلى قوله لحما » ، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله : انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها ، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة ، وجئ بقوله : ولنجعلك متخللا في الكلام وكان الظاهر أن يتأخر عن جملة : وانظر إلى العظام ، على ان بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية ـ وهو احياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها ـ قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لان يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.
( القصة )
    التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله ، عالما بمقام ربه ، مراقبا


(363)
لامره ، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله : أعلم أن الله ، أنه بعد تبين الامر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة ، وظاهر قوله تعالى : ثم بعثه قال كم لبثت ، أنه كان مأنوسا بالوحي والتكليم ، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلا كان حق الكلام أن يقال : فلما بعثه قال الخ أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى ( عليه السلام ) : « فلما أتيها نودي يا موسى إني أنا ربك » طه ـ 12 ، وقوله تعالى فيه أيضا : « فلما أتيها نودي من شاطئ الوادي الايمن » القصص ـ 30.
    وكيف كان فقد كان ( عليه السلام ) خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها ، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه ، وحمله طعاما وشرابا يتغذى بهما ، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها ، ولم يكن قاصدا نفس القرية ، وإنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من امر القرية الخربة التي كان قد أبيد اهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منه ( عليه السلام ) ، فإنه يشير إلى الموتى بقوله ، أنى يحيي هذه الله ، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والاشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال : انى يعمر هذه الله. على ان القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها ، ولا ان عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة ، ولو كانت الاموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.
    ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال ، وتطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الاصل نسيا منسيا ، وعند ذلك قال : انى يحيى هذه الله ، وقد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين : احديهما : استعظام طول المدة والاحياء مع ذلك ، والثانية : استعظام رجوع الاجزاء إلى صورتها الاولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة ، فبين الله له الامر من الجهتين جميعا : أما من الجهة الاولى فإماتته ثم إحيائه وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه.
    فأماته الله مأة عام ثم بعثه ، وقد كان الاماتة والاحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره ، قال كم لبثت ، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف


(364)
الوقتين ، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال : لبثت يوما من غير ترديد ، فرد الله سبحانه عليه وقال : بل لبثت مأة عام ، فرأى من نفسه أنه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم ، فكان فيه ما استعظمه من طول المكث.
    ثم استشهد تعالى على قوله : بل لبثت مأة عام بقوله : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ! وذلك : أن قوله : لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة وقصره ، وإنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل ونحوهما ، فلما اجيب بقوله تعالى : بل لبثت مأة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شيء من هيئة بدنه ، والانسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة والطراوة وكان ترابا وعظاما رميمة ، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن وأن يخطر بباله بأمره ان ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاما رميمة ، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام والشراب يدل على إمكان ان يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير ان يتغير شيء من هيئته عما هي عليه.
    ومن هنا يظهر ان الحمار ايضا قد أميت وكان رميما وكأن السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الادب البارع.
    وبالجملة تم عند ذلك البيان الالهي : ان استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث اخذ الله منه الاعتراف بأن مأة سنة ـ مدة لبثه ـ كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف اهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به ، فبين له ان تخلل الزمان بين الاماتة والاحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء ، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل ، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة ، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى : « إنهم يرونه بعيدا ونريه قريبا » المعارج ـ 7 ، وقال تعالى : « وما أمر الساعة إلا كلمح البصر » النحل ـ 77.
    ثم قال تعالى : ولنجعلك آية للناس ، عطف الغاية يدل على ان هناك غيرها من


(365)
الغايات ، والمعنى انا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الالهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الامر له نفسه بل هناك غاية اخرى وهي جعله آية للناس ، فالغرض من قوله : وانظر إلى العظام الخ بيان الامر له فقط ، ومن إماتته وإحيائه بيان الامر له وجعله آية للناس ، ولذلك قدم قوله : ولنجعلك الخ على قوله : وانظر إلى العظام الخ.
    ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر ، ثلاث مرات في الآية فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.
    وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى : « ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون » الروم ـ 56.
    ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله : أني يحيى هذه الله وهو : أنه كيف يعود الاجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال : وانظر إلى العظام كيف ننشزها والانشاز الانماء ، وظاهر الآية ان المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام اهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله : ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين احياهم الله تعالى !
    ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الابدان الحية فإنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث ، فإن الذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيى الموتى إنه على كل شيء قدير ، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الارض الميتة التي يحييها الله بالانبات ، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب.
     « وقد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه » الآية من قوله : فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله : أنى يحيى هذه الله.
    قوله تعالى : « فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير » ، رجوع منه بعد التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين ، كأنه ( عليه السلام ) لما خطر بباله الخاطر الذي


(366)
ذكره بقوله : أني يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الامر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم ، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلا ، بل علم يليق بالاعتماد عليه.
    وهذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للانسان علم بشيء ثم يخطر بباله ويهجس في نفسه خاطر ينافيه ، لا للشك وبطلان العلم ، بل لاسباب وعوامل اخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه !
    وليس معنى الكلام : أنه لما تبين له الامر حصل له العلم وقد كان شاكا قبل ذلك فقال أعلم الخ كما مرت الاشارة إليه لان الرجل كان نبيا مكلما وساحة الانبياء منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات اولا : ولان حق الكلام حينئذ أن يقال : علمت أو ما يؤدي معناه ثانيا : ولان حصول العلم بتعلق القدرة باحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء وقد قال : اعلم أن الله بكل شيء قدير ، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الاحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الامور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه ، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين ، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك ، وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه ، وحاشا أن يعد الكلام الالهي مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة : فلما تبين له قال : « أعلم ان الله على كل شيء قدير » ، على انه خطأ في القول لا يليق بساحة الانبياء ثالثا.
    قوله تعالى : « وإذ قال إبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى » ، قد مر أنه معطوف على مقدر والتقدير : واذكر إذ قال الخ وهو العامل في الظرف ، وقد احتمل بعضهم ان يكون عامل الظرف هو قوله : قال أو لم تؤمن ، وترتيب الكلام : أو لم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني الخ وليس بشئ.
    وفي قوله : ارني كيف تحيي الموتى ، دلالة :


(367)
     اولا على انه ( عليه السلام ) إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي ، فإن الانبياء وخاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل ارفع قدرا من ان يعتقد البعث ولا حجة له عليه ، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناش عن اختلال فكري وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيم ( عليه السلام ) ، على انه ( عليه السلام ) إنما سأل ما سأل بلفظ كيف ، وانما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشئ لا عن اصل وجوده فإنك إذا قلت : أرأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية ، وإذا قلت : كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه وانما السؤال عن خصوصيات الرؤية فظهر انه ( عليه السلام ) انما سأل البيان بالارائة والاشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.
    وثانيا : على ان ابراهيم ( عليه السلام ) إنما سأل أن يشاهد كيفية الاحياء لا أصل الاحياء كما أنه ظاهر قوله : كيف تحيي الموتى ، وهذا السؤال متصور على وجهين :
     الوجه الاول : أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الاجزاء المادية الحياة ، وتجمعها بعد التفرق والتبدد ، وتصورها بصورة الحي ، ويرجع محصله إلى تعلق القدرة بالاحياء بعد الموت والفناء.
    الوجه الثاني : أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الاموات وفعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة ويرجع محصله إلى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره ، وهذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الاشياء في قوله عز من قائل : « انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء » يس ـ 83.
    وانما سأل ابراهيم ( عليه السلام ) عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الاول : أما أولا : فلانه قال : كيف تحيي الموتى ، بضم التاء من الاحياء فسأل عن كيفية الاحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره ، ولم يقل : كيف تحيي الموتى ، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الاجزاء وعودها إلى صورتها الاولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية واما ثانيا : فلانه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الاجزاء للحياة لم يكن لاجراء الامر بيد ابراهيم وجه ، ولكفى في ذلك أي يريد الله احياء شيء من الحيوان بعد موته ، واما ثالثا : فلانه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن


(368)
يقال : « واعلم ان الله على كل شيء قدير » لا بقوله : « واعلم ان الله عزيز حكيم » ، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة والحكمة فإن العزة والحكمة ـ وهما وجدان الذات كل ماتفقده وتستحقه الاشياء واحكامه في امره ـ انما ترتبطان بإفاضة الحياة لااستفاضة المادة لها فافهم ذلك.
    ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين : ان إبراهيم ( عليه السلام ) إنما سأل بقوله : رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الاحياء دون مشاهدة كيفية الاحياء ، وأن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك ، قال : ما محصله : انه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه امره بالاحياء ، ولا ان إبراهيم ( عليه السلام ) فعل ما أمره به ، فما كل أمر يقصد به الامتثال ، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الانشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبرا تريد ان هذه كيفيته ، ولا تريد به ان تأمره ان يصنع الحبر بالفعل.
    قال : وفي القرآن شيء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الامر ، والكلام هيهنا مثل لاحياء الموتى ، ومعناه خذ اربعة من الطير فضمها اليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها ، فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع اليك من غير ان يمنعها تفرق امكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين : كونوا أحياء ، فيكونون احياء كما كان شأنه في بدء الخلقة ، ذلك إذ قال للسموات والارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا : أتينا طائعين.
    قال : والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى : فصرهن فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها اليك وانسها بك ، ويشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الامالة ، وما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزائا بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى ، واما ما قيل : إن قوله : اليك متعلق بقوله : فخذ دون قوله : فصرهن والمعنى : خذ اليك اربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.
    وثانيا : ان الظاهر : ان ضمائر فصرهن ومنهن وادعهن ويأتينك جميعا راجعة


(369)
إلى الطير ، ويلزم على قولهم : ان المراد تقطيعها وتفريق أجزائها ، ووضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن ان يفرق بين الضمائر فيعود الاولان إلى الطيور ، والثالث والرابع إلى الاجزاء وهو خلاف الظاهر.
    واضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها.
    وثالثا : ان إرائه كيفية الخلقة ان كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع اجزائها وتغير صورها إلى الصورة الاولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الاجزاء ومزجه إياها ووضعه على جبل بعيد ، جزئا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الاجزاء من الحركات المختلفة والتغيرات المتنوعة ، وان كان المراد إرائة كيفية الاحياء بمعنى الاحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الارادة الالهية المتعلقة بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالاشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون ان هذا غير ممكن للبشر ، فصفات الله منزهة عن الكيفية.
    ورابعا : ان قوله : ثم اجعل ، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله : فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.
    وخامسا : انه لو كان كما يقولون لكان الانسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين : العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال ، هذا ما ذكروه.
    وانت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه ، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله : كيف تحيي وإجراء الامر بيد ابراهيم على ما مر بيانها كل ذلك ينافي هذا المعنى ، على ان الجزء في قوله تعالى : ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.
    واما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الاول : ان معنى صرهن قطعهن ، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الامالة كما في قوله تعالى : « الرفث إلى نسائكم » البقرة ـ 187 ، حيث ضمن معنى الافضاء.
    وعن الثاني : ان جميع الضمائر الاربع راجعة إلى الطيور ، والوجه في رجوع


(370)
ضمير ادعهن ويأتينك إليها مع انها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله تعالى : « ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين » فصلت ـ 10 ، وقوله تعالى : « إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن » يس ـ 82 ، وحقيقة الامر : ان الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب واما الخطاب التكويني فالامر فيه بالعكس ، والمخاطب فيه فرع الخطاب ، فإن الخطاب فيه هو الايجاد ومن المعلوم ان الوجود فرع الايجاد ، كما يشير إليه قوله تعالى : « ان نقول له كن فيكون » الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرع على قوله كن وهو خطاب الامر.
    وعن الثالث : انا نختار الشق الثاني وان السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفية قبول المادة وحياتها ، وقوله : إن البشر لا يمكنه ان ينال كنه الارادة الالهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن وعليه المسلمون.
    قلنا : إن الارادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والاحياء ونحوهما ، والذي لاسبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى : « ولا يحيطون به علما » طه ـ 110.
    فالارادة منتزعة من الفعل ، وهو الايجاد المتحد مع وجود الشئ ، وهو كلمة كن في قوله تعالى : ان نقول له كن فيكون ، وقد ذكر الله في تالي الآية ان هذه الكلمة ـ كلمة كن ـ هي ملكوت كل شيء إذ قال : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء الآية ، وقد ذكر الله تعالى انه ارى ابراهيم ملكوت خلقه إذ قال : « وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين » الانعام ـ 75 ، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.
    ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين انهم يظنون ان دعوة ابراهيم ( عليه السلام ) للطيور في إحيائها ، وقول عيسى ( عليه السلام ) لميت عند إحيائه : قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها مما يشتمل عليه الكتاب والسنة إنما هو لاثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء ، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه الفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفي عليهم ان ذلك انما هو


(371)
عن اتصال باطني بقوة الهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.
    وعن الرابع : ان التراخي المدلول عليه بقوله : ثم كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الاجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر.
    وعن الخامس : ان الاشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هوان الله انما بين كيفية الاحياء لابراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي ، فيرد عليهم ان المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة والحكمة ، وقد عرفت مما قدمنا ان الانسب على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين : العزيز الحكيم كما في الآية.
    ويظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين : ان المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن اشهاد كيفيه الاحياء بمعنى كيفية قبول الاجزاء صورة الحياة.
    قال : ما محصله : ان السؤال لم يكن في أمر ديني ـ والعياذ بالله ـ ولكنه سؤال عن كيفية الاحياء ليحيط علما بها ، وكيفية الاحياء لا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها فإبراهيم ( عليه السلام ) طلب علم لا يتوقف الايمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف ، وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا ان يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس ، فهو لا يشك انه يحكم فيهم ، ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ، ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال : أيحكم زيد في الناس ، وانما جاء التقرير أعني قوله : أو لم تؤمن ، بعده لان تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت الا انها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع : انه يحمل ثقلا من الاثقال وانت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا تريد انك عاجز عن حمله ، والله سبحانه لما علم برائة ابراهيم ( عليه السلام ) عن الحوم حول هذا الحمى اراد ان ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الاولى لكون ايمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الايمان بالقدرة


(372)
على الاحياء على اكمل الوجوده ، ورؤية الكيفية لم يزد في ايمانه المطلوب منه شيئا ، وانما أفادت أمرا لا يجب الايمان به.
    ثم قال بعد كلام له طويل : ان الآية تدل على فضل ابراهيم ( عليه السلام ) حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه ، وأرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مأة عام.
    وانت بالتدبر في الآية والتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإن السؤال انما وقع عن كيفية احيائه تعالى لا عن كيفية قبول الاجزاء الحياة ثانيا فقد قيل : كيف تحيي ، بضم التاء لا بفتحها ، على ان اجراء الامر على يد ابراهيم ( عليه السلام ) يدل على ذلك ولو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إرائة شيء من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ، ولم تكن حاجة إلى اجراء الاحياء على يد ابراهيم ( عليه السلام ) ، وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا : انهم يقيسون نفوس الانبياء في تلقيهم المعارف الالهية ومصدريتهم للامور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا : ان لا فرق بين تكون الحياة بيد ابراهيم وتكونه في الخارج بالنسبة إلى حال ابراهيم ، وهذاامر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها ، لكن هؤلاء لاهمالهم امر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد ، وكلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق. ألا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون والاشكال المتصورة مع ان هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له الى ساحة مثل ابراهيم ( عليه السلام ) ، مع ان الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإن ابراهيم ( عليه السلام ) قال : كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الانسان أو الأعم منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه الا تكون الحياة في اربعة من الطير.
    ثم ذكر فضل ابراهيم ( عليه السلام ) على عزير ( يريد به صاحب القصة في الآية السابقة ) بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها والجواب عنها ، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا ، مع ان الآيتين جميعا ـ على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني ـ أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.


(373)
    على ان المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة والحكمة كما في قوله تعالى : « ومن آياته انك ترى الارض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحيي الموتى انه على كل شيء قدير » فصلت ـ 39 ، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة ، ونظيره قوله تعالى : « أو لم يروا ان الله الذي خلق السموات ولارض ولم يعي بخلقهن بقادر على ان يحيي الموتى بلى انه على كل شيء قدير » الاحقاف ـ 33 ، ففيه أيضا بيان الكيفية بإرائة الامثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.
    قوله تعالى : قال : أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، بلى كلمة يرد به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى : « ألست بربكم قالوا بلى » الاعراف ـ 172 ، ولو قالوا نعم لكان كفرا ، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها ، وهو مأخوذ من قولهم : اطمأنت الارض وارض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.
    وقد قال تعالى : أو لم تؤمن ، ولم يقل : ألم تؤمن للاشعار بأن للسؤال والطلب محلا لكنه لا ينبغي ان يقارن عدم الايمان بالاحياء : ولو قيل : ألم تؤمن دل على ان المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الايمان ، فكان عتابا وردعا عن مثل هذا السؤال ، وذلك ان الواو للجميع ، فكان الاستفهام معه استفهاما عن ان هذا السؤال هل يقارنه عدم الايمان ، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا وردعا.
    والايمان مطلق في كلامه تعالى ، وفيه دلالة على ان الايمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الاحياء والبعث ، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالاحياء لان المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.
    وكذا قوله تعالى حكاية عنه ( عليه السلام ) : ليطمئن قلبي ، مطلق يدل على كون مطلوبه ( عليه السلام ) من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي واعراقه ، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية واحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس وكان جل أحكامها وتصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل ، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به ، كما في الاحكام الكلية


(374)
     العقلية الحقة من الامور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها وان سلمت مقدماتها المنتجة لها ، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها ، ثم تثير الاحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف ، وان كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالامر فلاتضرها إلا أذى ، كما ان من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم : ان الميت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضر شيئا ، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة ان تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس ، وربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.
    فقد ظهر : أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الايمان والتصديق دائما ، غير أنها تؤذي النفس ، وتسلب السكون والقرار منها ، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة ، ولذلك قيل : إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم ، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
    وقد ظهر من هنا ومما مر سابقا أن ابراهيم ( عليه السلام ) ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها ، بل انما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه وأمره في إحياء الموتى ، وليس ذلك بمحسوس وان كان لا ينفك عن الامر المحسوس الذي هو قبول الاجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي ، فهو ( عليه السلام ) انما كان يسأل حق اليقين.
    قوله تعالى : « قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا » ، صرهن بضم الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو امال ، أو بكسر الصاد على القرائة الاخرى من صار يصير بأحد المعنيين ، وقرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع ، وتعديته بإلى تدل على تضمين معنى الامالة. فالمعنى : اقطعهن مميلا اليك أو أملهن اليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.
    وكيف كان فقوله تعالى : خذ اربعة من الطير الخ ، جواب عن ما سأله ابراهيم


(375)
( عليه السلام )بقوله : رب أرني كيف تحيى الموتى ، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال ، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصة القرآن الذي هو خير كلام القاه خير متكلم إلى خير سامع واع ، وليست القصة على تلك البساطة التي تترائى منها في بادي النظر ، ولو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان ، ولكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه وليس كذلك ، ولقد أخذ فيها قيود وخصوصيات زائدة على أصل المعنى ، فاعتبر في ما أريد إحيائه أن يكون طيرا ، وان يكون حيا ، وان يكون ذا عدد أربعة ، وان يقتل ويخلط ويمزج أجزائها ، وان يفرق الاجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل وذاك الحبل ، وأن يكون الاحياء بيد ابراهيم ( عليه السلام ) ( نفس السائل ) بدعوته إياهن ، وان يجتمع الجميع عنده.
    فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة ، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود افادته ، وقد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث الا عجبا ( يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير ).
    وكيف كان فهذه الخصوصيات لا بدان تكون مرتبطة بالسؤال ، والذي يوجد في السؤال ـ وهو قوله : رب أرني كيف تحيى الموتى ـ أمران.
    أحدهما : ما اشتمل عليه قوله : تحيي وهو ان المسؤول مشاهدة الاحياء من حيث انه وصف لله سبحانه لا من حيث انه وصف لاجزاء المادة الحاملة للحياة.
    وثانيهما : ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.
    أما الاول : فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الامر بيد ابراهيم نفسه حيث يقول : فخذ ، فصرهن ، ثم اجعل ، بصيغة الامر ويقول ثم ادعهن يأتينك ، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعيا وهو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة ، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحيائه ، ولا إحياء إلا بأمر الله ، فدعوة ابراهيم إياهن بأمر الله ، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الاحياء ، وعند ذلك شاهده ابراهيم ورأى كيفية فيضان الامر بالحياة ، ولو كانت دعوة ابراهيم إياهن غير
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس