الغدير ـ الجزء العاشر ::: 381 ـ 385
(381)
    أما ما قبل الآخرين فإن الرجل كان يأثم بغير حساب ، ويقتل بغير حساب ، ويكذب بغير حساب ، ويحيف بغير حساب ، ويجهل من معالم الدين بغير حساب ، وإن أخطاءه في الاجتهاد ( المزعوم ) بغير حساب ، ويعطي ويمنع من غير حجة بغير حساب ، فياله من دعاء لم يقرن بالإجابة في مورد من الموارد ؟.
    وأما قواعد علم الحساب ويلحق بها فروض المواريث ، فماذا الذي نجم منها بين معلومات معاوية وفتاواه ؟ غير جهل شائن مستوعب لكل ما ناء به من كل فرض وندب ، ولم تعهد له دراسة لهذه العلوم والقواعد حتى تتحقق بها إجابة الدعوة بتوفيق إلهي.
    وأما جملة ( وقه العذاب ) فإن صحت الرواية فإنها تشبه أن تكون ترخيصا في المعصية لرجل مثل معاوية يلغ في المآثم ، ويتورط بالموبقات ، ويرتطم في المهالك ، فليس فيما سبرناه وأحصيناه من أفعاله وتروكه إلا جنايات للعامة ، وميول وشهوات في الخاصة ، وحيف وميل في الحقوق ، وبسط وقبض ، وإقصاء وتقريب من غير حق ، فلا يكاد يخلو ما ناء به من مآثم أوعد الله تعالى فاعله بالنار ، أو محظور في الشريعة يمقت صاحبها ، أو عمل بغيض يمجه الحق ، ويزور عنه الصواب ، أو بدع محدثة في منتأى عن رضا الرب وتشريع الرسول صلى الله عليه وآله فإن كان يوقى مثل هذا الانسان عن العذاب المجرئ له على الهلكات ؟ فأين مصب التوعيدات المعدة لمن عصى الله ورسوله ؟ إن الله لا يخلف الميعاد ، أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
    فالخضوع لمثل هذه الرواية على طرف النقيض من مسلمات الشريعة بتحريم ما كان يستبيحه معاوية ، ولذلك كان يراه مولانا أمير المؤمنين ووجوه الصحابة الأولين من أهل النار (1) مع أن هذا الموضوع المفتعل كان بطبع الحال بمرأى منهم ومسمع ، إلا أن يكون تاريخ إيلاده بعد صدور تلكم الكلم القيمة.
    ولو كان مثل معاوية يدرء عنه العذاب ، ويدعى له بالسلامة منه ، وحاله ما علمت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعلم بها منك ومن كل أحد ، وعنده من حقوق الناس
1 ـ راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء.

(382)
ما لا يحصى مما لا تدركه شفاعة أي معصوم من دم مسفوك ، ومن مال منهوب ، ومن عرض مهتوك ، ومن حرمة مضاعة ، فما حال من ساواه في الخلاعة ، أو من هو دونه في النفاق والضلال ؟ وأي قيمة تبقى سالمة لتوعيدات الشريعة عندئذ ؟ لاها الله ، هذه أمنية حالم قط لا تتحقق ، إلا أن تكون تلك المحاباة تشريفا لابن أبي سفيان بخرق النواميس الإلهية ، والخروج عن حكم الكتاب والسنة ، تكريما لراية هند ومكانة حمامة ، إذن فعلى الاسلام السلام.
    أفمن الحق لمن له أقل إلمامة بالعلم والحديث أن يركن إلى أمثال هذه التافهاف ، ولا يقتنع بذلك حتى يحتج بها لإمامة الرجل عن حق ، وصدق خلافته ؟ كما فعله ابن حجر في الصواعق ، وفي هامشه تطهير الجنان ص 32 ، وكأنه غض الطرف عن كل ما جاء في حق الرجل من حديث وسيرة وتاريخ ، وأغضى عن كل ما انتهى إليه من الأصول المسلمة في الاسلام ، وحرمات الدين.
    نعم : الحب يعمي ويصم.
الرواية الثالثة :
    إذا ملكت فأحسن
    فهي وما في معناها من رواية : إن وليت فاتق الله واعدل (1) ورواية : أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم ، واعف عن مسيئهم.
    تنتهي طرقها جميعا إلى نفس معاوية ، ولم يشترك في روايتها أحد غيره من الصحابة ، فالاستناد إليه في إثبات أي فضيلة له من قبيل استشهاد الثعلب بذنبه ، على أن الرجل غير مقبول الرواية ولا مرضيها فإنه فاسق فاجر منافق كذاب مهتوك ستره بشهادة ممن عاشره وباشره ، وسبر غوره ودرس كتاب نفسه ، وفيهم مثل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآخرون من الصحابة العدول ، وقد تقدم نص كلماتهم في هذا الجزء ص 148 ـ 177 وتكفي في الجرح واحدة من تلكم الشهادات المحفوظة أهلها بالتورع عن كل سقطة في القول أو العمل ، فكيف بها جمعاء ؟ وتؤيد هاتيك الشهادات بما اقترفه الرجل من الذنوب ، وكسبته يده الأثيمة من جرائر وجرائم ، ولفقها في سبيل شهواته من شهادات مزورة ، وكتب افتعلها على أناس من الصحابة ، ونسب مكذوبة كان يريد بها تشويه سمعة الإمام صلوات الله عليه ـ وأنى له
1 ـ مر الكلام حول هذه الرواية في ص 362 من هذا الجزء.

(383)
بذلك ؟ ـ إلى آخر ما أوقفناك على تفاصيله.
    وإن أخذناه بما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1 : 509 عن يحيى بن معين من قوله : كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
    إلى كلمات أخرى مرت ص 267 من هذا الجزء ، فمعاوية في الرعيل الأول من الدجالين الذين لا يكتب عنهم ، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إذ هو الذي فعل ذلك المحظور بمثل مولانا أمير المؤمنين وشبليه الإمامين ، وحبر الأمة عبد الله بن العباس ، وقيس بن سعد وهؤلاء كلهم أعيان ـ الصحابة ووجهائهم ، لا يعدوهم أي فضل سبق لأحدهم ، ولا ينتأون عن أي مكرمة لحقت بواحد منهم ، وكان معاوية قد استباح شتمهم ، والوقيعة فيهم وفي كل صحابي احتذى مثالهم في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يقنعه ذلك حتى قنت بلعنهم في صلواته ، ورفع عقيرته به على صهوات المنابر ، وأمر بذلك حتى عمت البلية البلاد والعباد ، واتخذوها بدعة مخزية إلى أن لفظ نفسه الأخير ، واحتقبها من بعده خزاية موبقة ما دامت لآل حرب دولة ، واكتسحت معرتهم من أديم الأرض.
    أفمثل هذا السباب الفاحش المتفحش تجوز الرواية عنه ، ويخضع لما يرويه في دين أو دنيا ؟! على أن في إسناد رواية ( إن ملكت فأحسن ) عبد الملك بن عمر ، وقد جاء عن أحمد : إنه مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته ما أرى له خمسمائة حديث وقد غلط في كثير منها.
    وقال ابن منصور : ضعفه أحمد جدا.
    وعن ابن معين : مخلط.
    وقال العجلي : تغير حفظه قبل موته.
    وقال ابن حبان : مدلس (1) وفيه : إسماعيل بن إبراهيم المهاجر ، ضعفه ابن معين والنسائي وابن الجارود ، وقال أبو داود : ضعيف ضعيف أنا لا اكتب حديثه.
    وقال أبو حاتم : ليس بقوي.
    وقال ابن حبان : كان فاحش الخطاء.
    وقال الساجي : فيه نظر (2) فلمكان الرجلين نص الحافظ البيهقي على ضعفها ، وأقره الخفاجي في شرح الشفا 3 : 161 ، وعلي القاري في شرحه هامش شرح الخفاجي 3 : 161.
1 ـ تهذيب التهذيب 6 : 412.
2 ـ تهذيب التهذيب 1 : 279.


(384)
    وأما مؤدى هذه الروايات الثلاث فكبقية أخبار الملاحم ، لا يستنتج منها مدح لصاحبها أو قدح ، إلا إذا قايسناها بأعمال معاوية المبائنة لها في الخارج ، المضادة لما جاء فيها من العهد والوصية ، فلم يكن ممن ملك فأحسن ، ولا ممن ولي فاتقى وعدل ، ولا ممن قبل من محسن ، وعفى عن مسئ ، فماذا عسى أن يجديه مثل هذه البشائر ـ وليست هي ببشائر بل إقامة حجة عليه وهو غير متصف بما أمر به فيها ؟ وكل ما ناء به في منتئ عن الاحسان والعدل والتقوى ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنه لا يعمل بشيء من ذلك لكنه أراد إتمام الحجة عليه على كونها تامة عليه بعمومات الشريعة وإطلاقاتها ، فأين هي من ـ التبشير بأن ما يليه من الملك العضوض ملوكية صالحة ، فضلا عن الخلافة عن الله ورسوله صلى الله عليه وآله ؟ وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله في ذلك الملك قوله : إن فيه هنات وهنات وهنات (1) وقوله صلى الله عليه وآله : يا معاوية ! إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم (2) إلى كلمات أخرى فيه وفي ملكه.
    ولو كان ابن حجر ممن يعرف لحن الكلام ومعاريض المحاورات ، ولم يكن في أذنه وقر ، وفي بصره عمى ؟ لعلم أن الروايات المذكورة بأن تكون ذموما لمعاوية أولى من أن تكون مدائح له لما قلناه ، وإلا لما أمر صلى الله عليه وآله بقتله إذا رأي على منبره ، ولما أعلم الناس بأنه وطغمته هم الفئة الباغية المتولية قتل عمار ، ولما رآه وحزبه من القاسطين الذين يجب قتالهم ، ولما أمر خليفته حقا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقتاله ، ولما حث صحابته العدول بمناضلته ومكاشفته ، ولما ولما...
    ولو كانت هذه الروايات صادقة ، وكانت بشائر ، وقد عرفتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك ، فلما ذا كان ذلك اللوم والتأنيب له من وجوه الصحابة ؟ لما منته هواجسه بتسنم عرش الخلافة ، والاقعاء على صدر دستها ، وليس ذلك إلا من ناحية إدعائه ما ليس له ، وطمعه فيما لم يكن له بحق ، ونزاعه في أمر ليس للطلقاء فيه نصيب.
    هذه عمدة ما جاء به ابن حجر في الدفاع عن معاوية ، وأما بقية كلامه المشوه بالسباب المقذع فنمر بها كراما ، إقرأ واحكم.
1 ـ الخصائص الكبرى 2 : 116.
2 ـ سنن أبي داود 2 : 299.


(385)
ها هنا قصرنا عن القول
وأمسكناه عن الافاضة بانتهاء الجزء العاشر
وأرجأنا بقية البحث عن موبقات معاوية إلى الجزء الحادي
عشر ، وسيوافيك في المستقبل العاجل
إن شاء الله تعالى
والحمد لله أولا وآخرا وله الشكر
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس