الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 286 ـ 300
(286)
وروح القدس » إنجيل متى ـ الإصحاح الثامن والعشرون.
    وقوله : « في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله ، والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كل به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان به كانت الحياة ، والحياة كانت نور الناس » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح الأول.
    فهذه الكلمات وما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.
    والمراد به حفظ « أن المسيح ابن » الله مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه المسيح في تعليمه كما في قوله : « إن أول كل الوصايا : اسمع يا إسرائيل الرب إلهك إله واحد هو » إنجيل مرقس ـ الإصحاح الثاني عشر.
    ومحصل ما قالوا به ( وإن كان لا يرجع إلى محصل معقول ) : أن الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث ، والمراد بالاقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشيء وبروزه وتجليه لغيره وليست الصفة غير الموصوف ، والأقانيم الثلاث هي : اقنوم الوجود واقنوم العلم ، وهو الكلمة ، واقنوم الحياة وهو الروح.
    وهذه الأقانيم الثلاث هي : الأب والابن والروح القدس : والأول اقنوم الوجود ، والثاني اقنوم العلم والكلمة ، والثالث اقنوم الحياة ، فالابن وهو الكلمة واُقنوم العلم نزل من عند أبيه وهو أُقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو أقنوم الحيوة التي بها يستنير الأشياء.
    ثم اختلفوا في تفسير هذا الاجمال اختلافاً عظيماً أوجب تشتتهم وانشعابهم شعباً ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين ، وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.
    إذا تأملت ما قدمناه عرفت ، أن ما يحكيه القرآن عنهم أو ينسبه إليهم بقوله : « وقالت النصارى المسيح ابن الله ، الآية » وقوله : « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، الآية » وقوله : « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، الآية » ، وقوله : « ولا تقولوا ثلثة انتهوا ، الآية » كل ذلك يرجع إلى معنى واحد ( وهو تثليث الوحدة ) هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية ، وهو الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة.


(287)
    وإنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح ( عليه السّلام ) على كثرتها وتشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتضح.

    يرد القرآن في الاحتجاج ، ويرد قول المثلثة من طريقين ، أحدهما الطريق العام ، وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، الثاني : الطريق الخاص وهو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابناً إلهاً بل عبد مخلوق.
    أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة والتولد هو أن يجزء واحد من هذه الموجودات الحية المادية كالإنسان والحيوان بل النبات أيضاً شيئاً من مادة نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعه مماثلاً لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتب على المجزى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ، والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجاً حتى يصيره حيواناً أو نباتاً آخر مماثلاً لنفسه ، ومن المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك : أما اولاً فلاستلزامه الجسمية المادية ، والله سبحانه منزه من المادة ولوازمها الافتقارية كالحركة والزمان والمكان وغير ذلك ، وأما ثانياً فلأن الله سبحانه لاطلاق أُلوهيته وربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شيء سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شيء غيره يماثله في النوعية يستقل عنه بنفسه ، ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه ، وأما ثالثاً فلأن جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى ، يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه تعالى وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة وتدريج.
    وهذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى : « وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » البقرة ـ 117 ، وعلى ما قربناه فقوله : سبحانه برهان ، وقوله : « له ما في السموات والأرض كل له قانتون » برهان آخر ، وقوله بديع


(288)
السموات والأرض إذا قضى « إلخ » برهان ثالث.
    ويمكن أن يجعل قوله : بديع السموات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها ، ويستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على مثال نفسه لأن مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهاناً آخر.
    ولو فرض قولهم : اتخذ الله ولداً كلاماً ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شيء عن شيء يماثله في الحقيقة من غير تجز مادي أو تدريج ( زماني وهذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم : المسيح ابن الله بعد تنقيحه ) ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية والمادية والتدريج بقي إشكال المماثلة.
    توضيحه أن إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة ، وهو إثبات للكثرة الحقيقية وإن فرضت الوحدة النوعية بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانيه ، وكثير من حيث إنهما فردان من الإنسان ، وعلى هذا فلو فرض وحدة الاله كان كل ما سواه ومن جملتها الابن غيراً له مملوكاً مفتقراً إليه فلا يكون الابن المفروض إلهاً مثله ، ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الاله عز اسمه.
    وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى : « ولا تقولوا ثلثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً » النساء ـ 171.
    وأما الطريق الثاني وهو بيان أن شخص عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) ليس ابناً لله مشاركاً له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية ولوازمها.
    وتوضيحه أن المسيح ( عليه السّلام ) حملت به مريم ، وربته جنيناً في رحمها ، ثم وضعته وضع المرأة ولدها ، ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة امه ، ثم أخذ في النشوء وقطع مراحل الحيوة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة ، وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حيوته ؛ يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان : من جوع وشبع ، وسرور ومسائة ، ولذة وألم ، وأكل وشرب ، ونوم ويقظة ، وتعب وراحة ، وغير ذلك.


(289)
    فهذا ما شوهد من حال المسيح ( عليه السّلام ) حين مكثه بين الناس ، ولا يرتاب ذو عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه ، وأما صدور الخوارق وتحقق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير و إبراء : « الأكمه والأبرص » ، وكذا تحقق الخوارق من الآيات في وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي امور خارقة للعادة المألوفة والسنة الجارية في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من تراب ولا أب له ، وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى ( عليهم السلام ) جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم الوهية ، ولا خروجاً عن طور الإنسانية.
    وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد ـ إلى أن قال : ـ ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة كانا يأكلأن الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون » المائدة ـ 75 ، وقد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية واستلزاماً للحاجة والفاقة المنافية للالوهية فمن المعلوم أن من يجوع ويظمأ بطبعه ثم يشبع بأكله أو يرتوي بشربة ليس عنده غير الحاجة والفاقة التي لا يرفعها إلا غيره ، وما معنى الوهية من هذا شأنه ؟ فإن الذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره ، وليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره.
    وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وامه ومن في الأرض جميعاًً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير » المائدة ـ 17.
    وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقاً ( آية 75 ) خطاباً للنصارى : « قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم » المائدة ـ 76.
    فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح
( 3 ـ الميزان ـ 19 )


(290)
أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حيوة الإنسان متصفاً بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعية كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانية ، والخواص البشرية ولم يكن هذا التلبس والاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح ( عليه السّلام ) إنساناً ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال ، والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنساناً وابن الإنسان ، مملوئة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شيء منها صرفاً ولا تأويلاً ، ومع تسليم هذه الامور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئاً كغيره ، ويمكن أن يهلك كغيره.
    وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما للتقرب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض اخر تشابه ذلك.
    وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى : « لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً » النساء ـ 172 ، فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله ، وأن الالوهية لغيره لا نصيب له فيها ، فأي معنى لنصب الشيء نفسه في مقام العبودية والمملوكية لنفسه ، وكون الشيء قائماً بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه ولا أن روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى : « وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون » الأنبياء ـ 28.
    على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله ورسله مؤتمر للامر محكوم بالحكم ولا معنى لامر الشيء نفسه ولا لطاعته لذاته ، ولا لأنقياده وائتماره لمخلوق نفسه.
    ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار » المائدة ـ 72 ، وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.


(291)
    والأناجيل أيضاً مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه ، وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع اعبدوا ( الله ربي وربكم ) لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله ، وعلى اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره ، وعلى اعترافه بأنه رب الناس ، ولا تتضمن دعوته إلى عبادة نفسه صريحاً ولا مرة مع ما فيها من قوله : « أنا وأبي واحد نحن » إنجيل يوحنا ـ الإصحاح العاشر ، فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على أن المراد : أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم : « من يطع الرسول فقد أطاع الله » النساء ـ 80.

    زعمت النصارى : ان المسيح فداهم بدمه الكريم ، ولذلك لقبوه بالفادي ، قالوا : إن آدم لما عصي الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة ، وكذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا وتناسلوا ، وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه ، « وقد كان الله سبحانه رحيماً عادلاً ».
    فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له ، وهو أنه لو عاقب آدم وذريته بخطيئتهم كان ذلك منافياً لرحمته التي لها خلقهم ، ولو غفر لهم كان ذلك منافياً لعدله فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإسائته (1).
    ولم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح ، وذلك بأن حل المسيح ( وهو ابن الله ، وهو الله نفسه ) رحم واحدة من ذرية آدم وهو مريم البتول وتولد منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنساناً كاملاً لأنه ابن إنسان ، وإلهاً كاملاً لأنه ابن الله ، وابن الله هو الله ( تعالى ) معصوماً عن جميع الذنوب والخطايا.
    وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم ، ويأكل ويشرب معهم ، ويكلمهم ويستأنس بهم ، ويمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر
1 ـ هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس مار اسحق ان التخلف في مجازاة الجريمة والخطيئة وبعبارة اخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.

(292)
قتلة ، وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم (1) هذا ما قالوه.
    وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدئون إلا بها ، ولا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الاسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطباً لرسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين » يوسف ـ 108 ، مع أن المسيح ( على ما يصرح به الأناجيل ، وقد تقدم نقله. كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد ومحبة الله سبحانه.
    وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان ، وألفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل ، ومناقضتها لكتب العهدين. والذي يهمنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لاصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.
    على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس ويكلمهم ببيان ما يقرب من أُفق عقولهم ، ويمكن بياناته من فقههم وفهمهم ، وهو الأمر الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك ، ويفرق بين الخير والشر والنافع والضار فيأخذ بهذا ويترك ذاك ، والذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.
    فأما ما ذكروه ففيه اولا : أنهم ذكروا معصية آدم ( عليه السّلام ) بالأكل من الشجرة المنهية ، والقرآن يدفع ذلك من جهتين :
    الأولى : أن النهي هناك كان نهياً إرشادياً يقصد به صلاح المنهي ووجه الرشد
1 ـ في الرسالة الأولى ليوحنا ـ الفصل الأول « يا اولادي هذه الالفاظ اكتبها إليكم لئلا تخطئوا وإن يخطئ أحدكم فلنا لدى الرب معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل ومن أجل العالم كله

(293)
في أمره لا إعمال المولوية ، والأمر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولوي كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره ، وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف ، وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنه فعل ، وبالجملة لم يلحق بآدم ( عليه السّلام ) إلا أنه أخرج من الجنة وفاته راحة القرب وسرور الرضا ، وأما العقاب الاخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقاباً ، راجع تفسير الآيات 35 ـ 39 ، من سورة البقرة.
    والثانية : أنه ( عليه السّلام ) كان نبياً والقرآن ينزه ساحة الأنبياء ( عليهم السلام ) ويبرء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي ، والفسق عن أمر الله سبحانه ، والبرهان العقلي أيضاً يؤيد ذلك ، راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية 213 من سورة البقرة.
    وثانياً : قولهم : إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله : « ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى » طه ـ 122 ، وقوله : « فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم » البقرة ـ 37.
    والاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة وتبعة الذنب إنما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة والتمرد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولوية ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنه نوع تصرف وحكومة كما أن له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة ، وحسن العفو والمغفرة عن الموالي واولي القوة والسطوة في الجملة مما لا ريب فيه ، والعقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا وجه له البتة وإلا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقق لأن المغفرة والعفو إنما يكون لامحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب ، ومع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة ، مع أن الوحي الإلهي مملو بحديث العفو والمغفرة ، وكتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام


(294)
المنقول منهم لا يخلو عنه ، وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم مما لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.
    وثالثاً : أن قولهم : أن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضاً ممن لم يذنب في المعاصي المولوية. وبعبارة اخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعم عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله ؛ وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يرد ذلك كما في قوله : « أن لا تزر وازرة وزر أخرى ـ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » النجم ـ 39 ، والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية 216 و 218 من سورة البقرة.
    ورابعاً : أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبدي من غير فرق بينها ، ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات ، والذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا والمعاصي مختلفة : فمنها كبائر ، ومنها صغائر ، ومنها ما تناله المغفرة ، ومنها ما لا تناله إلا بالتوبة كالشرك ، قال تعالى : « إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم » النساء ـ 31 ، وقال تعالى : « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » النساء ـ 48 ، فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر ، وما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة ؛ وجعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة ، ومنها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة ، وليس كل ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبدي.
    على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا ، وهكذا ، والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كل ذنب وخطأ موضع غيره ، ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤاخذات مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحداً مع هذا الاختلاف الفاحش بينها ، وإذا فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله ؛


(295)
كما يقول القرآن الكريم ومن المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبد ( راجع بحث الافعال السابق الذكر ).
    وخامساً : ما ذكروه من وقوع الإشكال ، وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الذي ذكروه. والمتأمل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى وتقدس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل بإرادة وعلم في نفسه ، وإرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الإنسان إنما يريد شيئاً إذا رجحه بعلمه ، فهناك مصالح ومفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها ، وربما أخطأ في التطبيق فندم (1) على الفعل ، وربما فكر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه ، وربما جهل أمراً ، وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر والتروي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج ، ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربما يعلم وربما يجهل ، وربما يغلب وربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه ، وإذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك ، والذي هذا شأنه يكون موجوداً مادياً جسمانياً واقعاً تحت ناموس الحركة والتغير والاستكمال ، والذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع ، وليس بالواجب تعالى ، الخالق لكل شيء.
    وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميته واتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات وخاصة الإنسان.
    والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية ، كما يقول تعالى : « سبحان الله عما يصفون » الصافات ـ 159 ، والبراهين العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم ،
1 ـ في الإصحاح السادس من صفر التكوين من التوراة : وكره الله خلقة ولد آدم على الأرض ( التوراة العربية مطبوعة سنة 1811 الميلادية )

(296)
والقدرة المطلقة من غير عجز ، والعلم المطلق من غير طرو جهل ، والحيوة المطلقة من غير إمكان موت وفناء ، وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حيوته.
    وإذا كان كذلك لم يكن جسماً ولا جسمانياً لأن الأجسام والجسمانيات محاط التغيرات والتحولات ، ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات ، وإذا لم يكن جسماً ولا جسمانياً لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوعة : من غفلة وسهو وغلط وندم وتحير وتأثر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبية ونحوها ، وقد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها ؛ يجدها المراجع إذا راجع.
    وعلى الناقد المتبصر والمتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين : ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال ، وينزهه عن كل صفة نقص ، وبالاخرة يعده أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد والتقدير ؛ وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان ، وخرافات هند القديم والصين ، وامور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه.
    وسادساً : قولهم : إن الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحل رحماً من الأرحام ليتولد إنساناً وهو إله ، وهذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلأنه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.
    ومن المعلوم أن العقل أيضاً لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي ، وعدم التغير ، وعدم تحدد الوجود ، والإحاطة بكل شيء ، والتنزه عن الزمان والمكان وما يتبعهما ، وتأملت في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنيناً في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين ، أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسمية وجميع أوصاف الجسمية وآثارها وبين ما ليس فيه جسمية ولا شيء مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد بينهما بوجه.


(297)
    وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القديسيين من تقبيح الفلسفة والإزراء بالأحكام العقلية ، يقول بولس : « قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء ولأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق ؟ أو ليس قد حمق الله حكمة هذا العالم ـ إلى أن قال ـ : وإذ اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة نكرز (1) نحن بالمسيح مصلوب » رسالة بولس ـ الإصحاح الأول ، ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة ، يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.
    ومن ما مر يظهر ما في قولهم : إنه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإن الاله الذي صوروه غير مصون عن الخطأ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.
    وأما الذنب والمعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة والأنقياد فهو غير متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضاً غير متصورة في حقه سبحانه.
    وسابعاً : قولهم : إنه بعد أن صار إنساناً عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلهاً وإنساناً في عرض واحد ، فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئاً من مخلوقاته أي يتصف بحقيقه كل نوع من هذه الأنواع الخارجية ، فتارة يكون إنساناً من الأناسي ، وتارة فرساً ، وتارة طائراً ، وتارة حشرة ، وتارة غير ذلك ، وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معاً.
    وهكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به ، وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معاً كالعدل والظلم ، وأن يتصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل ، والقدرة والعجز ، والحياة والموت و الغنى والفقر ، تعالى الملك الحق ؛ وهذا غير المحذور المتقدم في الأمر السادس.
1 ـ كرز كرزاً ، وعظ ونادى

(298)
    وثامناً : قولهم : إنه تحمل الصلب واللعن أيضاً لأن المصلوب ملعون ، ماذا يريدون بقولهم : إنه تحمل اللعن ؟ وما ذا يراد بهذا اللعن ؟ أهو هذا اللعن الذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك ؟ فإن كان هو الذي نعرفه ، وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة ؟ أو إبعاد غيره إياه من الرحمة فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما ، وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه ؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شيء.
    والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة ، قال تعالى : « يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني » الفاطر ـ 15 ، والقرآن يسميه تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.
    فان قيل : إن اتصافه بالهوان ، وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان ، وإلا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.
    قيل لهم : هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الامور الشاقة حقيقة ومن غير مجاز أولا ؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه ، وإن كان الثاني عاد الإشكال ، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل ، فإن تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان ، وهو ظاهر.
    وتاسعاً : قولهم : إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم ، يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب الاخروي وكيف يتحقق هذا العقاب ، ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع ، وما هو موقف التشريع من ذلك ؟ على ما يتكفله البيان القرآني وتعليمه.
    فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ، ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى :


(299)
: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاًً ما » البقرة ـ 26 ، وفي ذيل قوله تعالى : « كان الناس امة واحدة » البقرة ـ 213 ، أن الأحكام والقوانين التي يقع فيها المخالفة والتمرد ثم الذنب والخطيئة إنما هي امور وضعية اعتبارية اريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها والرقوب لها ، وأن العقاب المترتب على المعصية والمخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفاً للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية والتمرد عن الطاعة ، هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني.
    لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقى من ذلك وأرق ويؤيده البحث العقلي على ما مر ؛ وهو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة ، وهذه هي التي تهيئ للإنسان نعمة أُخروية أو نقمة أُخروية اللتين ممثلهما الجنة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي وتنتهي إلى امور حقيقية لها نظام حقيقة غير اعتباري.
    ومن البين أيضاً أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة ، وانهاء الهداية التكوينية إلى غايتها وهدفها من الخلقة ، وبعبارة اخرى ، شأنه تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعي الصالح في الدنيا ، والحيوة الناعمة السعيدة في الآخرة ، والطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لاصلاح الاجتماع وجهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة ، كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر.
    فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدني في الدنيا ، والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد ، وجميع ذلك امور حقيقية غير مبتنية على اللغو والجزاف.
    وإذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح ؟ وما فائدة تشريعه معه ؟ وما فائدة تشريعه بعده ؟!


(300)
    وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الاخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه ، ولم يزل الوعد والوعيد والأنذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.
    وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع ( السابقة وكم من الأنبياء والربانيين من الامم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى ( عليهما السلام ) وغيرهما ) وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى ؟ أترى أنهم ختموا الحيوة على الشقاء أو السعادة ؟ وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة ؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحيوة السعيدة ؟
    مع أن المسيح يصرح بأنه إنما ارسل لتخليص المذنبين والمخطئين ، وأما الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك (1).
    وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية وجعل النواميس الدينيه قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية ، ولا لهذا الفعل العجيب من الله ( تعالى وتقدس ) ـ محمل حق الا أن يقال ، إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شيء من هذه التشريعات قط ، وإنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوماً لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ، ويبلغ غايته ويظفر بامنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس ، وإخفاء أن هيهنا محذوراً لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة ، وذهبت الشرائع سدى ، وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة.
    فغر الناس وغر نفسه : أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم ، وأما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود
1 ـ فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشارين والخطاة أجابهم يسوع قائلاً لا يحتاج الاصحاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لادعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة إنجيل لوقا ـ الإصحاح الخامس.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس