الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 316 ـ 330
(316)
« أني سألت عدة من شيوخ البلد ومعمريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم [ هذا والسنة سنة 62 ميلادية وهم شيوخ ! ].
    حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه ؟ فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل اسمه يوسف ، و ذكر أنه كان من أتباعه ومحبيه ، وأنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.
    فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.
    كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة وقص لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان ، أوان الاغتشاش والفتنة.
    ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديه في عهد القيصر « تي بريوس ».
    فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في اورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد : « ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة » هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.
    فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشد ما يكون ، وقد قالوا لفيلاطوس إن هذا الشاب الناصري يقول : لو أن يونانياً أو رومياً أو فلسطينياً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطالعة كتاب الله وتلاوة آياته.
    وكأن هذه التعرضات والاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطعوهم إرباً إرباً رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار ويسجنه حتى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.
    وكان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح ، وكلما


(317)
كلم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم ، علت أصواتهم وتنادوا : « هو كافر » « هو ملحد » « هو خائن » فلم ينته الأمر إلى طائل.
    حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه وكلمه وسأله عما يقصده : « بما يبلغه من الدين » ، فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض ، وأنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية ، وأنه يعتقد أن الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.
    وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين وسائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير في ما كلمه به عيسى موضع غمضة ، ولا محل مؤاخذة ، ولذلك عزم ثانياً أن يخلص هذا النبي السليم المتين من شر اليهود ، وسوف في حكم قتله وإنجازه.
    لكن اليهود لم يرضوا بذلك ، ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر ، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة ، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على إسكات الناس فيها كل القوة.
    وكان على الحكام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.
    فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بداً من أن يفدي هذا الشاب المسجون للامن العام ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.
    وأما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه ، وقد عفى قبل موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبونه.
    قال ( جلاديوس أنسا ) هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى ودموعه تجري على خديه ، وحين ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن يأخذه ، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه.


(318)
    وسألته عن بولس رفيقك المعهود ، فما كان يعرفه معرفة تامة ، والقدر الذي تبين من أمره أنه كان رجلاً خياماً ثم ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الرب الرؤوف الرحيم الإله الذي بينه وبين « يهوه » إله يهود الذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء والأرض.
    والظاهر أن بولس سافر أولاً إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان وأنه كان يقول للعبيد والأرقاء إنهم جميعاً أبناء لأب يحبهم ويرأف بهم ، وأن السعادة ليست تخص بعض الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير وغني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة ، ويعيشوا على الطهارة والصداقة ، انتهى ملخصاً.
    هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث.
    وبالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى ( عليه السّلام ) ، وأنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالداء !
    ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقية ورومية وغيرها ، وبسطوا الدعوة المسيحية لكنهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصلية من التعليم كلاهوت المسيح ، وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكملاً إياها (1) فافترقوا عند ذلك فرقاً.
    والذي يجب الإمعان فيه أن الامم التي بسطت الدعوة المسيحية وظهرت فيها أول ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو البرهمنية أو البوذائية ، وفيها اصول من مذاق التصوف من جهة ، والفلسفة البرهمنية من جهة ، وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت ، على أن القول بتثليث
1 ـ يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس ، وقد اعترضت به النصارى

(319)
الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحملها الصلب (1) والعذاب فدائاً ، كان دائراً بين القدماء من وثنية الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس ، وكذا قدماء وثنية الغرب كالرومان والإسكندناويين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلفة في الأديان والمذاهب القديمة.
    ذكر « دوان » في كتابه « خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاخرى » إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث ، ويسمون هذا التعليم بلغتهم « ترى مورتى » وهي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية « ترى » ومعناها الثلاثة و « مورتى » ومعناها هيآت أو أقانيم ، وهي « برهما وفشنو ، وسيفا » ثلثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.
    ثم ذكر : أن برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الأبن ، وسيفا هو روح القدس.
    ثم ذكر أنهم يدعون سيفاً « كرشنا (2) ‍ » الرب المخلص والروح العظيم الذي ولد منه « فشنو » الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي الإله الواحد.
    وذكر أيضاً : أنهم يرمزون للاقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.
    وقال مستر « فابر » في كتابه « أصل الوثنية » كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من « برهما » و « فشنو » و « سيفا » نجد عند البوذيين ثالوثاً فإنهم يقولون : إن « بوذ » إله له ثلاثة أقانيم ، وكذلك بوذيو ( جينست ) يقولون : إن « جيفا » مثلث الأقانيم.
1 ـ القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جداً فقد كانوا يقتلون من اشتد جرمه وفظع ذنبه بالصلب الذي هو من أشد أسباب القتل عداباً وأسوئها ذكراً ، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثم يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير ، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربما شدتا من غير دق ثم تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أياماً ثم تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال ، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة ، وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.
2 ـ وهو المعبر عنه بالانكليزية « كرس » وهو المسيح المخلص.


(320)
    قال : والصينيون يعبدون بوذه ويسمونه « فو » ويقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.
    وقال دوان في كتابه المتقدم ذكره : وكان قسيسوا هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم : إن الأول خلق الثاني والثاني خلق الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس.
    وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره : هل كان قبله أحد أعظم منه ؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه ؟ فأجابه الكاهن : نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعهما روح القدس ، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة ، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.
    وقال بونويك في كتابه « عقائد قدماء المصريين » أغرب كلمة عم انتشارها في ديانة المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة ، وأن كل شيء حصل بواسطتها ، وأنها منبثقة من الله ، وأنها هي الله ، انتهى ؛ وهذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا.
    وقال « هيجين » في كتاب « الإنكلوساكسون » كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلص الفرس.
    ونقل عن كتاب سكان اوروبة الأولين : أنه كان الوثنيون القدماء يقولون : إن الإله مثلث الأقانيم.
    ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديين والإسكندناويين قضية الثالوث السابق الذكر ، وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيين والآشوريين والفينيقيين.
    وقال دوان في كتابه « خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاخرى » ( ص 181 ـ 182 ) ما ترجمته بالتلخيص :
    « إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائاً عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود الوثنيين وغيرهم » وذكر شواهد على ذلك :
    منها قوله : يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر ـ الذي هو نفس الآلهة فشنو الذي لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم ـ تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها


(321)
فأتاها وخلص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.
    وذكر أن « مسترمور » قد صور كرشنا مصلوباً كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين ، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلقاً ، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب ، والنصارى تقول : إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.
    وقال « هوك » في ص 326 من المجلد الأول من رحلته : ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة ، وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.
    وقال « موريفور ليمس » في ص 26 من كتابه « الهنود » ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية ، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها بعد « الكياتري » وهو ، إني مذنب ومرتكب الخطيئة ، وطبيعتي شريرة ، وحملتني امي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.
    وقال القس « جورج كوكس » في كتابه ( الديانات القديمة ) في سياق الكلام عن الهنود : ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنه قدم شخصه ذبيحة.
    ونقل « هيجين » عن « اندارا دا الكروزوبوس » وهو أول اوروبي دخل بلاد التيبال والتبت : أنه قال في الإله « اندرا » الذي يعبدونه : أنه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم ، وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم.
    وفي كتاب « جورجيوس » الراهب صورة الإله « اندرا » هذا مصلوباً ، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي اقصرها ـ وفيه صورة وجهه ـ والسفلى اطولها ، ولولا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصاً ، هذا.
    وأما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح ، والمولود الوحيد ، ومخلّص العالم ، ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت ، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها ، ويجعلهم وارثين لملكوت السموات ،
( 3 ـ الميزان ـ 21)


(322)
بين ذلك كثير من علماء الغرب : منهم « بيل » في كتابه ، و « هوك » في رحلته ، و « موالر » في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية ، وغيرهم. (1).
    فهذه نبذة أو أُنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت ، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة التي كانت الامم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت الديانة النصرانية تنبسط على الأرض ، وأخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها ، فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أُصول المسيحية وأفرغوها في قالب الوثنية واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل دعوتهم وهضم تعليمهم ؟
    ويؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والازراء بطرق الاستدلالات العقلية ، وأن الإله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل.
    وليس ذلك إلا لأنهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل والاستدلال فرده أهله بأنه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم طور وراء طور العقل.
    ثم إن الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد ( على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ ) وبسطوا الدعوة المسيحية واستقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد ، كان من سر موفقيتهم وخاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت البلاد من فشوّ الظلم والتعدي ، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد ، والبون البعيد في حيوة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة ، والفصل الشاسع بين عيشة الأغنياء وأهل الاتراف والفقراء والمساكين والأرقاء.
    وقد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة والمحابة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ، ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية ، والإقبال على الحيوة الصافية السعيدة التي في ملكوت السماء ، ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك
1 ـ يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار ـ الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف ، وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية وغيرها.

(323)
والقياصرة كل العناية ، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.
    فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوة وشدة حتى حصل لهم جم غفير في إمبراطورية الروم وإفريقية والهند وغيرها من البلاد ، ولم يزالوا كلما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.
    وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم ، ولا بملوك الوقت وحكامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم ، وربما كان ذلك يؤديهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اخرى وتشرد ثالثة.
    وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر « كنستانتين » فآمن بالملة المسيحية وأعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريته من الممالك ، وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي.
    تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي.
    والذي يجب إلفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على اصول مسلمة إنجيلية فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب والأبن والروح ، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اصولاً مسلمة وبنوا البحث والتنقير عليها.
    وهذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن والوهاء فإن استحكام البناء المبني وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئاً ، وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.
    وقد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبداً فكم في الأديان من مسألة تعبدية تحيلها العقول.
    وهو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد ، وكيف يتصور وقوع مسألة مستحيلة في دين حق ؟ ونحن إنما نقبل الدين ونميز كونه دين حق بالعقل وكيف يمكن


(324)
عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل ويحيله ؟ وهل هذا إلا تناقض صريح ؟
    نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية ، والسنة الطبيعية القائمة ، وأما المحال الذاتي فلا البتة.
    وهذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية وانكباب المحصلين على الأبحاث المذهبية في مدارس الروم والإسكندرية وغيرهما.
    فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيئ مجمعاً مشكلاً عند ظهور كل قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العام وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.
    وأول مجمع عقدوه مجمع نيقيه لما قال أريوس : إن اقنوم الأبن غير مساو لاقنوم الأب ، وان القديم هو الله والمسيح مخلوق.
    اجتمعت البطارقة والمطارفة والاساقفة في قسطنطنية بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مأة وثلاثة عشر رجلاً ، واتفقوا على هذه الكلمة نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء ، وصانع ما يرى وما لا يرى ، وبالأبن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد ، بكر الخلائق كلها ، وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أُتقنت العوالم وكل شيء ، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، وولد من مريم البتول ، وصلب أيام فيلاطوس ، ودفن ثم قام في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة اخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد ، روح الحق الذي يخرج من أبيه ، وبمعمودية (1) واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قدسية
1 ـ المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(325)
مسيحية ـ جاثليقية ، وبقيام أبداننا (1) ، والحيوة أبد الآبدين (2) ».
    هذا هو المجمع الأول وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطورية واليعقوبية والأليانية واليليارسية و المقدانوسية والسباليوسية والنوئتوسية والبولسية وغيرها.
    ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها ، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها ، وتزيد كل يوم في قوتها وسيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول اوروبا إلى التنصر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولندا وغيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلادي سنة 496.
    ولم تزل تتقدم وترتقي الكنيسة من جانب ، ومن جانب آخر كانت تهاجم الامم الشمالية والعشائر البدوية على الروم والحروب والفتن تضعف سلطنة القياصرة ؛ وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والامم المتغلبة على إلقاء زمام امور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام امور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية والجسمانية لرئيس الكنيسة اليوم وهو « البابا جريجوار » وكان ذلك سنة 590 الميلادية.
    وصارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما ، والروم الشرقي الذي عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك ، أتباع كنيسة روما والأورثوذكس وهم غيرهم.
    وكان الأمر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان ، وقتل القيصر « بالي اولوكوس » وهو آخر قياصرة الروم الشرقي وقسيس الكنيسة اليوم ( قتل في
1 ـ أورد عليه أنه يستلزم القول بالمعاد الجسماني والنصارى تقول بالمعاد الروحاني كما يدل عليه الإنجيل وأظن أن الإنجيل انما يدل على عدم وجود اللذائذ الجسمانية الدنيوية في القيامة ، وأما كون الإنسان روحاً مجرداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدل على أن الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أن الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلاً عن الإنسان يوم القيامة.
2 ـ الملل والنحل للشهرستاني.


(326)
كنيسة « أياصوفيا » ).
    وادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببية كانت بينهم وبين قياصرة الروم ، وكانت الروس تنصرت في القرن العاشر الميلادي فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما ، وكان ذلك سنة 1454 الميلادية.
    وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتى قتل « تزار نيكولا » وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة 1918 الميلادية بيد الشيوعيين فعادت كنيسة روما تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.
    لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حيوة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصاً من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة.
    فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم ، ويقرره اتفاق علمائهم وقسيسهم وهؤلاء هم الأورثوذكس.
    وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي لكنيسة روما ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.
    فأنشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق : الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة روما وتعليمها ؛ والاورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها ؛ وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى مسكو بروسيا ( كما تقدم ) والبروتستانت ؛ وهي الخارجة عن تبعية الكنيسة وتعليمها جميعاً ، وقد استقلت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلادي.
    هذا إجمال ما جرى عليه امر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرناً ، والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم :
    أولاً : أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم والمعاني التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج


(327)
أو الإلف والعادة من عقائد الوثنية والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.
     وثانياً : أن اقتدار الكنيسة وخاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا (1).
    يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد ان يغفرها له (2).
    ورفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة (3).
    وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلا أن يروا دين الإسلام دين الوثنية ؛ يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار التي نظموها في استنهاض النصارى وتهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.
    فإنهم كانوا (4) يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام وأن لهم آلهة ثلاثة أسمائها على الترتيب « ماهوم » ويسمى بافوميد وماهومند وهو أول الآلهة ، وهو « محمد » وبعده « ايلين » وهو الثاني ، وبعده « ترفاجان » وهو الثالث ؛ وربما يظهر من بعض كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين ، وهما « مارتوان » و « جوبين » ولكنهما بعد الثلاثة المتقدمة رتبة ، وكانوا يقولون : إن محمداً بنى دعوته على دعوى الالوهية ، وربما قالوا : إنه كان اتخذ لنفسه صنماً من ذهب.
    وفي أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الافرنج على المسلمين : « قوموا وقلبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرباً من إلهكم ».
    وفي أشعار رولان في وصف « ماهوم » إله المسلمين : « إنه مصنوع تاماً من الذهب والفضة ، ولو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم
1 ـ الفتوحات الإسلامية.
2 ـ المدرك السابق.
3 ـ المدرك السابق.
4 ـ هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب ( هنري دوكاستري ) في الديانة الإسلامية الفصل الأول منه.


(328)
يصنعه ، عظيمة جثته ، جيدة صنعته ، وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ، ماهوم مصنوع من الذهب والفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر ، وقد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها ، بطنه خال ، وربما أحس الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصعة بالأحجار الثمينة المتلألئة ، يرى باطنه من ظاهره ، ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.
    ولما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة ، وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم ، بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الذي كان بمكة ( يعني محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، يروي بعض من شاهد الواقعة : أن الإله ( يعني محمداً ) جائهم وقد أحاط به جم غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضة ويتغنون ويرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح ، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه ، فلما رآه قام على ساقه ، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.
    ويذكر « ريشار » أيضاًً في وصف وحي الإله ياهوم الذي سمعت وصفه فيقول : « إن السحرة سخروا واحداً من الجن وجعلوه في بطن ذلك الصنم ، وكان ذلك الجني يرعد ويعربد أولاً ثم يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له ».
    وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو المتعرضة لشؤونها وإن كان ربما أبهتت القاري وأدهشته تعجباً وحيرة ، وكاد أن لا يصدق صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.
    وثالثاً : أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم ، فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي دبيبها أولأ بالغلو في حق المسيح ( عليه السّلام ) ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث الأب والإبن والروح ، والقول بالصلب والفداء ، واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.
    وكان ذلك أولا في صورة الدين وكان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلوة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتى ظهرت البروتستانت ، وقامت القوانين الرسمية مقام الهرج والمرج في السياسات مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون ( الأحكام العملية المضمونة الإجراء ) فلم يزل


(329)
التعليم الديني يضعف أثراً ويخيب سعياً حتى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة.
    وظهرت الشيوعية والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والأخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينية فانهدمت الإنسانية المعنوية ، وورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية وبهيمية ، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.
    وأما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيراً فليست إلا ملاعب سياسية يلعب بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم وأمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق كل باب وتدب كل جحر وثقب.
    ذكر الدكتور « جوزف شيتلر » استاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو : « أن النهضة الدينية الجديدة في أمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحيوة في المدنية الحديثة ، وتثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين.
    وإن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من نتايج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها (1).
    وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بامريكا أن التعليمات الدينية بامريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية دينية لكان من الواجب أن تتكئ على تعليمات عميقة واقعية (2).
    فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل بدأت الدعوة باسم إحياء الدين ( العقيدة ) والأخلاق ( الملكات الحسنة ) والشريعة ( الأعمال ) واختتمت بالغاء الجميع ووضع التمتع الحيواني موضعها.
    وليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس ،
1 ـ المجلة الأمريكية « لايف » الجزء المؤرخ 6 فوريه 1956.
2 ـ كسابقه.


(330)
بولس الحواري وأعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد الإنسانية بالفناء « مدنية بولسية » كان أحق بالتصديق من قولهم : إن المسيح هو قائد الحضارة والمدنية الحاضرة وحامل لوائها.
( بحث روائي )
    في تفسير القمي : في قوله تعالى : « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب » الآية : إن عيسى لم يقل للناس : « إني خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله » ، ولكن قال لهم كونوا ربانيين أي علماء.
    أقول : وقد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن وقوله لم يقل للناس إني خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.
    وفيه أيضاً : في قوله تعالى : « ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً » الآية ، قال : كان قوم يعبدون الملائكة ، وقوم من النصارى زعموا أن عيسى رب ، واليهود قالوا : عزير ابن الله فقال الله : « ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ».
    أقول : وقد تقدم بيانه.
    وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد ؟
    فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله من قولهما : « ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب » ـ إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون.
    وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، قال : بلغني أن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ولكن أكرموا
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس