الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 271 ـ 285
(271)
آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟ فقال يقرأ علينا كتاب الله ، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له ، فقال له : اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع ، وقالوا : زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وامه فقال النجاشي : فما تقولون في عيسى وامه ؟ فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ؟ وقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا ، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول : آمنون من سبكم وأذاكم غرم. ثم قال : ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ؟ فقال : عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة ، قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير جوار ، وأنزل الله عز وجل في ذلك على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة : إن اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي : « والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ».
    اقول : وهذه القصة مروية من طرق اخرى ومن طرق أهل البيت ( عليهم السلام ) وإنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين ، وليست من سبب النزول في شيء.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : في قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، قال : قال أمير المؤمنين لا يهودياً يصلي إلى المغرب ، ولا نصرانياً يصلي إلى المشرق لكن كان حنيفاً مسلماً على دين محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
    اقول : قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد صلّى الله عليهما وآلهما ، وقد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة وقد حولت القبلة إليها في المدينة والكعبة في نقطة جنوبها تقريباً ، وتأبى اليهود والنصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى


(272)
جهتي المغرب التي بها بيت المقدس ، والمشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافاً عن حاق الوسط ، وقد أيد هذه العناية لفظ الآية وكذلك جعلناكم امة وسطاً الآية ، وبالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك.
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) : خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء عن عبادة الأوثان.
    وفي المجمع : في قوله تعالى : « إن اولى الناس بإبراهيم » الآية ، قال أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) إن اولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ثم تلا هذه الآية وقال ان ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته.
    وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : هم الأئمة ومن اتبعهم.
    وفي تفسيري القمي والعياشي عن عمر بن اذينة عنه ( عليه السّلام ) قال : أنتم والله من آل محمد ، فقلت : من أنفسهم جعلت فداك ؟ قال : نعم والله من أنفسهم ثلاثاً ، ثم نظر إلى ونظرت إليه ، فقال : يا عمر إن الله يقول في كتابه : « إن اولى الناس » ، الآية.
    وفي تفسير القمي في قوله تعالى : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية ، عن الباقر ( عليه السّلام ) : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك ، وكان صرف القبلة صلوة الظهر ، فقالوا صلّى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار وأكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المسجد الحرام.
    اقول : والرواية كما ترى تجعل قوله : وجه النهار ، ظرفاً لقوله : أنزل ، دون قوله : آمنوا ، وقد تقدم الكلام فيه في البيان السابق.
    وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : إن طائفة من اليهود قالت : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلوتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم.
    أقول : ورواه فيه أيضاً عن السدي ومجاهد.


(273)
    وفي الكافي ( في قوله تعالى : « إن الذين يشترون بعهد الله » الآية ) عن الباقر ( عليه السّلام ) قال : انزل في العهد : « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً » أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب إليم ، والخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة.
    وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال : اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أرض فقال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال فبيمينه ، قال : إذن والله يذهب بأرضي ، قال : إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ، قال : ففزع الرجل وردها إليه.
    اقول : والرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة ، وقد روي من طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن ، وهي متعارضة من حيث مورد القصة : ففي بعضها أن النزاع كان بين امرء القيس ورجل من حضرموت كما مر في الرواية السابقة ، وفي بعضها أنه كان بين الاشعث بن القيس وبين رجل من اليهود في أرض له ، وفي بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلاً من المسلمين فنزلت الآية.
    وقد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها : فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه.
* * *
     ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوَّة ثمَّ يقول للنَّاس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربَّّانيِّين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ـ 79. ولا يأمركم
( 3 ـ الميزان ـ 18)


(274)
أن تتَّخذوا الملائكة والنَّبيِّين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ـ 80.
( بيان )
    وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى ( عليه السّلام ) يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى ، والكلام بمنزلة قولنا : إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية ، أما الأول : فلأنه مخلوق بشري حملته امه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم ( عليهما السلام ) فمثله عند الله كمثل آدم ، وأما الثاني : فلأنه كان نبياً أوتي الكتاب والحكم والنبوة ؛ والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني رباً وكونوا عباداً لي من دون الله ، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق ، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.
    قوله تعالى : « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله » ، البشر مرادف للإنسان ، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر.
    وقوله : ما كان لبشر ، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى : « ما يكون لنا أن نتكلم بهذا » النور ـ 16 ، وقوله : « وما كان لنبي أن يغل » آل عمران ـ 161.
    وقوله تعالى : « أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة » ، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله : ثم يقول للناس ، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله : ما كان لبشر ، فإنه لو قيل : ما كان لبشر أن يقول للناس ، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتواً ، ولكنه


(275)
إذا قيل : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول : كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية ، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى ( عليه السّلام ) في قوله : « وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » المائدة ـ 116.
    ومن هنا تظهر النكتة في قوله : أن يؤتيه الله « الخ » دون أن يقال : ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول « الخ » فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله : أن يؤتيه الله « الخ » فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي أن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى : « اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ( يعني قوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين » الأنعام ـ 89.
    فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى : « لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ـ إلى أن قال ـ : وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً » النساء ـ 173 ، فإن المستفاد من الآية : أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأناً وأرفع قدراً أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب ، وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته.
    فان قلت : الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله : ثم يقول للناس ، ينافي الجمع الذي ذكرته.
    قلت : ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى ، وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زماناً كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.
    وأما قوله : « كونوا عباداً لي من دون الله ، فالعباد كالعبيد » جمع عبد ، والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه ، يقال عباد الله ، ولا


(276)
يقال : غالباً عباد الناس بل عبيد الناس ، وتقييد قوله : عباداً لي بقوله : من دون الله تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى : « ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار » الزمر ـ 3 ، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع.
    على أن حقيقة العبادة لاتتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما ، والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.
    قوله تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون الرباني منسوب إلي الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته ، والباء في قوله : بما كنتم ، للسببية ، وما مصدرية ، والكلام بتقدير القول والمعنى ، ولكن يقول : كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم.
    الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالباً فيما يتعلم عن الكتاب بقرائته قال الراغب : درس الدار بقي أثرها ، وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه ، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ ، لما كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبر عن إدامة القرائة بالحفظ قال تعالى : ودرسوا ما فيه ، وقال بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون وما آتيناهم من كتب يدرسونها انتهى.
    ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من اصول المعارف الإلهية ، والاتصاف والتحقق بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها ، والعمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم ، وتكونوا به علماء ربانيين.


(277)
    وقوله : بما كنتم ، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم : إن عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة ، وذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافاً يصاحب التغيير والتحريف ، وما بعث عيسى ( عليه السّلام ) إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه ، وليحل بعض الذي حرم عليهم ، وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.
    والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بوجه فقد كانت لدعوته أيضاً مساس بأهل الكتاب : « الذين كانوا يعلمون » ويدرسون كتاب الله لكن عيسى ( عليه السّلام ) أسبق انطباقاً عليه ، وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
    وأما سائر الأنبياء العظام من اولي العزم والكتاب : كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.
    قوله تعالى : « أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً » عطف على قوله يقول : على القرائة المشهورة التي هي نصب يأمركم ، وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية ، وكعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم ( عليه السّلام ) ، هذا في إتخاذ الملائكة أرباباً.
    وأما إتخاذ النبيين أرباباً فكقول اليهود : عزير ابن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوز لهم موسى ( عليه السّلام ) ذلك ، ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم ذلك لكان أمراً به حاشاه من ذلك.
    وقد اختلفت الآيتان : أعني قوله : ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وقوله : « أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً » من جهتين في سياقهما : الأولى : أن المأمور في الأولى ( ثم يقول للناس ) الناس ، وفي الثانية هم المخاطبون بالآية ، والثانية : أن المأمور به في الأولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أرباباً.
    أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقاً للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى ،


(278)
وقولهم بألوهيته صريحاً مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال : كونوا عباداً لي بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل : أرباباً ، ولم يقل : آلهة.
    وأما الثانية : فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما ( كونوا عباداً لي ـ يأمركم أن تتخذوا ) أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول ، والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل : ثم يقول للناس ، ولم يقل : ثم يقول لكم ؛ وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاهاً بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع حفظ الوحدة القومية ، وأما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم.
    وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع ؛ كما جرى عليه قوله تعالى : « أو يأمركم » إلى آخر الآية.
    قوله تعالى : « أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون » ، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي اوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.
    ومن هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدل عليه أيضاً احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل : « إن الدين عند الله الإسلام » آل عمران ـ 19 ، وقوله تعالى من بعد : « أفغير دين الله يبغون ـ إلى أن قال : « ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين » آل عمران ـ 85.
    وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر


(279)
الآيتين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ بناءاً على ما روي في سبب النزول وحاصله : أن أبا رافع القرظي ورجلاً من نصارى نجران قالا لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أتريد أن نعبدك يا محمد ؟ فأنزل الله : ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ، ثم أيده بقوله في آخرهما بعد : « إذ أنتم مسلمون فإن الإسلام هو الدين » الذي جاء به محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
    وفيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول ؛ وقد تقدم الكلام فيه.

    كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها امها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محرراً يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها وبان لها أنها انثى حزنت وتحسرت ثم سمتها مريم أي الخادمة وقد كان توفي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة وفيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثم اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجاباً فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً : « قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله ، والله يرزق من يشاء بغير حساب » ، وقد كانت ( عليها السلام ) صديقة ، وكانت معصومة بعصمة الله ، طاهرة مصطفاة محدثة : « حدثها الملائكة : بأن الله اصطفاها وطهرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين » ( سورة آل عمران آية 35 ـ 44 ، سورة مريم آية 16 ، سورة الأنبياء آية 91 ، سورة التحريم آية 12 ).
    ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثل لها بشراً سوياً ، وذكر لها أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولداً من غير أب ، وبشرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة ، وأخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس ، ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، ورسولاً إلى بني إسرائيل ذا الآيات البينات ، وأنبأها


(280)
: « بشأنه وقصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها » ( الآيات من آل عمران 35 ـ 44 ).
    ثم انتبذت مريم به مكاناً قصياً فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي : « إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسياً فأتت به قومها تحمله » ( سورة مريم آية 20 ـ 27 ) ، وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.
    فلما رآها قومها ـ والحال هذه ـ ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل ، وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاًً فرياً يا اخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت امك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟ قال : إني عبد الله آتاني الكتاب : « وجعلني نبياً وجعلني مباركاً اينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً ، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حياً » ( سورة مريم آية 27 ـ 33 ) فكان هذا الكلام منه ( عليه السّلام ) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى ( عليه السّلام ) وتقويمه ، وتجديد ما اندرس من معارفه ، وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.
    ثم نشأ عيسى ( عليه السّلام ) وشب وكان هو وامه على العادة الجارية في الحياة البشرية يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما عاشا.
    ثم إن عيسى ( عليه السّلام ) اوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد ، ويقول : اني قد جئتكم بآية من ربكم : « اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وابرئ الأكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون » في بيوتكم ، إن في ذلك لآية لكم ، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه.
    وكان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى ( عليه السّلام ) إلا أنه


(281)
نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديداً على اليهود ، وكان يقول : إني قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وكان يقول : « يا بني إسرائيل إني رسول الله اليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ».
    وأنجز ( عليه السّلام ) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات بإذن الله.
    ولم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتو القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريين أنصاراً له إلى الله.
    : « ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله ورفعه إليه ، وشبه لليهود : فمن زاعم أنهم قتلوه ، ومن زاعم أنهم صلبوه ، ولكن شبه لهم » ( آل عمران آية 45 ـ 58 ، الزخرف آية 63 ـ 65 ، الصف آية 6 و 14 ، المائدة آية 110 و 111 ، النساء آية 157 و 158 ) فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم وامه.

    : « كان ( عليه السّلام ) عبداً لله وكان نبياً » ( سورة مريم آية 30 ) : « وكان رسولاً إلى بني إسرائيل » ( آل عمران آية 49 ) : « وكان واحداً من الخمسة اولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل » ( الاحزاب آية 7 ، الشورى آية 13 ، المائدة آية 46 ) : « وكان سماه الله بالمسيح عيسى » آل عمران آية 45 ) : « وكان كلمة لله وروحاً منه » ( النساء آية 171 ) : « وكان إماماً » ( الاحزاب آية 7 ) : « وكان من شهداء الأعمال » ( النساء آية 159 ، المائدة آية 117 ) : « وكان مبشراً برسول الله » ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( الصف آية 6 ) : « وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين » ( آل عمران آية 45 ) : « وكان من المصطفين » ( آل عمران آية 33 ) : « وكان من المجتبين وكان من الصالحين » ( الأنعام آية 85 ـ 87 ) : « وكان مباركاً أينما كان ، وكان زكياً وكان آية للناس ورحمة من الله وبراً بوالدته وكان مسلماً عليه » ( مريم آية 19 ـ 33 ) : « وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة » ( آل عمران آية 48 ) ، فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به


(282)
هذا النبي المكرم ورفع بها قدره ، وهي على قسمين : اكتسابية كالعبودية والقرب والصلاح ، واختصاصية ، وقد شرحنا كلاً منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه.

    ذكر القرآن أن عيسى كان عبداً رسولاً ، وأنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه ، ولا تكلم معهم إلا بالرسالة ؛ كما قال تعالى : « وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني ومي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ؛ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم » المائدة 116 ـ 119..
    وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها ، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عما كان يراه عيسى المسيح ( عليه السّلام ) من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبداً لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر ، ولا يصدر إلا عن أمر ، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما امر به : « أن اعبدوا الله ربي وربكم ».
    ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب ، وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك ؛ غفر أو عذب.
    فان قلت : فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى ( عليه السّلام ) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع ؟
    قلت : القرآن صريح أو كالصريح في ذلك ، قال تعالى : « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » الزخرف ـ 86 ، وقد قال تعالى فيه : « ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً » النساء ـ 159 ، وقال تعالى : « وإذ


(283)
علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » المائدة ـ 110 ، وقد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة ، وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى ، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجيء من بيانه ، والآية إنما تنفي ذلك ، وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لامرها لا إثباتاً ولا نفياً فإنها لو كانت بصدد إثباتها ـ على منافاته (1) للمقام ـ لكان حق الكلام أن يقال : « وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم » ، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه ، وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إنشاء الله تعالى.
    وأما ما قاله الناس في عيسى ( عليه السّلام ) فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده ، واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه ، وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جداً.
    لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وامه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم ، وأما بعض الجزئيات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام.
    والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبة إليهم ما في قوله تعالى : « وقالت النصارى المسيح ابن الله » التوبة ـ 30 ، وما في معناه ، كقوله تعالى : « وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه » الأنبياء ـ 26 ، وما في قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم » المائدة ـ 72 ، وما في قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة » المائدة ـ 73 ، وما في قوله تعالى : « ولا تقولوا ثلثة » النساء ـ 171.
    وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة ، ولذلك ربما حملت (2) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين بالبنوة الحقيقية ، والنسطورية القائلين بأن النزول والبنوة من قبيل إشراق النور على جسم شفاف كالبلور ، واليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب ، وقد انقلب الإله سبحانه لحماً ودماً.
1 ـ فان المقام مقام التذلل دون الاسترسال.
2 ـ كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل.


(284)
    لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة ، وإنما يهتم بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعاً وهو البنوة ، وأن المسيح من سنخ الإله سبحانه ، وما يتفرع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافاً كثيراً وتعرقوا في المشاجرة والنزاع ، والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لساناً.
    بيان ذلك : أن التوراة والأناجيل الحاضرة جميعاً تصرح بتوحيد الإله تعالى من جانب والإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر ، وصرح بأن الابن هو الاب لا غير.
    ولم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله : وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم ، وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم ، وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السموات لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم ؟ أليس العشارون يفعلون كذلك ؟ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم ؟ أليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل » آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى. (1).
    وقوله أيضاً : « فليضيء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات » إنجيل متى ـ الإصحاح الخامس.
    وقوله أيضاً : « لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات ».
    وقوله أيضاً في الصلوة : « وهكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السموات يتقدس اسمك » « إلخ ».
    وقوله أيضاً : « فإن غفرتم للناس خطاياهم غفرلكم أبوكم السمايي خطاياكم » كل ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى.
    وقوله : « وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم » إنجيل لوقا ـ الإصحاح السادس.
1 ـ النسخة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية وعنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربية.

(285)
    وقوله لمريم المجدلية : « إمضي إلى إخوتي وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي الذي هو أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العشرون.
    فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعاً كما ترى بعناية التشريف ونحوه.
    وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوّة والأبوّة نوع من الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله : « تكلم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال : يا أِبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك » ثم ذكر دعائه لرسله من تلامذته ثم قال : « ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنك يا أبت ثابت في وأنا أيضاً فيك ليكونوا أيضاً فينا واحداً ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن واحد أنا فيهم وأنت فيّ ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني وأنني أحببتهم كما أحببتني » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح السابع عشر.
    لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله : « قال له توما : يا سيد ما نعلم أين تذهب ؟ وكيف نقدر ان نعرف الطريق ؟ قال له يسوع : أنا هو الطريق والحق والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضاً ، قال له فيلبس ، يا سيد أرنا الأب وحسبنا ، قال له يسوع : أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس ؟ من رآني فقد رأى الاب فكيف تقول أنت : أرنا الأب أما تؤمن أني في أبي وأبي في وهذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي ، أنا في أبي وأبي في » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الرابع عشر.
    وقوله : « لكني خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الثامن.
    وقوله : « أنا وأبي واحد نحن » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العاشر.
    وقوله لتلامذته : « اذهبوا وتلمذوا كل الامم وعمدوهم (1) باسم الأب والابن
1 ـ التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهر به المغتسل من الذنوب وهو من فرائض الكنيسة.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس