الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 436 ـ 446
(436)
     قوله تعالى : وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، الابداء هو الاظهار مقابل الاخفاء ، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه ، ولا مستقر في النفس إلا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالايمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإنها هي التي تقبل الاظهار والاخفاء. أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها ، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانية من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الافعال ، فبصدور الافعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأما إخفائها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.
    وبالجملة ظاهر قوله : ما في أنفسكم ، الثبوت والاستقرار في النفس ، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة ، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله : إن تبدوا وقوله : أو تخفوها فان الوصفين يدلان على ان ما في النفس بحيث يمكن ان يكون منشئأ للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء ، وهذه الصفات يمكن ان تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات ، وأما الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الانسان وكذلك التصورات الساذجة التي لاتصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لانها كما عرفت غير مستقرة في النفس ، ولا منشأ لصدور الافعال.
    فتحصل : ان الآية إنما تدل على الاحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر الافعال من الطاعات والمعاصي ، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الانسان بها ، فتكون الآية في مساق قوله تعالى : « لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » البقرة ـ 225 ، وقوله تعالى : « فانه آثم قلبه » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : « إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا » الاسراء ـ 36 ، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالا وأوصافا يحاسب الانسان بها ، وكذا قوله تعالى : « إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة » النور ـ 9 ، فانها ظاهرة في ان العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي ، هذا.


(437)
     فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم : أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفي ، وأما كون الجزاء في صورتي الاخفاء والاظهار على حد سواء ، وبعبارة اخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.
    وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره ، وليس الا تكليفا بما لا يطاق ، فمن ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص.
    فمنهم من قال : إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب ، وهو تكليف بما لا يطاق ، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية.
    وفيه : أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر. على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب. على انه تعالى يخبر بقوله : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » الحج ـ 78 ، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.
    ومنهم من قال : إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال : إنها مخصوصة بالكفار.
    ومنهم من قال : إن المعنى : إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.
    ومنهم من قال : ان المراد بالآية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الاخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو اخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى : « فينبئكم بما كنتم تعملون » المائدة ـ 105 ، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الاية كما تقدم.
    قوله تعالى : « فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير » ، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات والاحوال النفسانية السيئة ، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصة. وقوله : إن الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الاخيرة ، أو إلى مدلول الآية بتمامها.


(438)
( بحث روائي )
     في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم مجثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق : الصلوة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولانطيقها. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتاب من قبلكم » : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : « سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ». فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في اثرها : « آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون » الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : « لا يكلف الله نفسا الا وسعها » إلى آخرها.
    اقول : ورواه في الدر المنثور عن احمد ومسلم وابي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابي هريرة ، وروى قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس. وروي النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة.
    وروي عن الربيع بن أنس : ان الآية محكمة غير منسوخة وإنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.
    وروي عن ابن عباس بطرق : ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها. فهي محكمة غير منسوخة.
    وروي عن عائشة أيضا : ان المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن إذا هم بالمعصية ولم يفعلها ، فالآية ايضا محكمة غير منسوخة.
    وروي من طريق علي عن ابن عباس في قوله : وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه : فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فانها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : اني أخبركم بما أخفيتم في انفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله : يحاسبكم به الله يقول يخبركم. وأما اهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.
    اقول : والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في انها مخالفة لظاهر


(439)
القرآن على ما تقدم : ان ظاهر الآية هو : ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما من طريق الجوارح ، وليس في الخطور النفساني كسب ، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر ، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الاخبار بالخطورات والهمم النفسانية ، فهذا ما تدل عليه الآية وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم.
    وأما حديث النسخ خاصد ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية.
    اولها : مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.
    ثانيها : اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه. ولاسيما منه تعالى ، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى ، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية : فلما اقترئها القوم الخ ان النسخ انما وقع قبل العمل وهو محذور.
    ثالثها : أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين : ان قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لا يصلح لان يكون ناسخا لشئ ، وإنما يدل على ان كل نفس انما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل ، فلو حمل عليها ما لا تطيقه ، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فانما هو امر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن الا نفسها ، فالجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفسا الا وسعها ، كالمعترضة لدفع الدخل.
    رابعها : انه سيجئ ايضا : ان وجه الكلام في الآيتين ليس إلى امر الخطورات النفسانية اصلا ، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لابد منه في باب النسخ.
    بل قوله تعالى : آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى : « لله ما في السموات وما في الارض » إلى آخر الآية على ما سيأتي إنشاء الله.
     آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ـ 285. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت


(440)
وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ـ 286.
( بيان )
    الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورد من التفاصيل المبينة لغرضها ، وقد مر في ما مر أن غرض السورة بيان ان من حق عبادة الله تعالى : أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله ، وهذا هو الذي تشتمل عليه الآية الاولى من قوله ، آمن الرسول إلى قوله : من رسله ، وفي السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر ، وهذا هو الذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الاولى وتمام الآية الثانية ، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله وختمه إلى بدئه.
    ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين ، توضيحه : أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب ان يتصف به اهل التقوى ، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية ، فذكر ان المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة ، فلاجرم انعم الله عليهم بهداية القرآن ، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين.
    ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية ، وأكرمهم بأنواع النعم ، وعظائم الحباء ، فلم يقابلوه الا بالعتو وعصيان الامر وكفر النعمة ، والرد على الله وعلى رسله ، ومعاداة ملائكته ، والتفريق بين رسل الله وكتبه. فقابلهم الله بحمل الاصر الشاق من الاحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.
    ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف اهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والارشاد الا بأنعم القبول والسمع والطاعة ، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله ، غير مفرقين بين أحد


(441)
من رسله ، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة الربوبية ، فانهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الاجابة.
    لان وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطأ ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما اورد أهل الكتاب من قبلهم ، فالتجأوا إلى جناب العزة ومنبع الرحمة ان لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا ، ولا يحمل عليهم إصرا ، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين.
    فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين ، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة ، لا ما ذكروه : أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة : « إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » الاية الدال على التكليف بما لا يطاق ، وأن الاية الاولى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الاية ، حكاية لقبول الاصحاب تكليف ما لا يطاق ، والاية الثانية ناسخة لذلك !
     وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول : أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فان هجرة النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الانصار للدين الالهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالاموال والانفس ، وترك المؤمنين من المهاجرين الاهلين والبنين والاموال والاوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لاجابتهم دعوة نبيه بالسمع والقبول ، وشكر منه لهم ، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الاية : « أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » فان الجملة يؤمي إلى ان سؤالهم هذا كان في اوائل ظهور الاسلام.
    وفي الآية من الاجمال والتفصيل ، والايجاز ثم الاطناب ، وأدب العبودية وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب.
    قوله تعالى : « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون » ، تصديق لايمان الرسول والمؤمنون ، وإنما أفرد رسول الله عنهم بالايمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له ، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى : « فأنزل الله سكينته


(442)
على رسوله وعلى المؤمنين » الفتح ـ 26 ، وقوله تعالى : « يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا » التحريم ـ 8.
    قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، تفصيل للاجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة ، فان ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الايمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون ، فمن آمن بما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد آمن بجميع ذلك ، كل على ما يليق به.
    قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله ، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول ، وقد مر في قوله تعالى : « وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » البقرة ـ 127 ، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية ، وأنه من أجمل السياقات القرآنية ، والنكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الايمان بما أنزل الله تعالى ، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم ، وان كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده وفي نفسه ، وأما تكلمهم به لسانا واحدا فليس الا بلسان الحال.
    ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا الخ ، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه ، وهما جميعا من قول المؤمنين في اجابة دعوة الداعي.
    والوجه في هذه التفرقة أن قولهم : لا نفرق الخ مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم : سمعنا وأطعنا.
    وقد بدء تعالى بالاخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الافراد فقال : كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال : لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين ، لان الذي جرى من هذه الامور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين عيسى ومحمد ، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى ، وبين محمد فانشعبوا شعبا وتحزبوا أحزابا وقد كان الله تعالى خلقهم امة واحدة على الفطرة ، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم ، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين ، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد ، بخلاف الايمان


(443)
فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.
    قوله تعالى : « وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » ، قولهم سمعنا وأطعنا ، إنشاء وليس باخبار وهو كناية عن الاجابة إيمانا بالقلب وعملا بالجوارح ، فإن السمع يكني به لغة عن القبول والاذعان. والاطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والاطاعة يتم به أمر الايمان.
    وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها. وهذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده : أن يسمع ليطيع ، وهو العبادة كما قال تعالى : « وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما اريد ان يطعمون » الذاريات ـ 57 ، وقال تعالى : « ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن اعبدوني » يس ـ 61.
    وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد : الانبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم ان يغفر لهم ان أطاعوه بالعبودية كما ذكره اول ما شرع الشريعة لآدم وولده فقال : « قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون » البقرة ـ 38 ، وليس الا المغفرة.
    والقوم لما قالوا : سمعنا وأطعنا وهو الاجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا وأطعنا : غفرانك ربنا وإليك المصير ، والمغفرة والغفران : الستر ، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية ، ويظهر عند مصير العبد إلى ربه ، ولذلك عقبوا قولهم : غفرانك ربنا بقولهم : واليك المصير.
    قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، الوسع هو الجدة والطاقة ، والاصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الانسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الافعال الاختيارية ، فما يقدر عليه الانسان من الاعمال كأنه تسعه قدرته ، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة ، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل وسع الانسان أي طاقته وظرفية قدرته.
    وقد عرفت : أن تمام حق الله تعالى على عبده : ان يسمع ويطيع ، ومن البين


(444)
أن الانسان إنما يقول : سمعا فيما يمكن ان تقبله نفسه بالفهم ، وأما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لاجابته بالسمع والقبول. ومن البين أيضا ان الانسان انما يقول : طاعة فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل ، فإن الاطاعة هي مطاوعة الانسان وتأثر قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثر مثلا ، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الانسان ان يسمع ببصره ، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد ، أو يتولد من أبويه مره ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي ، فإجابة داعي الحق بالسمع والطاعة لاتتحقق الا في ما هو اختياري للانسان تتعلق به قدرته ، وهو الذي يكسب به الانسان لنفسه ما ينفعه أو يضره ، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الانسان إنما وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة.
    فظهر مما ذكرنا ان قوله : لا يكلف الله ، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده : ان لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الايمان بما هو فوق فهمهم والاطاعة لما هو فوق طاقة قواهم ، وهي ايضا السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه ، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين : سمعنا وأطعنا من غير زيادة ولا نقيصة.
    والجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفسا ، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.
    أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد : أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم ان يأتوا به.
    وأما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سئله النبي والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان ، وعدم حمل الاصر عليهم ، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم به ، كل ذلك وإن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع ، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف ، بل من قبيل جزاء التمرد والمعصية ، وأما المؤاخذة على الخطأ والنسيان فإنهما وان كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما. فمن الممكن ان يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بأيجاب التحفظ عنهما ، وخاصة إذا كان ابتلاء الانسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار ، ومثله الكلام في حمل الاصر فإنه إذا استند


(445)
إلى التشديد على الانسان جزائا لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه ويحترج منه ، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل لانها مما اختاره الانسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.
    قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطانا ، لما قالوا في مقام اجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الاجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور ، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه ، امر الذين كانوا من قبلهم وقد كانوا أمما امثالهم استرحموا ربهم وسألوه ان لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لانهم علموا بما علمهم الله ان لاحول ولا قوة إلا بالله ، وان لا عاصم من الله إلا رحمته.
    والنبى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإن كان معصوما من الخطأ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصح له ان يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه ، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.
    قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، الاصر هو الثقل على ما قيل ، وقيل هو حبس الشئ بقهره ، وهو قريب من المعنى الاول فإن في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه.
    والمراد بالذين من قبلنا : هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ماتشير السورة إلى كثير من قصصهم ، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى ، « ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم » الاعراف ـ 157.
    قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا مالا طاقه لنا به ، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق ، إذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبدا ، وان كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله : وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة ، أو عذاب نازل ، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه.
    قوله تعالى : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، العفو محو أثر الشئ ، والمغفرة ستره ، والرحمة معروفة ، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب ان يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الاصل ، وبعبارة أخرى من الاخص


(446)
فائدة ألى الاعم ، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب اثر الذنب وإمحائه كالعقاب المكتوب على المذنب ، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه ، والرحمة هي العطية الالهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته.
    وعطف هذه الثلاثة أعني قوله : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا على قوله : « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر » : بأن المراد من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها. ومنه يظهر ان المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله : غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الاجابة المطلقة على ما تقدم وهذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطأ ، فسؤال المغفرة غير مكرر.
    وقد كرر لفظ الرب في هذه الادعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالايماء والتلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبيه يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.
    قوله تعالى : « انت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين » ، استيناف ودعاء مستقل ، والمولى هو الناصر لكن لاكل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولى الامر ، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو موليهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره ، قال تعالى : « والله ولي المؤمنين » آل عمران ـ 68 ، وقال تعالى : « ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم » : محمد ـ 11.
    وهذا الدعاء منهم يدل على انهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لاصل الدين هم الا في إقامتة ونشره والجهاد لاعلان كلمة الحق ، وتحصيل اتفاق كلمة الامم عليه ، قال تعالى : « قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين » يوسف ـ 108 ، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي يتعقب الجهاد والقتال والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والانذار ، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع ، ويشير إلى ما به من الاهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى : « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه » الشورى ـ 13 ، فقولهم انت مولينا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة ، والله اعلم.
والحمد لله
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس