الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 406 ـ 420
(406)
دراهم ، فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية فنزل ، « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » ، قال الطبرسي : وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله ( عليهما السلام ).
    اقول : وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره ، والمفيد في الاختصاص ، والصدوق في العيون.
    وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن ابيه عن ابن عباس في قوله تعالى : « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » قال : نزلت في علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) كانت له اربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما.
    في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب في المناقب عن ابن عباس والسدي ومجاهد والكلبي وابي صالح والواحدي والطوسي والثعلبي والطبرسي والماوردي والقشيري والثمالي والنقاش والفتال وعبد الله بن الحسين وعلي بن حرب الطائي في تفاسيرهم : أنه كان عند ابن ابي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية فنزل : « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية » فسمى كل درهم مالا وبشره بالقبول.
    وفي بعض التفاسير : ان الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية.
    اقول : ذكر الآلوسي في تفسيره في ذيل هذا الحديث : أن الامام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين الف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة وليس فيه ذكر من نزول الآية ، وكأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق ، قال : لما قبض أبو بكر واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس إن بعض الطمع فقر ، وإن بعض اليأس غنى ، وإنكم تجمعون مالا تأكلون ، وتؤملون ما لا تدركون ، واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق ، فأنفقوا خيرا لانفسكم ، فأين أصحاب هذه الآية ، وقرء الآية الكريمة وانت


(407)
تعلم انها لا دلالة فيها على نزولها في حقه ، انتهى.
    وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابي أمامة وابي الدرداء وابن عباس وغيرهم أن الآية نزلت في أصحاب الخيل.
    اقول : والمراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا ونهارا ، لكن لفظ الآية أعني قوله : سرا وعلانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في الانفاق على الخيل اصلا.
    وفي الدر المنثور أيضا اخرج المسيب : « الذين ينفقون » الآية كلها في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.
    اقول : والاشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الاشكال في سابقه.
     الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ 275. يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ـ 276. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكوه لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ 277. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ـ 278. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ـ 279. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ـ 280.


(408)
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ـ 281.
( بيان )
     الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائي ، كيف ولسانها غير لسان التشريع : وانما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران : « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون » آل عمران ـ 130 ، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين » ، وسياق الآية يدل على ان المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهى السابق عن الربا ، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك ، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا ، ومن هنا يظهر معنى قوله : فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله الآية على ما سيجئ بيانه.
    وقد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهى قوله تعالى في سورة الروم وهي مكية : « وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون » الروم ـ 39 ، ومن هنا يظهر ان الربا كان امرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم امر النهى عنه في سورة آل عمران ، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهى عليها ، ومن هنا يظهر : ان هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران. على ان حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله : « وأخذهم الربا وقد نهوا عنه » النساء ـ 161 ، ويشعر به قوله : « ـ حكاية عنهم ـ ليس علينا في الاميين سبيل » آل عمران ـ 75 ، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الاسلام.
    والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الانفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها : يمحق الله الربا ويربي الصدقات ، وقوله : وان تصدقوا خير لكم ، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران


(409)
مقارنا لذكر الانفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه.
    على ان الاعتبار ايضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة ، فإن الربا أخذ بلا عوض كما ان الصدقة إعطاء بلا عوض ، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء ، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة ، وإقامة اصلاب المساكين والمحتاجين ، ونماء المال ، وانتظام الامر واستقرار النظام والامن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا.
    وقد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي اعداء الدين ، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا ، واما سائر الكبائر فإن القرآن وإن اعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الامرين ، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم ، وما هو اعظم منها كقتل النفس التي حرم الله والفساد ، فجميع ذلك دون الربا وتولي اعداء الدين.
    وليس ذلك إلا لان تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الافراد في بسط آثارها المشؤمة ، ولا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس ، ولا تحكم إلا في الاعمال والافعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره ، ويفسد به نظام حياة النوع ، ويضرب الستر على الفطرة الانسانية ويسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إنشاء الله العزيز بعض الاتضاح.
    وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في امرهما حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمائل إلى اعداء الدين الامم الاسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم ، لا يملكون مالا ولا عرضا ولا نفسا ، ولا يستحقون موتا ولا حياة ، فلا يؤذن لهم فيموتوا ، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة ، وهجرهم الدين ، وارتحلت عنهم عامة الفضائل.
    وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة ، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي ، وبان البين ، فكان بلوى يدكدك الجبال ، ويزلزل الارض ، ويهدد الانسانية بالانهدام ، والدنيا بالخراب ، ثم كان عاقبة الذين أسائوا السوأى.
    وسيظهر لك إنشاء الله تعالى ان ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء


(410)
الدين من ملاحم القرآن الكريم.
    قوله تعالى : « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ، الخبط هو المشي على غير استواء ، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه ، وللانسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه ، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه ، وهذه الافعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الانسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية ، فهو يقصد الاكل إذا جاع ، ويقصد الشرب إذا عطش ، والفراش إذا اشتهى النكاح ، والاستراحة إذا تعب ، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا ، وينبسط لامور وينقبض عن اخرى في معاشرته ، ويريد كل مقدمة عند ارادة ذيها ، وإذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه.
    وهذه الافعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته.
    وانما اهتدى الانسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك.
    واما الانسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن والقبيح والنافع والضار والخير والشر ، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد ، لكن لا لانه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالاخرة انسان ذو إرادة ، ومن المحال ان يصدر عن الانسان غير الافعال الانسانية بل لانه يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الاحكام وتعيين الموارد.
    وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك ان يكون عنده آراء وافكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس ، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده ، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء ، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة الا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه ، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.
    وهذا حال المرابي في اخذه الربا ( إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالاجل ) فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الانسان الاجتماعية ان يعامل


(411)
بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغنى عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه ، واما اعطاء المال واخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة واساس المعيشة ، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي ، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو الا من مال الغير ، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.
    وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير امر يجبر النقص ويتداركه ، وفي ذلك انهدام حياة المدين.
    فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الانساني الذي هدته إليه الفطرة الالهية.
    وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس ، فإن المراباة يضطره ان يختل عنده اصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا ، فإذا دعي إلى ان يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب ان البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا واخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : انما البيع مثل الربا.
    ومن هذا البيان يظهر : أولا : ان المراد بالقيام في قوله تعالى : لا يقوم الا كما يقوم ، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فانه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم ، قال تعالى : « ليقوم الناس بالقسط » الحديد ـ 25 ، وقال تعالى : « ان تقوم السماء والارض بأمره » الروم ـ 25 ، وقال تعالى : « وان تقوموا لليتامى بالقسط » النساء ـ 127 ، واما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد ، ولا يستقيم عليه معنى الآية.
    وثانيا : ان المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين ، فان ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام ، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا ، وبناء عمله عليه ، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط ، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع ، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.


(412)
     وثالثا : النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ، ولم يقل : إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجئ توضيحه.
    ورابعا : أن التشبيه أعني قوله : الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة ، فان الآية وإن لم تدل على ان كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان ، وكذلك الآية وإن لم تدل على ان هذا المس من فعل إبليس نفسه فان الشيطان بمعنى الشرير ، يطلق على ابليس وعلى شرار الجن وشرار الانس ، وابليس من الجن ، فالمتيقن من إشعار الآية ان للجن شأنا في بعض الممسوسين ان لم يكن في كلهم.
    وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك لانه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع ، فحقيقة معنى الآية ، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لان الله سبحانه أعدل من ان يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.
    ففيه : انه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى : « في وصف كلامه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه » فصلت ـ 42 ، وقال تعالى : « انه لقول فصل وما هو بالهزل » الطارق ـ 14.
    وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه أن الاشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الاسباب الطبيعية ، فإنها أيضا مستنده بالاخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
    على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال. لان التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع ، وإنما الاشكال في ان ينحرف الادراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله ، كان يشاهد الانسان العاقل


(413)
الحسن قبيحا وبالعكس ، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان ، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى ، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.
    على ان استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الاسباب الطبيعية كاختلال الاعصاب والآفة الدماغية اسباب قريبة ورائها الشيطان ، كما ان انواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الاسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن ايوب ( عليه السلام ) إذ قال : « أني مسني الشيطان بنصب وعذاب » ص ـ 41 ، وإذ قال : « أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين » الانبياء ـ 83 ، والضر هو المرض وله اسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى اسبابه الطبيعية إلى الشيطان.
    وهذا وما يشبهه ، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من اهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث ان اصحاب المادة لما سمعوا الالهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه ، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها ، ولم يفقهوا ان المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل ، وقد مرت الاشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.
    وخامسا : « فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين » : ان المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون. ووجه الفساد ان ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى ، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه ، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.
    قال في تفسير المنار : وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة : قد جن.
    اقول : وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا : ان المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث ، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني


(414)
من حديث عوف بن مالك مرفوعا إياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.
    ثم قال : والمتبادر إلى جميع الافهام ما قاله ابن عطية لانه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الاعمال ، ولا قرينة تدل على ان المراد به البعث ، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده ، وهي لم تنزل مع القرآن ، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية ، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية الا من لم يظهر له صحته في الواقع.
    ثم قال : وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها ، وقلما يصح في التفسير شيء ، انتهى ما ذكره.
    ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال : أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصودا لذاته ، وتركوا لاجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار ، يزيد فيهم النشاط والانهماك في إعمالهم ، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء ، انتهى.
    فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا ، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية : أما الاول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة ، ذلك مبلغهم من العلم ، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني ، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة ، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم ، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته.
    وأما الثاني فلان الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه ، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ، ولو كان كما يقول كان الانسب الاحتجاج


(415)
على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى ما قدمناه.
    قوله تعالى : « ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا » ، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال : إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة ، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيان عنده ، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك ـ لو أجاب ـ أن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه ، ولو قال : ان الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الادراك فإن معنى هذا القول : أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي ان الذي ينهي عنه ذو مزية مثله ، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس ، وهذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط ، إنما البيع مثل الربا ، ولو أنه قال : ان الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.
    والظاهر ان قوله تعالى : ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك وان لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم ، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول ، معروف عند الناس.
    وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن المراد بقولهم : انما البيع مثل الربا نظمهما في سلك واحد ، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلا وشبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله :
ومهمه مغبرة أرجائه كأن لون أرضه سمائه
    وكذا فساد ما ذكره آخرون : إنه يجوز ان يكون التشبيه غير مقلوب بنائا على ما فهموه : ان البيع إنما حل لاجل الكسب والفائدة ، وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.
    قوله تعالى : « وأحل الله البيع وحرم الربا » ، جملة مستأنفة بنائا على ان الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد. يقال : جائني زيد وقد ضرب عمرا ، ولا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى ، فإن الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه ، فلو كانت حالا لافادت : أن تخبطهم لقولهم انما البيع مثل


(416)
الربا انما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم ، مع ان الامر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما ، فالجملة ليست حالية وانما هي مستأنفة.
    وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة ، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران : « يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون » آل عمران ـ 130 ، فالجملة أعني قوله : وأحل الله الخ لا تدل على إنشاء الحكم ، بل على الاخبار عن حكم سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها : فمن جائه موعظة من ربه الخ ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.
    وقد قيل : إن قوله : وأحل الله البيع وحرم الربوا مسوق لابطال قولهم : انما البيع مثل الربا ، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع ان الله أحل احدهما وحرم الآخر.
    وفيه انه وإن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فانه معنى كون الجملة ، وأحل الله الخ ، حالية وليست بحال.
    وأضعف منه ما ذكره آخرون : ان معنى قوله : وأحل الله الخ انه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا ، لاني احللت البيع وحرمت الربا ، والامر امري ، والخلق خلقي ، أقضي فيهم بما أشاء ، واستعبدهم بما أريد ، ليس لاحد منهم ان يعترض في حكمي.
    وفيه : انه أيضا مبني على اخذ الجملة حالية لا مستأنفة ، على انه مبني على إنكار ارتباط الاحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية ، وبعبارة أخرى على نفى العلية والمعلولية بين الاشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة ، والضرورة تبطله ، على انه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل احكامه وشرائعه بمصالح خاصة أو عامة ، على ان قوله في ضمن هذه الآيات : « وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين » الآية ، وقوله : لا تظلمون الآية ، وقوله : « ان الذين يأكلون الربا » إلى قوله مثل الربا ، تدل على نوع تعليل لاحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحيوة ، وكونه منافيا غير ملائم للايمان بالله تعالى ، وكونه ظلما.


(417)
     قوله تعالى : « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله » ، تفريع على قوله : « وأحل الله البيع » الخ ، والكلام غير مقيد بالربا ، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه ، والمعنى : ان ما ذكرناه لكم في امر الربا موعظة جائتكم من ربكم ومن جائه موعظة الخ فان انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله.
    ومن هنا يظهر : ان المراد من مجئ الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى ، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهائا عن نهيه تعالى : ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه ، ومن قوله : فله ما سلف وأمره إلى الله ، انه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله : « ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون » ، فهم منتفعون فيما اسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة ، ويبقى عليهم : ان امرهم إلى الله فربما اطلقهم في بعض الاحكام ، وربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.
    واعلم : ان أمر الآية عجيب ، فان قوله : فمن جائه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا ، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة ، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه ، ورجوع الامر إلى الله فيمن انتهى ، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجئ الموعظة ، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.
    إذا علمت هذا ظهر لك : ان قوله : فله ما سلف وأمره إلى الله لا يفيد الا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها ، فالمعنى : ان من انتهى عن موعظة جائته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته ايضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره ، بل أمره فيه إلى الله ، ان شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلوة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء ، وان شاء عفى عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب


(418)
الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك ، فإن قوله : فمن جائه موعظة من ربه وانتهى ، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في اول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل الاعصار اللاحقة.
    وأما قوله : « ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون » ، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على ان المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء ، ويلازم ذلك الاصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردة باطنا ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك ، فإن من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا ولا يفلح ابدا. فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الاصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.
    ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب. فان الآية وان دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه.
    وقد ذكر في قوله تعالى : فله ما سلف ، وفي قوله : وأمره إلى الله ، وقوله : ومن عاد الخ وجوه من المعاني والاحتمالات على اساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ.
    قوله تعالى : « يمحق الله الربوا ويربي الصدقات » الخ ، المحق نقصان الشئ حالا بعد حال ، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجا ، والارباء الانماء ، والاثيم الحامل للاثم ، وقد مر معنى الاثم.
    وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا ، وقد تقدم ان إرباء الصدقات وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا ايضا كذلك لا محالة.
    فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنمائا يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب وتبسط الامن والحفظ ، وتصرف القلوب عن ان تهم بالغضب والاختلاس والافساد


(419)
والسرقة ، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة ، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال ، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافا مضاعفة.
    كذلك الربا من خاصته انه يمحق المال ويفنيه تدريجا من حيث انه ينشر القسوة والخسارة ، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن ، ويفسد الامن والحفظ ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرد أو تسبيبا ، وتدعو إلى التفرق والاختلاف ، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال ، وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه ، أو بلية تعمه.
    وكل ذلك لان هذين الامرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحيوة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية ، واستعدت للدفاع عن حقوق الحيوة نفوسهم المنكوبة المستذلة ، وهموا بالمقابلة بالغا ما بلغت ، فان أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض ـ والحال هذه ـ وقعت إحساساتهم على المقابلة بالاحسان وحسن النية وأثرت الاثر الجميل ، وإن أسئ إليهم باعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة ، وقلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من اخبار آكلي الربا من ذهاب اموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم.
    ويجب عليك : ان تعلم اولا : ان العلل والاسباب التي تبنى عليها الامور والحوادث الاجتماعية امور أغلبية الوجود والتأثير ، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحققها ، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الاغلب لا على الدوام ، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم ، وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.
    والتدبر في آيات الاحكام التي ذكر فيها مصالح الافعال والاعمال ومفاسدها مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي ان القرآن في بناء آثار الاعمال على الاعمال وبناء الاعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.
    وثانيا : ان المجتمع كالفرد والامر الاجتماعي كالامر الانفرادي متماثلان في الاحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود ، فكما ان للفرد حيوة وعمرا وموتا


(420)
مؤجلا وأفعالا وآثارا فكذلك المجتمع في حيوته وموته وعمره وأفعاله وآثاره. وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى : « وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من امة أجلها وما يستأخرون » الحجر ـ 5.
    وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الامور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه وزواله وأثره. فالعفة والخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحيوة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الانسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا والمجتمع على خلافه ، وأما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لانها كانت تبعات الانكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والامراض التناسلية والمفاسد الاخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الانساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة والبطؤ.
    إذا عرفت ذلك علمت : أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا ، وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حيوته الفناء والمذلة ، وبين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول بالرسمية ، ووضعت عليها القوانين ، وأسست عليها البنوج فانه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب ، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر ، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين : الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السئ المشؤم ، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي ، وربما لم نعتن به لالحاقه من جهة طول الامد بالعدم ، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي ، فان العمر الاجتماعي غير العمر الفردي ، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد. قال تعالى : « وتلك الايام نداولها بين الناس » آل عمران ـ 140 ، وهذا اليوم يراد به العصر الذي
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس