الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 421 ـ 435
(421)
ظهر فيه ناس على ناس ، وطائفة على طائفة ، وحكومة على حكومة ، وأمة على أمة ، وظاهر ان سعادة الانسان كما يجب ان يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.
    والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه ، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعاده الانسان : نوعه وفرده ، ومهيمنا على سعادة الدنيا : حاضرها وغابرها.
    فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبين حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين ، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما ان الارباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها ، فالربا ممحوق وإن سمي ربا والصدقة ربا رابية وان لم تسم ربا ، وإلى ذلك يشير تعالى : « يمحق الله الربا ويربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها » ، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق.
    وبما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم : ان محق الربا ليس بمعنى ابطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي ، فإن المشاهدة والعيان يكذبه ، وانما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة ، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش ، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم ، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوئا ، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له ، ووجه ضعفه ظاهر.
    وكذا ما ذكره آخرون : ان المراد به محق الآخرة وثواب الاعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا ، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات ، وجه الضعف : انه لا شك ان ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.
    وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى : ومن عاد الخ ، وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعا.
    قوله تعالى : « إن الله لا يحب كل كفار أثيم » ، تعليل لمحق الربا بوجه كلي ، والمعنى ان آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الانسانية ، وهي طرق المعاملات الفطرية ، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات


(422)
والمعاملات المشروعة ، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذه فيها ، وباستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته ، ويضمن غيره ، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة ، وباستعمال الطمع والحرص في اموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من اصول الاخلاق والفضائل وفروعها ، وهو اثيم مستقر في نفسه الاثم فالله سبحانه لا يحبه « لان الله لا يحب كل كفار أثيم ».
    قوله تعالى : « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات » الخ ، تعليل يبين به ثواب المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.
    قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين » خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الامر بقوله وذروا ما بقي من الربا ، وهو يدل على انه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا ، وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها ، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله : « فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » الآية.
    وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.
    وفي تقييد الكلام بقوله : « إن كنتم مؤمنين » إشارة إلى ان تركه من لوازم الايمان ، وتأكيد لما تقدم من قوله : ومن عاد الخ وقوله : « ان الله لا يحب كل كفار » الخ.
    قوله تعالى : وأن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، الاذن كالعلم وزنا ومعنى ، وقرء فآذنوا بالامر من الايذان ، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه ، والمعنى : « أيقنوا بحرب أو أعلموا انفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله ، وتنكير الحرب لافادة التعظيم أو التنويع ، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ ، ولو كان لله وحده لكان امرا تكوينيا ، واما رسوله فلا يستقل في امر دون الله سبحانه قال تعالى : ليس لك من الامر شيء » آل عمران ـ 128.
    والحرب من الله ورسوله في حكم من الاحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله » الحجرات ـ 9 ، على ان لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه وهو


(423)
محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم ، وهي التي تقطع انفاسهم ، وتخرب ديارهم ، وتعفى آثارهم ، قال تعالى : « وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا » الاسراء ـ 16.
    قوله تعالى : « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون » ولا تظلمون ، كلمة وان تبتم ، تؤيد ما مر ان الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه ، وقوله : فلكم رؤوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى رؤوس أموالكم ، وفي الآية دلالة على إمضاء اصل الملك أولا : وعلى كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا : وعلى إمضاء اصناف المعاملات حيث عبر بقوله رؤوس أموالكم والمال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب ثالثا.
    قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة ، والنظرة المهلة ، والميسرة اليسار ، والتمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وامهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.
    والآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا ، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا ، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالانظار.
    قوله تعالى : « وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون » ، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو « خير لكم إن كنتم تعلمون » فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.
    قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الخ ، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام ، ويهيئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة ، وهو ان أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
    واما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله ، ومعنى هذه التوفية فسيجئ الكلام فيه في تفسير سورة الانعام إنشاء الله تعالى.


(424)
    وقد قيل : إن هذه الآية : « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » ، آخر آية نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيجئ ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.
( بحث روائي )
     في تفسير القمي في قوله تعالى : الذين يأكلون الربا الآية ، عن الصادق( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء « الذين يأكلون الربا » لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وإذا هم بسبيل آل فرعون : يعرضون على النار غدوا وعشيا ، ويقولون ربنا متى تقوم الساعة.
    اقول : وهو مثال برزخي وتصديق لقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون.
    وفي الدر المنثور أخرج الاصبهاني في ترغيبه عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه ، ثم قرأ : « لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ».
    اقول : وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة ، وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.
    وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك إن الناس زعموا ان الربح على المضطر حرام فقال : وهل رأيت احدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد احل الله البيع وحرم الربا ، فاربح ولا ترب. قلت : وما الربا؟ قال : دراهم بدراهم مثلين بمثل ، وحنطة بحنطة مثلين بمثل.
    وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.
    اقول : وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والذي هو مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟ انه إنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن ، والمسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.


(425)
    وفي الكافي عن احدهما وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : فمن جائه موعظة من ربه فانتهى الآية ، قال : الموعظة التوبة.
    وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال : دخل رجل على ابي عبد الله ( عليه السلام ) من اهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شئ حتى ترده إلى أصحابه ، فجاء إلى ابي جعفر ( عليه السلام ) فقص عليه قصته ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) مخرجك من كتاب الله عز وجل ، فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف امره إلى الله. قال : الموعظة التوبة.
    وفي الكافي والفقيه عن الصادق ( عليه السلام ) : كل ربا اكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة : وقال لو ان رجلا ورث من ابيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله وان عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة.
    وفي الفقيه والعيون عن الرضا ( عليه السلام ) : هي كبيرد بعد البيان. قال : والاستخفاف بذلك دخول في الكفر.
    وفي الكافي : انه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى انه حلال قال : لا يضره حتى يصيبه متعمدا ، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز وجل.
    وفي الكافي والفقيه عن الصادق ( عليه السلام ) وقد سأل عن قوله تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات الآية ، وقيل : قد ارى من يأكل الربا يربو ماله قال : فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر.
    اقول : والرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني : عدم اعتبار الملكية والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه ، وهي لا تنافي ما مر من عموم المحق.
    وفي المجمع عن علي ( عليه السلام ) : انه قال : لعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الربا خمسة : آكله وموكله وشاهديه وكاتبه؟
    اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) قال : قال الله تعالى : انا خالق كل شيء وكلت بالاشياء غيري إلا الصدقة فإني اقبضها بيدي حتى ان الرجل والمرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى اتركه يوم القيامة


(426)
اعظم من احد.
    وفيه عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ان الله ليربي لاحدكم الصدقة كما يربي احدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل احد.
    اقول : وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريره و عائشة وابن عمر وابي برزة الاسلمي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وفي تفسير القمي : انه لما انزل الله : « الذين يأكلون الربا » الآية ، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا ابي في ثقيف وقد اوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله : « يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا » الاية.
    اقول : وروي قريبا منه في المجمع عن الباقر ( عليه السلام ).
    وفي المجمع ايضا عن السدي وعكرمة قالا : نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير : ناس من ثقيف فجاء الاسلام ولهما اموال عظيمة في الربا فانزل الله هذه الآية فقال النبي : ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، وكل دم في الجاهلية موضوع ، واول دم اضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.
    اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن السدي الا ان فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة.
    وفي الدر المنثور اخرج ابو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن ابي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الاحوص : انه شهد حجة الوداع مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : الا ان كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
    اقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة ان الآية نزلت في اموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف ، وكانوا يربونهم في الجاهلية ، فلما جاء الاسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الاسلام ذلك فرفع امرهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزلت الآية.
    وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان : ان الربا كان محرما في الاسلام قبل نزول هذه الآيات ومبينا للناس ، وان هذه انما تؤكد التحريم وتقرره ، فلا يعبأ ببعض ما روي ان حرمة الربا انما نزلت في آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانه قبض ولم يبين للناس


(427)
امر الربا كما في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب : انه خطب فقال : من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لايريبكم.
    على ان من مذهب أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : ان الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من امر دينهم وبين ذلك للناس نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس إ والسدي وعطيه العوفي وأبي صالح وسعيد بن جبير : ان آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية
    وفي المجمع عن الصادق ( عليه السلام ) : انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أورفدا.
    وفي المجمع أيضا عن علي ( عليه السلام ) إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.
    أقول : وقد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.
    وفيه : في قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال : واختلف في حد الاعسار فروي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) انه قال : هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد.
    وفيه : انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله ( عليهما السلام ).
    وفيه ! قال الباقر ( عليه السلام ) : إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال : أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة « وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون » انه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.
    أقول : والرواية تشتمل على تفسير قوله : « إن كنتم تعلمون » ، وقد مر له معنى آخر ، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه.
( بحث علمي )
     تقدم مرارا في المباحث السابقة : ان لا هم للانسان في حياته الا ان يأتي بما يأتي


(428)
من اعماله لاقتناء كمالاته الوجودية ، وبعبارة اخرى لرفع حوائجه المادية ، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه ، ويرفع به حاجته الحيوية ، فهو مالك لعمله وما عمله ( والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الاثر عند أهل الاجتماع ) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه ، ويعده ملكا جائز التصرف لشخصه ، والعقلاء من اهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.
    لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله ، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم ، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من ابواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته ، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير ، وهذا اصل المعاملة والمعاوضة.
    غير ان التبائن التام بين الاموال والامتعة من حيث النوع ، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها ، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة ، فإن الفاكهة لغرض الاكل ، والحمار لغرض الحمل ، والماء لغرض الشرب ، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة ، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.
    فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار ، وكان الاصل في وضعه : انهم جعلوا شيئا من الامتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا اصلا يرجع إليه بقية الامتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية افراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما ، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شيء من الامتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.
    ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للاشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه ، وواحد الحجم وهو الكيل ، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه ، وعند ذلك تعينت النسب وارتفع اللبس ، وبان مثلا ان القيراط من الالماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد ، وتبين بذلك ان القيراط من الالماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس.
    ثم توسعوا في وضع نقود أخر من اجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.


(429)
    ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من الافراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.
    فهذه أعمال قدمها الانسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة ، واستقر الامر بالاخرة على ان الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار ، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله ، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الانسان لانه الذي يقدر الانسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة ، وربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والامتعة وهو الصرف.
    وقد ظهر بما مر : ان اصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في اصل المعاوضة ، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة ، وهذا أعني المغايرة هو الاصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع ، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع ، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه ، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا ، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟
    الربا ـ ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل ، أو اعطاء سلعة بعشرة إلى أجل واخذ اثنتي عشرة عند حلول الاجل وما اشبه ذلك ـ إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالاعسار والاعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه ان له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين ، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام مايقترضه ، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد ( 20 ـ 0 = المال ) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.
    واما المرابى فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض ، وذلك تمام العشرين ، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال ، وليس الا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي ، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين ، ويؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين ، وتحكمهم


(430)
في أموال الناس واعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الانسان من قريحة التعالي والاستخدام ، والى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن انفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام ، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الانسانية وفناء المدنية.
    هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على اداء ديونه أو يريد ذلك.
    هذا في الربا المتداول بين الاغنياء واهل العسرة ، واما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما فيه انه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب ، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجاره واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع ، ووقوع التطاول بينها واكل بعضها بعضا ، وانهضام بعضها في بعض ، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار ، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الاقلين ، وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.
    ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد ان السبب الوحيد في شيوع الشيوعية وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد ، وتقدمهم البارز في مزايا الحياة ، وحرمان آخرين وهم الاكثرون من أوجب واجباتهم ، وقد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به اسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في حقوق الانسانية ، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها ، وكانوا يحسبون انها يسعدهم في ما يريدونه من الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم ، والتحكم المطلق بما شائوا ، وانها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون ان صار ما حسبوه لهم عليهم ، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم ، « ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين » ، وكان عاقبة الذين اساؤوا السوآى ، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الانسانية في مستقبل أيامها ، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الاموال ، وحبس الالوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى ، وجلوس قوم على أريكة البطالة والاتراف ، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو اتكاء الانسان في حياته على العمل ، فلا يعيش بالعمل عدة لاترافهم ، ولا يعيش به


(431)
آخرون لحرمانهم.

    قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في اعيانهما ولكن يضطر الخلق اليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ، ولابد في مقدار العوض من تقدير ، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال : يعطى مثله في الوزن أو الصورة ، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الاشياء لا تناسب فيها ، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا ، فافتقرت هذه الاعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المراتب ، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي ، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الاموال حتى تقدر الاموال بهما ، فيقال : هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوى مأة ، فهما من حيث انهما متساويان لشئ واحد متساويان ، وانما أمكن التعديل بالنقدين إذ لاغرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك في حق من لاغرض له فلا ينتظم الامر ، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الايدي ، ويكونا حاكمين بين الاموال بالعدل.
    ولحكمة أخرى وهي : التوسل بهما إلى سائر الاشياء لانهما عزيز ان في أنفسهما ، ولاغرض في اعيانهما ، ونسبتهما إلى سائر الاموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء ، لاكمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابه مثلا ، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشئ وهو في معناه كأنه كل الاشياء ، والشئ انما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها ، كالمرآة لالون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لاغرض فيه وهو وسيلد إلى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية. وفيهما ايضا حكم يطول ذكرها.


(432)
    ثم قال ما محصله : انهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.
    وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم وابطال لحكمتهما ، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس والقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.
    وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال وهما مقصودان لغيرهما ، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والاعمال التي يقوم بها أخساء الناس.
    وفرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنه كفر بالنعمة وظلم ، فعنهما خلقا لغيرهما لالنفسهما ، إذ لاغرض يتعلق بأعيانهما.
    وقد اشتبه عليه الامر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك :
     اما اولا : فإنه ذكر ان لاغرض يتعلق بهما في انفسهما ، ولو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الامتعة والحوائج ، وكيف يجوز أن يقدر شيء شيئا بما ليس فيه؟ وهل يمكن ان يقدر الذراع طول شيء الا بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل شيء الا بثقله الذي فيه؟
    على ان اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم الا بكونهما مقصودين لانفسهما ، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبي.
    على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم أعني الذهب والفضة في الاعتبار ، والواقع يكذب ذلك ، ولكان جميع أنواع النقود متساوية القيم ، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الامتعة كالجلد والملح وغيرهما.
    واما ثانيا : فلان الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما ، بل ما يظهر من قوله تعالى : « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله الآية » التوبة ـ 34 ، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل والمبادلة دائما كما سيجئ بيان ذلك في تفسير الآية.
    واما ثالثا : فلان ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه ظلما وكفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما ، وكذا في بيع الصرف ، ولم يعدا في الشرع ظلما وكفرا ولاحراما.


(433)
     واما رابعا : فلان ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم والكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض ، ولم يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع ان الحكم واحد ، فما ذكره غير تام جمعا ومنعا.
    والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض. قال تعالى : « وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون » الروم ـ 39 ، فجعل الربا رابيا في أموال الناس وذلك انه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما ان البذر من النبات ينمو بالتغذي من الارض وضم أجزائها إلى نفسه ، فلا يزال الربا ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها ، وهذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم ، وبذلك يظهر ان المراد بقوله تعالى : وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.
    يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها


(434)
وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ـ 282. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي إئتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ـ 283.
( بيان )
     قوله تعالى : « إذا تداينتم » الخ ، التداين ، مداينة بعضهم بعضا ، والاملال والاملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه ، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال ، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره. والفسوق هو الخروج عن الطاعة. والرهان ، وقرء فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.
    والاظهار الواقع في موقع الاضمار في قوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق ، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.
    والضمير البارز في قوله : أن يمل هو فليملل وليه ، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه ، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الاوليين بأن الولي في الصورتين الاوليين هو المسؤول بالامر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل : ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليه.
    وقوله : أن تضل إحديهما ، على تقدير حذر ان تضل إحديهما ، وفي قوله : إحديهما الاخرى وضع الظاهر موضع المضمر ، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين ، فالمراد من الاول احديهما لاعلى التعيين ، ومن الثاني احديهما بعد ضلال الاخرى ، فالمعنيان مختلفان.
    وقوله : واتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الامر والنهى ، وأما قوله : « ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم » ، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الارث : « يبين الله لكم ان تضلوا » النساء ـ 176 ، فالمراد به


(435)
الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.
    وما قيل : إن قوله : واتقوا الله ويعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم الالهي ، فيه أنه وان كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة ، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف ، على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.
    ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فانه لو لاكون قوله ويعلمكم الله ، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق ان يقال : يعلمكم بإضمار الفاعل ، ففي قوله تعالى : « واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم » ، أظهر الاسم اولا وثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين ، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل ، كأنه قيل : هو بكل شيء عليم لانه الله.
    واعلم : ان الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين والرهن وغيرهما ، والاخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه ، ولذلك آثرنا الاغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه.
     لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ـ 284.
( بيان )
    قوله تعالى : « لله ما في السموات وما في الارض » ، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السموات والارض ، وهو توطئة لقوله بعده : وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، أي إن له ما في السموات والارض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم ، فهو محيط بكم مهيمن على اعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة ، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.
    وربما استظهر من الآية : كون السماء مسانخا لاعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو مما في السموات ، ولله ما في السموات كما ان ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الارض ، ولله ما في الارض فما انطوى في النفوس سواء أبدى أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس