الغدير ـ الجزء العاشر ::: 171 ـ 180
(171)
    وفي كتاب لزياد بن أبيه مجيبا معاوية عن تعييره إياه بأمه سمية : وأما تعييرك لي بسمية فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة. شرح ابن أبي الحديد 4 : 68.
    68 ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه من طريق عبد الملك بن عمير قال : قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال : من أنت ؟ قال : جارية بن قدامة.
    قال : وما عسيت أن تكون هل أنت إلا نحلة ؟ قال : لا تقل فقد شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق ، والله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب ، وما أمية إلا تصغير أمة.
    وأخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية ، فقال له معاوية : أنت الساعي مع علي بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم.
    قال جارية : يا معاوية ! دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه.
    قال ويحك يا جارية ! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية ؟ قال : أنت يا معاوية ! كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية. إلخ وذكره بطوله وما قبله السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 133.
    وفي لفظ ابن عبد ربه : قال معاوية لجارية : ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية ؟ قال : ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية وهي الأنثى من الكلاب ؟ قال : لا أم لك.
    قال : أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا ، قال : إنك لتهددني ؟ ـ قال : أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا إنك لم تفتتحنا قسرا ، ولم تملكنا عنوة ، ولكنك أعطيتنا عهدا وميثاقا ، وأعطيناك سمعا وطاعة ، فإن وفيت لنا وفينا لك ، وإن فزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وألسنة حدادا.
    قال له معاوية : لا كثر الله في الناس أمثالك. قال جارية : قل معروفا وراعنا فإن شر الدعاء المحتطب.
    العقد الفريد 2 : 143 في مجاوبة الأمراء والرد عليهم ، وذكره الأبشيهي قريبا من هذا اللفظ في المستطرف 1 : 73 وما ذكرناه بين الخطين من لفظه.
    69 ـ دخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميما فقال له معاوية : إنك لدميم والجميل خير من الدميم ، وإنك لشريك وما لله من شريك ، وإن أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ، فكيف سدت قومك ؟ فقال له : إنك معاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت الكلاب ، وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنك


(172)
لابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت ، فكيف صرت أمير المؤمنين ؟ ثم خرج وهو يقول :
أيشتمني معاوية بن حرب وحـولي من ذوئ يزن ليوث يعير بالدمامة من سفاه وسيفي صارم ومعي لساني ضراغمة تهش إلى الطعان وربات الجمال من الغواني
المستطرف 1 : 72
    قال الأميني : إن معاوية لما كان تتوجه إليه تلكم القوارص من ناحية اسمه ، ولعله كان لا ينسى معناه عند توجيه الخطاب إليه بذلك ، ولم يك له بد منه إذ سمته به هند وما كان يسعه إن يخطأها ، فبذل ألف ألف درهم لعبد الله بن جعفر الطيار أن يسمي أحد أولاده ( معاوية ) (1) زعما منه بتخفيف الوطئة إن كان له سمي في البيت الهاشمي.
    لكن خفي على المغفل أن فناء آل هاشم لا يقصر عن فناء أصحاب الكهف فإن كلبهم ما دنس ساحتهم ، فإني تدنس الأسماء تلك الأفنية المقدسة التي منها بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
    70 ـ ومن خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام : والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كل غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
    ولابن أبي الحديد في شرحه 2 : 572 ـ 589 كلمة ضافية في شرح هذه الخطبة فيها فوائد جمة من جهات شتى ، ومنها كلمة الجاحظ أبي عثمان حول معاوية ، وقول أبي جعفر النقيب : إن معاوية من أهل النار لا لمخافته عليا ولا بمحاربته إياه ، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ولا إيمانه حقا ، وكان من رؤوس المنافقين هو وأبوه ، ولم يسلم قلبه قط ، وإنما أسلم لسانه ، وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا.. إلخ.
    71 ـ لما قتل العباس بن ربيعة يوم صفين عرار بن أدهم من أصحاب معاوية تأسف معاوية على عرار وقال : متى ينطف فحل بمثله ؟ أيطل دمه ؟ لاها الله ذا. ألا
1 ـ تاج العروس 10 : 260.

(173)
لله رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار ؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال : إذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز فقال : إن لي سيدا أريد أن اؤامره فأتى عليا فأخبره الخبر فقال علي : والله لود معاوية إنه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في نيطه (1) إطفاء لنور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. الحديث عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 180.
    72 ـ لما سلم الحسن الأمر إلى معاوية قال الخوارج : قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه.
    فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلوا بالنخيلة عند الكوفة وكان الحسن بن علي قد سار يريد المدينة ، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة فلحقه رسوله بالقادسية أو قريبا منها فلم يرجع وكتب إلى معاوية : لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها. الكامل لابن الأثير 3 : 177.
    73 ـ قال الأسود بن يزيد : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخلافة ؟ فقالت : وما تعجب من ذلك ؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة ، وكذلك غيره من الكفار. تاريخ ابن كثير 8 ص 131 قال : أخرجه أبو داود الطيالسي وابن عساكر (2).
    تشبيه أم المؤمنين معاوية بفرعون وغيره من الكفار في ملكه يعرب عن جلية حال ذلك الملك العضوض ومالك أزمته ، وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود واتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ، بئس الرفد المرفود.
    74 ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه 6 : 425 من طريق الشعبي قال : خطب الناس معاوية فقال : لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم كانوا أكياسا.
    فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال له : قد ولد الناس كلهم من هو خير من أبي سفيان : آدم عليه السلام فمنهم الأحمق والكيس ، فقال معاوية : إن أرضنا قريبة من المحشر. فقال له : إن المحشر لا يبعد على
1 ـ النيط : الوسط بين الأمرين.
2 ـ ترى ابن كثير حكى هذا الحديث عن أبي داود الطياسي وابن عساكر ، وقد حرفته يد الطبع عن مسند الأول وتاريخ الثاني لما فيه من طعن أم المؤمنين على معاوية.


(174)
مؤمن ولا يقرب من كافر. فقال معاوية : إن أرضنا أرض مقدسة. فقال له صعصعة : إن الأرض لا يقدسها شيء ولا ينجسها ، إنما تقدسها الأعمال. فقال معاوية : عباد الله اتخذوا الله وليا واتخذوا خلفاءه جنة تحترزوا بها. فقال صعصعة : كيف وكيف ؟ وقد عطلت السنة ، وأخفرت الذمة ، فصارت عشواء مطلخمة ، في دهياء مدلهمة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكنت منها الأنكاث. فقال له معاوية : يا صعصعة ! لإن تقعى على ظلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي علي ، ولقد هممت أن أبعث إليه.
    فقال له صعصعة : أي والله وجدتهم أكرمهم جدودا ، وأحياكم حدودا ، و أوفاكم عهودا ، ولو بعثت إليه فلوجدته في الرأي أريبا ، وفي الأمر صليبا ، وفي الكرم نجيبا ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره.
    فقال له معاوية : والله لأجفينك عن الوساد ، ولأشردن بك في البلاد ، فقال له صعصعة : والله إن في الأرض لسعة ، وإن في فراقك لدعة ، فقال معاوية : والله لأحبسنك عطاءك.
    قال : إن كان ذلك بيدك فافعل ، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفد خزائنه ، ولا يبيد عطاءه ، ولا يحيف في قضيته. فقال له معاوية : لقد استقتلت.
    فقال له صعصعة : مهلا ، لم أقل جهلا ، ولم أستحل قتلا ، لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما كان الله لقاتله مقيما ، يرهقه اليما ، ويجرعه حميما ، ويصليه جحيما.
    75 ـ لما ولي معاوية بن يزيد بن معاوية صعد المنبر فقال : إن هذه الخلافة حبل الله وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منه ، علي بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منيته فصار في قبره رهينا بذنوبه ، ثم قلد أبي الأمر ، وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصف عمره ، وانبتر عقبه ، وصار في قبره رهينا بذنوبه ثم بكى.
    الصواعق لابن حجر ص 134.
    76 ـ قال الحارث بن مسمار البهراني : حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي مع رجال من قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال : نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا أي الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكواء : لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار عنيد لا تراقب الله في قتل الأخيار و لكنا نقول : إنك ما علمنا واسع الدنيا ، ضيق الآخرة ، قريب الثرى ، بعيد المرعى ،


(175)
تجعل الظلمات نورا ، والنور ظلمات. فقال معاوية : إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله والمحلين ما حرم الله والمحرمين ما أحل الله.
    فقال عبد الله بن الكواء ، يا ابن أبي سفيان إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك ، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذبينا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم ، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه. قال : والله لا يطلق لك لسان.
    ثم تكلم صعصعة فقال : تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت و ليس الأمر على ما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، ودانهم كبرا ، و استولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا ؟ أما والله مالك في يوم البدر مضرب ولا مرمى ، و ما كنت فيه إلا كما قال القائل ( لا حلى ولا سيرى ) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله صلى الله وعليه وسلم فأنى تصلح الخلافة لطليق ؟ فقال معاوية لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :
قابلت جهلهم حلما ومغفرة والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
    لقتلتكم. ( مروج الذهب 2 : 78 ).
    77 ـ عن أبي مزروع الكلبي قال : دخل صعصعة بن صوحان على معاوية فقال له يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن أهل الحجاز.
    قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم عنها ، وأقلهم عناء فيها ، غير أن لهم ثباتا في الدين وتمسكا بعروة اليقين ، يتبعون الأئمة الأبرار ، ويخلعون الفسقة الفجار.
    فقال معاوية : من البررة والفسقة ؟ فقال : يا ابن أبي سفيان ! ترك الخداع من كشف القناع ، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار ، وأنت وأصحابك من أولئك. إلى أن قال معاوية : أخبرني عن أهل الشام.
    قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبار ، وحلفة الأشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار.
    فقال معاوية : والله يا ابن صوحان ! إنك لحامل مديتك منذ أزمان إلا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك فقال صعصعة : بل أمر الله وقدرته ، إن أمر الله كان قدرا مقدورا (1).
1 ـ مروج الذهب 2 : 78 ، 79.

(176)
    78 ـ عن إبراهيم بن عقيل البصري قال : قال معاوية يوما وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي فقال صعصعة :
تمنيك نفسك ما لا يكو ن جهلا معاوي لا تأثم
    فقال معاوية : يا صعصعة ! تعلمت الكلام. قال ، العلم بالتعلم ، ومن لا يعلم يجهل قال معاوية : ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك.
    قال ، ليس ذلك بيدك ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، قال ، ومن يحول بيني وبينك ؟ قال : الذي يحول بين المرء وقلبه. قال معاوية : اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير. قال : اتسع بطن من لا يشبع ودعا عليه من لا يجمع (1).
    79 ـ سئل صعصعة بن صوحان عن معاوية قال : صانع الدنيا فاقتلدها ، وضيع الآخرة فنبذها ، وكان صاحب من أطعمه وأخافه. تاريخ ابن عساكر 6 : 424.
    80 ـ أخرج أبو الفرج الاصبهاني في الأغاني 3 : 18 قال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال : حدثنا عمر بن شبة قال : حدثني أحمد بن معاوية عن الهيثم بن عدي قال : حج معاوية حجتين في خلافته وكانت له ثلاثون بغلة يحج عليها نساؤه وجواريه قال : فحج في إحداهما فرأى شخصا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان فقال : من هذا ؟ قالوا : شعبة بن غريض (2) وكان من اليهود فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله فقال : أجب أمير المؤمنين.
    قال : أو ليس قد مات أمير المؤمنين قبل ؟ قال : فأجب معاوية فأتاه فلم يسلم عليه بالخلافة فقال له معاوية : ما فعلت أرضك التي بتيماء ؟ (3) قال : يكسى منها العاري ويرد فضلها على الجار قال : أفتبيعها ؟ قال : نعم.
    قال : بكم ؟ قال : بستين ألف دينار ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها. قال : لقد أغليت.
    قال : أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبل.
    قال : أجل : وإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه فقال : قال أبي :
1 ـ مروج الذهب 2 : 79 ، جمهرة الخطب 1 : 257.
2 ـ كذا في الأغاني والصحيح كما ضبطه ابن حجر في الإصابة : سعنه. بالمهلة والنون. و يقال بالمثناة التحتانية وعريض بالمهملة أيضا.
3 ـ تيما : محل بين الحجاز والشام.


(177)
يا ليت شعري حين أندب هالكا أيقلن لا تعبد فرب كريهة ولقد ضربت بفضل مالي حقه ولقد أخذت الحق غير مخاصم وإذا دعيت لصعبة سهلتها ماذا تؤبنني به أنواحي ؟ فرجتها ببشارة وسماح عند الشتاء وهبة الأرواح ولقد رددت الحق غير ملاح ادعى بأفلح مرة ونجاح
    فقال : أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك قال : كذبت ولؤمت. قال أما كذبت فنعم ، وأما لؤمت فلم ؟ قال : لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الاسلام ، أما في الجاهلية فقاتلت النبي صلى الله عليه وسلم والوحي جعل الله كيدك المردود ، وأما في الاسلام فمنعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة ، وما أنت وهي وأنت طليق ابن طليق ؟ فقال معاوية : قد خرف الشيخ فأقيموه فأخذ بيده فأقيم.
    وذكره ملخصا ابن حجر في الإصابة 2 : 43 من طريق آخر عن عبد الله بن الزبير وزاد : فقال : ما خرفت ولكن أنشدك الله يا معاوية ! أما تذكر لما كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء علي فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاتل الله من يقاتلك ، وعادى من يعاديك.
    فقطع عليه معاوية حديثه وأخذ معه في حديث آخر.


(178)
معاوية في ميزان القضاء
    لعمر الحق إن واحدة من هذه الشهادات كافية في تحطيم قدر الرجل والاسفاف بمستواه إلى الحضيض الأسفل ، فكيف بجميعها ؟ فإنها صدرت من سادات الصحابة وأعيانهم العدول جميعهم عند القوم فضلا عن هؤلاء الذين لا يشك في ورعهم وقداسة ساحتهم عن السقطة في القول والعمل ، ولا سيما وفيهم الإمام المعصوم الخليفة حقا المطهر بلسان الذكر الحكيم عن أي رجاسة ، الذي يدور الحق معه حيثما دار ، وهو مع القرآن والقرآن معه لن يفترقا حتى يردا الحوض (1) وقبل الجميع ما رويناه عن النبي الأقدس صلى الله عليه وآله في حق هذا الانسان.
    فالرجل أخذا بمجامع تلكم الشهادات الصادقة للسلف الصالح محكوم عليه نص أقوالهم من دون أي تحريف وتحوير منا بأنه امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتبعه ، وما أتى به من ضلاله ليس ببعيد الشبه ما أتى به أهله المشركون الكفرة ، مصيره إلى اللظى ، مبوأه النار ، اللعين ابن اللعين ، الفاجر ابن الفاجر ، المنافق ابن المنافق ، الطليق ابن الطليق ، الوثن ابن الوثن ، الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل ، يخبط في عماية ، ويتيه في ضلالة ، شديد اللزوم للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتبعة ، لم يكن من أهل القرآن ولا مريدا حكمه يجري إلى غاية خسر ، ومحلة كفر ، قد أولجته نفسه شرا ، وأقحمته غيا ، وأوردته المهالك وأوعرت عليه المسالك ، غمص الناس ، وسفه الحق ، فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، ابن آكلة الأكباد ، الكذاب العسوف ، إمام الردى ، وعدو النبي ، لم يزل عدوا لله والسنة والقرآن والمسلمين ، رجل البدع والأحداث كانت بوائقه تتقى ، وكان على الاسلام مخوفا ، الغادر الفاسق ، مثله كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، القاسط النابذ كتاب الله وراء ظهره ، كان شر الأطفال
1 ـ راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا.

(179)
وشر رجال ، كهف المنافقين ، دخل في الاسلام كرها ، وخرج منه طوعا ، لم يقدم إيمانه ولم يحدث نفاقه ، كان حربا لله ولرسوله ، حزبا من أحزاب المشركين ، عدوا لله ولنبيه وللمؤمنين ، أقول الناس للزور ، وأضلهم سبيلا ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، الغاوي اللعين ، ليس له فضل في الدين معروف ، ولا أثر في الاسلام محمود ، عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلما أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله أتاه فأسلم وهو والله راهب غير راغب ، قبض رسول الله والرجل يعرف بعداوة المسلم ومودة المجرم ، يطفي نور الله ، ويظاهر أعداء الله ، أغوى جفاة فأوردهم النار وأورثهم العار ، لم يكن في إسلامه بأبر وأتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في أيام شركه وعبادته الأصنام.
    هذا معاوية عند رجال الدين الصحيح الأبرار الصادقين ، وهذه صحيفة من تاريخه السوداء ، وتؤكد هذه الكلم القيمة ما يؤثر عن الرجل من بوائق وموبقات هي بمفردها حجج دامغة على سقوطه عن مبوأ الصالحين ، فإنها لا تتأتى إلا عن تهاون بأمر الله ونهيه ، وإغضاء عن نواميس الدين وشرايع الاسلام ، وتزحزح عن سنة الله ، وتعد وشذوذ عن حدوده ، ومن يعتد حدود الله فأولئك هم الظالمون ، وإليك نزر منها :

ـ 1 ـ
معاوية والخمر
    1 ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده 5 : 347 من طريق عبد الله بن بريدة قال : دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي ثم قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال معاوية : كنت أجمل شباب قريش ، وأجودهم ثغرا ، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني.
    2 ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه 7 : 211 من طريق عمير بن رفاعة قال : مر على عبادة (1) بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر فقال : ما هذه ؟ أزيت ؟ قيل
1 ـ كان بدريا عقبيا أحد نقباء الأنصار بايع رسول الله على أن لا يخاف في الله لومة لائم. سنن البيهقي 5 : 277.

(180)
لا ، بل : خمر تباع لفلان ، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلا بقرها وأبو هريرة إذ ذاك بالشام ، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له : أما تمسك عنا أخاك عبادة ؟ أما بالغدوات فيغدوا إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم ، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا أو عيبنا ، فأمسك عنا أخاك ، فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال له : يا عبادة ! مالك ولمعاوية ؟ ذره وما حمل ، فإن الله يقول : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.
    قال : يا أبا هريرة ؟ لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا ولنا الجنة ، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الله له بما بايع عليه نبيه. فلم يكلمه أبو هريرة بشيء.
    3 ـ وأخرج في التاريخ 7 ص 213 من طريق عمرو بن قيس قال : إن عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس (1) فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس بوجهه وهو يقول : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أبالي في الله لومة لائم ، ألا إن المقداد بن الأسود قد غل بالأمس حمارا ، وأقبلت أوسق من مال ، فأشارت الناس إليها فقال : أيها الناس إنها تحمل الخمر ، والله ما يحل لصاحب هذه الحجرة أن يعطيكم منها شيئا ، ولا يحل لكم أن تسألوه ، وإن كانت مقبلة ـ يعني سهما ـ في جنب أحدكم ، فأتى رجل المقداد وفي يده قرصافة ، فجعل يتل الحمار بها وهو يقول : معاوية ! هذا حمارك شأنك به ، حتى أورده الحجرة.
    4 ـ وفد عبد الله (2) بن الحارث بن أمية بن عبد شمس على معاوية فقر به حتى مست ركبتاه رأسه ثم قال له معاوية : ما بقي منك ؟ قال : ذهب والله خيري وشري ،
1 ـ بلدة من سواحل بحر الشام ، هي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأول أعمال حمص. معجم.
2 ـ أدرك الاسلام وهو شيخ كبير ثم عاش بعد ذلك إلى خلافة معاوية. الإصابة 2 : 291.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس