الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 301 ـ 315
(301)
لغواً لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له ، فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحققه !
    وأما في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية الإلهية لغواً أوضح وأبين ، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة ، واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة ، وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لولا الفداء.
    فان قيل : إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته (1).
    قيل : مضافاً إلى أنه مناقض لما تقدمت الاشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته ، إنه هدم لجميع الاصول الماضية إذ لا يبقى من الناس ـ آدم فمن دونه ـ في حظيرة النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم ، وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الاصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم ، فليت شعري إلى ما يؤول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من اممهم ؟ وبما ذا يتصف الدعوة التي جاؤوا بها من كتاب وحكم ، أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدق التوراة ودعوتها ، وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء ! وهل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب ؟
    فان قيل : إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح ، وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفساً بما سيصنعه.
    قيل : اولا : إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب ، على أن البشارة لو
1 ـ « أقول لكم إن كل من اعترف لي قدام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضاً قدام ملائكة الله ، ومن أنكرني قدام الناس أنكره أيضاً قدام ملائكة الله ، وكل من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له ومن يجدف روح القدس لا يغفر له » إنجيل لوقا ـ الاصحاح الثاني عشر.

(302)
فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتدين به. وثانياً : إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتى من المسيح نفسه ، والأناجيل مملوءة بذلك. وثالثاً : إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى : « إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة » على كافتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.
    فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ، ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » طه ـ 50 ، فبين أن كل شيء مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده ، والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية ، ومنها هداية الإنسان هداية دينية.
    ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنة : « قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » البقرة ـ 39 ، وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب ، وقد قال تعالى : « الحق أقول » ص ـ 84 ، وقال تعالى : « ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد » ق ـ 29 ، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه ، هو الذي يمضيه ، وإنما يفعل ما قاله ، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئاً ثم يتردد في فعله ، أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله ، ولا جهة غيره بأن يريد شيئاً ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر ، وغلبة المانع الخارجي ، قال تعالى : « والله غالب على أمره » يوسف ـ 21 ، وقال تعالى : « إن الله بالغ أمره » الطلاق ـ 3 ، وقال تعالى : حكاية عن موسى « قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى » طه ـ 52 ، وقال تعالى : « اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب » المؤمن ـ 17.
    تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ، ولم يجهل شيئاً مما سيظهر منه ، ولم يندم على ما فعله ، ثم شرع لهم الشرائع تشريعاً


(303)
جدياً فاصلاً من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ، ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب ، أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.
    وعاشراً : ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيىء من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شيء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الاثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالاموال ، ويسمى البدل فدية وفداء ، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر.
    ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية ـ على خلاف السلطنة الوضعية الإعتبارية الإنسانية ـ سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف ، فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها وأمثالها امور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا ، نحن المجتمعين نبطلها مرة ، ونبدلها اخرى على حسب تغير مصالحنا في الحيوة والمعاش ( راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى : « ملك يوم الدين » الحمد ـ 4 ، وقوله تعالى : « قل اللهم مالك الملك الآية » آل عمران ـ 26 ).
    وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله : « فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأويكم النار » الحديد ـ 15 ، وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه : « وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله » قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ـ إلى أن قال ـ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : « أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » المائدة ـ 118 ،


(304)
    فإن قوله : « وكنت عليهم » « الخ » في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي وعينته وهو تبليغ الرسالة ، والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم ، وأما هلاكهم ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك اليك من غير أن يرتبط بي شيء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئاً منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك ، عليهم وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معاً إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلاً.
    وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى : « واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون » البقرة ـ 48 ، وكذا قوله تعالى : « يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة » البقرة ـ 254 ، وقوله تعالى : « يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم » المؤمن ـ 33 ، فإن العدل في الآية الاولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.
    نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أن الشفاعة ( كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : « واتقوا يوماً لا تجزي » البقرة ـ 48 ) ، نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة ، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه ، وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.
    فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شيء إلى شيء آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.
    ويدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى : « ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » الزخرف ـ 86 ، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى ، والمسيح ( عليه السّلام ) ممن كانوا يدعونهم من دون الله ، وقد نص القرآن بأن


(305)
الله علمه الكتاب والحكمة ، وبأنه من الشهداء يوم القيامة ، قال تعالى : « ويعلمه الكتاب والحكمة » آل عمران ـ 48 ، وقال تعالى حكاية عنه : « وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم » المائدة ـ 117 ، وقال تعالى : « ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا » النساء ـ 159.
    فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح ( عليه السّلام ) من الشفعاء ، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى : « واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً الآية » البقرة ـ 48.

    القرآن ينفي أن يكون المسيح ( عليه السّلام ) هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروج لها فيما بينهم بل انهم تعبّدوا لرؤسائهم في الدين وسلموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى : « وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون الآيات » التوبة ـ 31.
    وهؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله : « يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل ، ليسوا » هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا : إن الملائكة بنات الله فإن قولهم بأن لله ابناً أقدم تاريخاً من تماسهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصة قول اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله : من قبل ، أنهم سابقون فيه على اليهود والنصارى ، على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك (1).
1 ـ ذكروا أن أول من وضع الاصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان سابور ذي الاكتاف ساد قومه بمكة واستولى على سدانة البيت ثم سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والاشخاص البشرية نستنصر بها فننصر ، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها ، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما والتقرب إلى الله بهما ـ ذكره في الملل والنحل وغيره. ومن عجيب الأمر أن القرآن يذكر أسماء من أصنام العرب في قصة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه : « وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً » نوح ـ 23.
( 3 ـ الميزان ـ 20)


(306)
    على أن الوثنية من الروم ويونان ومصر وسورية والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه ، وانتقال العقائد والمزاعم الدينية إليهم منهم أسهل ، والأسباب بذلك أوفق.
    فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء وثنية الهند والصين ووثنية الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أن التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوة والابوة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك ، وهذا من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف.
    ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى : « قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل » المائدة ـ 77 ، فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير الحق إنما طرء عليهم بالتقليد واتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم.
    وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم ، فإن الكلام مطلق غير مقيد ولم يقل : قوم منكم ، وأضلوا كثيراً منكم ، وليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيراً أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين ( بصيغة المفعول فيهما ) ولم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين اميين ليس عندهم من العلم والحضاره والتقدم ما يتبعهم به وفيه غيرهم من الامم كفارس والروم والهند وغيرهم.
    فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين والهند والغرب كما تقدم.

    الرواية وإن عدت المجوس من أهل الكتاب ، ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب نوح ، وصحف إبراهيم ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وزبور داود ، لكن القرآن لا يذكر شأنهم ، ولا يذكر كتاباً لهم ، والذي عندهم من « أوستا » لا ذكر منه فيه ، وليس عندهم من سائر الكتب اسم.


(307)
    وإنما يطلق القرآن « أهل الكتاب » فيما يطلق ، ويريد بهم اليهود والنصارى لمكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم.
    والذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة وثلثون كتاباً منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار (1) ومنها كتب المؤرخين إثنا عشر كتاباً (2) ، ومنها كتاب أيوب ، ومنها زبور داود ، ومنها ثلثة كتب لسليمان (3) ، ومنها كتب النبوات سبعة عشر كتاباً (4).
    ولم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى وزبور داود ( عليهما السلام ).
    والذي عند النصارى من مقدسات الكتب ، الأناجيل الأربعة وهي أنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا ؛ ومنها كتاب أعمال الرسل ، ومنها عدة من الرسائل (5) ، ومنها رؤيا يوحنا.
    ولم يذكر القرآن شيئاً من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن هناك كتاباً سماوياً أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل ، وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل ، والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلا أن في كلمات
1 ـ وهي سفر الخليقة ، وسفر الخروج وسفر الأحبار ، وسفر العدد ، وسفر الاستثناء.
2 ـ وهي كتاب يوشع ، وكتاب قضاة بني إسرائيل ، وكتاب راعوث ، والسفر الأول من أسفار صموئيل ، والثاني منها ، والسفر الاول من أسفار الملوك ، والثاني منها ، والسفر الاول من أخبار الأيام ، والسفر الثاني منها ، والسفر الأول لعزرا ، والثاني له ، وسفر إستير.
3 ـ وهي كتاب الأمثال ، وكتاب الجامعة ، وكتاب تسبيح التسابيح.
4 ـ وهي كتاب نبوة أشعيا ، وكتاب نبوة أرميا ، ومراثي أرميا ، وكتاب حزقيال ، وكتاب نبوة دانيال ، وكتاب نبوة هوشع ، وكتاب نبوة يوييل ، وكتاب نبوة عاموص ، وكتاب نبوة عويذيا ، وكتاب نبوة يونان ، وكتاب نبوة ميخا ، وكتاب نبوة ناحوم ، وكتاب نبوة حيقوق ، وكتاب نبوة صفونيا ، وكتاب نبوة حجى ، وكتاب نبوة زكريا ، وكتاب نبوه ملاخيا.
5 ـ وهي أربع عشرة رسالة لبولس ، ورسالة ليعقوب ، ورسالتان لبطرس ، وثلاث رسائل ليوحنا ، ورسالة ليهوذا.


(308)
رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل (1).
    والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضاً من التوراة الحقة موجود فيما عند اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى ، قال تعالى : « وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله » المائدة ـ 43 ، وقال تعالى : « ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به » المائدة ـ 14 ، والدلالة ظاهرة. ( بحث تاريخي )

    1 ـ قصة التوراة الحاضرة : بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أولاً عيشة القبائل البدويين ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتى نجاهم الله بموسى من فرعون وعمله.
    وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحيوة بالإمام وهو موسى وبعده يوشع ( عليهما السلام ) ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما. وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأول الملوك فيهم شاؤل وهو الذي يسميه القرآن الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان.
    ثم انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكاً.
    ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل وتصرفوا في اورشليم وهو بيت المقدس ، وذلك في حدود سنة ستمأة قبل المسيح ، وملك بابل يومئذ بخت نصر ( بنو كد نصر ) ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره
1 ـ في رسالة بولس إلى أهل غلاطية ـ الاصحاح الاول : « إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوه أي يغيروه.
وقد استشهد النجار في قصص الأنبياء بما مر وبموارد اخر من كلمات بولس في رسائله على أنه كان هناك إنجيل غير الأربعة يسمى إنجيل المسيح.


(309)
فحاصروهم ثم فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك ، وخزائن الهيكل ( المسجد الأقصى ) وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفساً وساروا بهم إلى بابل وما أبقوا في المحل إلا الضعفاء والصعاليك ، ونصب بخت نصر « صدقيا » وهو آخر ملوك بنى إسرائيل ملكاً عليهم ، وعليه الطاعة لبخت نصر.
    وكان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة والشدة ، واتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرد عن طاعة بخت نصر.
    فأغضب ذلك بخت نصر غضباً شديداً فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم فتحصنوا عنه بالحصون ، وتمادى بهم التحصن قريباً من سنة ونصف حتى ظهر فيهم القحط والوباء.
    وأصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون ، وذلك في سنة خمسمأة وست وثمانين قبل المسيح ، وقتل نفوسهم ، وخرب ديارهم وخربوا بيت الله ، وأفنوا كل آية وعلامة دينية ، وبدلوا هيكلهم تلاً من تراب ، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الذي كانت تجعل فيه.
    وبقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ، ولا من مسجدهم وديارهم إلا تلال ورياع.
    ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك ، وكان من أمره مع البابليين ما كان ، وفتح بابل ودخله أطلق اسراء بابل من بني اسرائيل ، وكان عزرا المعروف من المقربين عنده فأمّره عليهم ، وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ، ويبني لهم الهيكل ، ويعيدهم إلي سيرتهم الاولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمأة وسبعة وخمسين قبل المسيح ، وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصححها ، وهي التوراة الدائرة اليوم (1).
    وأنت ترى بعد التدبر في القصة أن سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير
1 ـ مأخوذ من قاموس الكتاب المقدس تأليف مستر هاكس الأمريكاني الهمداني ومآخذ اخرى من التواريخ.

(310)
متصلة بموسى ( عليه السّلام ) إلا بواحد ( وهو عزرا ) ، لا نعرفه أولاَ ، ولا نعرف كيفية اطلاعه وتعمقه ثانياَ ، ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاَ ، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاَ ، ولا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساَ.
    وقد أعقبت هذه الحادثة المشيئومة أثراَ مشيئوماً آخر وهو إنكار عدة من باحثي المؤرخين من الغربيين وجود موسى وما يتبعه ، وقولهم : إنه شخص خيالي كما قيل نظيره في المسيح عيسى بن مريم ( عليهما السلام ) ، لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن القرآن الشريف يصرح بوجوده ( عليه السّلام ) وينص عليه.
    2 ـ قصة المسيح والإنجيل :
    اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم ، وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرت بهم ، ومع ذلك فانك لو تتبعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) : لا على كيفية ولادته ، ولا على ظهوره ودعوته ، ولا على سيرته والآيات التي أظهرها الله على يديه ، ولا على خاتمة حيوته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك ، فما هو السبب في ذلك ؟ وما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره ؟
    والقرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى ، وأنهم ادعوا قتل عيسى ، قال تعالى : « وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً » النساء ـ 157.
    فهل كانت دعويهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القومية من غير أن يكون مودعاً في كتاب ؟ وعند كل أُمة أحاديث دائرة من واقعيات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.
    أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم ، وادعوا قتل المسيح ؟ لا طريق إلى استبانة شيء


(311)
من ذلك غير أن القرآن ـ كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة ـ لا ينسب إليهم صريحاً إلا دعوى القتل دون الصلب ، ويذكر أنهم على ريب من الأمر ، وأن هناك اختلافاً !
    وأما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أن قصته ( عليه السّلام ) وما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وكتاب أعمال الرسل للوقا ، وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا ، واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها :
    أما إنجيل متى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة 38 الميلادية ؛ وذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة 50 إلى سنة 60 (1) فهو مؤلف بعد المسيح.
    والمحققون من قدمائهم ومتأخريهم على أنه كان أصله مكتوباً بالعبرانية ثم ترجم إلى اليونانية وغيرها ، أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة ، وأما الترجمة فلا يدري حالها ، ولا يعرف مترجمها (2).
    وأما إنجيل مرقس : فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس ، ولم يكن من الحواريين وربما ذكروا إنه أنما كتب إنجيله باشارة بطرس وأمره ، وكان لا يرى إلهية المسيح (3) ، ولذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرف المسيح تعريف رسول إلهي مبلغ لشرائع الله (4) ، وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة 61 ميلادية.
    وأما إنجيل لوقا : فلوقا هذا لم يكن حوارياً ولا رأى المسيح وإنما تلقن النصرانية من بولس ؛ وبولس كان يهودياً متعصباً على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح ويقلب
1 ـ قاموس الكتاب المقدس للمستر هاكس مادة ـ متى.
2 ـ كتاب ميزان الحق ، واعتراف به على تردد في قاموس الكتاب المقدس.
3 ـ نقل ذلك عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الأخبار في تراجم الأخبار لبطرس قرماج.
4 ـ ذكره في قاموس الكتاب المقدس ، يقول فيه : إن نص تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية ، وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنه ليس له كثير اعتبار لان ظاهر إنجيله أنه كتبه لاهل القبائل والقرويين لا لاهل البلاد وخاصة الرومية ، فتدبر في كلامه !


(312)
الامور عليهم ، ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متبعيه وأنه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشر بإنجيله.
    وبولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها (1) فبني التعليم على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل ، وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير مما في التوراة (2) مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ولم يحلل إلا أشياء معدودة ، وبالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة ويرد إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.
    وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس ، وقد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتاباً إلهاميا كسائر الأناجيل (3) كما يدل عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.
    وأما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر ( الحواريين ) الذي كان يحبه المسيح حباً شديداً (4).
    وذكروا أن « شيرينطوس » و « أبيسون » وجماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود أُمة اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في
1 ـ راجع مادة بولس من قاموس الكتاب المقدس.
2 ـ راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.
3 ـ قال في أول إنجيل لوقا : « لاجل أن كثيرين راموا كتب قصص الامور التي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأولون الذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداماً للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعاً لكل شيء بتحقيق أن أكتب اليك أيها العزيز ثاوفيلا » ، ودلالته على كون الكتاب نظرياً غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة الالهام ، وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأولين من إنجيل لوقا وأنهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني ، وجزم إكهارن في كتابه ص 95 أن من ف 43 إلى 47 من الباب 22 من إنجيل لوقا الحاقية ، وذكر إكهارن أيضاً في ص 61 من كتابه : قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات التي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير ، وقول « كلي مي شيس أن متى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا » نقل عن قصص الأنبياء للنجار ـ ص 477.
4 ـ راجع قاموس الكتاب المقدس مادة يوحنا.


(313)
سنة 96 ميلادية عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ، ويبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم (1).
    وقد اختلفت كلماتهم في السنة التي الف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنها سنة 65 ، وقائل أنها سنة 96 ، وقائل أنها سند 98.
    وقال جمع منهم إنه ليس تأليف يوحنا التلميذ فبعضهم على أنه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية (2) ، وبعضهم على أن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ، ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس (3) ، وبعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة « أفاس » الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا (4) ، فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة ؛ وإذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم : متى ، مرقس ، لوقا ، يوحنا ، بطرس ، بولس ، يهوذا ؛ ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متى ، وقد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الذي ترجمه ؟ وكيف كان أصله وعلى ما ذا كان يبني تعليمه ، أبرسالة المسيح أم بالوهيته.
    وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجار وأقام الدعوة إلى الله ، وكان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري وأن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل : « وأنه أحيى الميت ، وابرء الأكمه والأبرص » ، وشفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم ، وأنه كان له إثنا عشر تلميذاً : أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحي « إلخ ».
1 ـ نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.
2 ـ نقل ذلك من كتاب « كاتلك هرالد » في المجلد السابع المطبوع سنة 1844 ص 205 ، نقله عن استادلن ( عن القصص ) ، وأشار إليه في القاموس في مادة يوحنا.
3 ـ قال ذلك « برطشنيدر » على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الاول ( عن القصص ).
4 ـ المدرك السابق.


(314)
    فهذا ملخص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض وغربها ، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم ، مبهم العين والوصف.
    وهذا الوهن العجيب في مبدء القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اروبا أن أدعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية على حكومات الوقت أولها ، وتأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة ، وهو موضوع « كرشنا » الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته ، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلصهم من الأوزار والخطايا كما يدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل ( كما سيجيء ذكره ).
    وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح : المسيح غير المصلوب ، والمسيح المصلوب ، وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.
    وأن التاريخ الميلادي الذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمأة وستة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستين سنة ، والمسيح الثاني المصلوب ، يتأخر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة ، وقد عاش نحواً من ثلث وثلثين سنة (1).
    على أن عدم انطباق التاريخ الميلادي على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى إنكاره (2) وهو سكتة تاريخية.
    على أن هيهنا اموراً مريبة موهمة اخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من الميلاد أناجيل كثيرة اخرى ربما أنهوها إلى نيف ومأة من الأناجيل ، والأناجيل الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت
1 ـ وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل « بهروز » في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوية ، وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب ، والقدر المتيقن ( الذي يهمنا منه ) اختلال التاريخ المسيحي.
2 ـ راجع مادة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.


(315)
قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة (1).
    ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربية والفارسية ، وهو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح عيسى بن مريم (2).
    ومن العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة والفداء وغيرهما ، ذكر المؤرخ الإمريكي الشهير « هندريك ويلم وان لون » في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب « إسكولابيوس كولتلوس » الرومي سنة 62 الميلادية إلى ابن أخيه « جلاديوس أنسا » وكان جندياً في عسكر الروم بفلسطين ، يذكر فيه أنه عاد مريضاً برومية يسمى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية ، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.
    ثم يذكر أنه ترك بولس ولم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق « أوستى » ثم يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس ، وعن أخبار بولس نفسه ، ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.
    فكتب إليه « جلاديوس أنسا » بعد ستة أسابيع من معسكر الروم باورشليم :
1 ـ ولقد لام « شيلسوس » الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه « الخطاب الحقيقي » على تلاعبهم بالأناجيل ، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالأمس ، وفي سنة 384 م ، أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونية في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الأساقفة ، وتمت تلك الترجمة التي تسمى ( فولكانا ) وكان ذلك خاصاً بالأناجيل الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وقد قال مرتب تلك الأناجيل : ( بعد أن قابلنا عدداً من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايراً للمعنى ، وأبقينا الباقي على ماكان عليه ) ، ثم إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع « التريدنتيني » سنة 1546 أي بعدها بأحد عشر قرناً ، ثم خطأها سيستوس الخامس سنة 1590 وأمر بطبع نسخ جديدة ، ثم خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً ، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين ( تفسير الجواهر ـ الجزء الثاني ـ ص 121 الطبعة الثانية ).
2 ـ وقد وجد هذا الإنجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربية الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسية الحبر الفاضل « سردار كابلي » بإيران.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس