الغدير ـ الجزء العاشر ::: 371 ـ 380
(371)
كرم الله وجهه قال يوم صفين : لو ذكرت هذا الحديث أو بلغني لما حاربته.
    ولا يبعد نحو هذا ممن سل سيفه على علي والحسن والحسين وذريتهما ، والراضي كالفاعل كما صرحت به السنة النبوية ، إنما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الإجماع من جماعة المتسمين بالسنة بأن معاوية هو الباغي ، وأن الحق مع علي ، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر علي بعد ما ذكر ، وكذلك الحسن السبط رضي الله عنهما ، وترى هؤلاء الذين ينقمون على علي قتاله البغاة يحسنون لمن سن لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالأربعة الراشدين رضي الله عنه وعنهم ، مع أن سب علي فوق المنابر وجعله سنة تصغر عنده العظائم.
    وفي جامع المسانيد في مسند أم سلمة رضي الله عنها : أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ؟ قلت : معاذ الله. قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سب عليا فقد سبني. الكلام.
    ولعلك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرة هذا المجتهد الجاهل الضال تأخذ لك مقياسا لمبلغ علمه ، وقسطه المتضاءل من الاجتهاد في أحكام الله ، وإنه منكفى عنه ، فارغ الوطاب ، صفر الأكف عن أي علم ناجع ، أو عمل نافع ، بعيدا عن فهم الكتاب ، والتفقه في السنة ، والالمام بأدلة الاجتهاد.
    نعم : لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته ، وإنما له أضراب ونظراء سبقوه أم لحقوه في الرأي الشائن ، والاجتهاد المائن ، ممن صحح القوم بدعهم المحدثة ، وآرائهم الشاذة عن الكتاب والسنة بالاجتهاد ، تترسوا في طاماتهم بأنهم مجتهدون (1) ولعلك تعرف مكانة هذا المجتهد ( خليفة الحق وإمام الصدق ) من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله إياه وأباه وأخاه.
    ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه ، ومن دعاء أم المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.
    ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وولده السبط الزكي أبي محمد سلام الله عليه ، والعبد الصالح محمد بن أبي بكر ، إلى لعن رسول الله صلى الله عليه وآله المخزي ، ومن لعن
1 ـ يوجد جمع من أولئك المجتهدين في غضون أجزاء كتابنا هذا.

(372)
ابن عباس وعمار إياه.
    ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سمع غناء وأخبر بأنه لمعاوية وعمرو بن العاصي : اللهم أركسهم في الفتنة ركسا ، اللهم دعهم إلى النار دعا.
    ومن قوله صلى الله عليه وآله وقد رآه مع ابن العاصي جالسين : إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير.
    ومن قوله صلى الله عليه وآله : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه.
    المعاضد بالصحيح الثابت من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.
    وفي صحيح : فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر.
    ومن قوله صلى الله عليه وآله : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت وهو على غير سنتي فطلع معاوية (1) ومن قول أمير المؤمنين له : طالما دعوت أنت وأولياءك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين ونبذتموه وراء ظهوركم.
    وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
    ومن قوله عليه السلام : إنك دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن ، ولا حكمه تريد.
    ومن قوله عليه السلام : إنه الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، المقارب العقل.
    ومن قوله عليه السلام : إنه فاسق مهتوك ستره.
    ومن قوله عليه السلام : إنه الكذاب إمام الردى ، وعدو النبي ، وإنه الفاجر ابن الفاجر ، وإنه منافق ابن منافق يدعو الناس إلى النار.
    إلى كلمات أخرى مفصلة في هذا الجزء.
    ومن قول أبي أيوب الأنصاري : إن معاوية كهف المنافقين.
    ومن قول قيس بن سعد الأنصاري : إنه وثن ابن وثن ، دخل في الاسلام كرها وخرج منه طوعا ، لم يقدم إيمانه ، ولم يحدث نفاقه.
    ومن قول معن السلمي الصحابي البدري له : ما ولدت قرشية من قرشي شرا منك.
1 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 247.

(373)
    ومن أقوال الإمام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل ، وسعيد بن قيس ، وعبد الله بن العباس ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وجارية بن قدامة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك بن الحارث الأشتر (1).
    هذا مجتهدنا الطليق عند أولئك الأطايب ، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأولين العارفين به على سره وعلانيته ، المطلعين على أدوار حياته طفلا ويافعا وكهلا وهما ، وأنت بالخيار في الأخذ بأي من النظريتين : ما سبق لله ولرسوله وخلفائه و أصحابه المجتهدين العدول ، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسفين الناحتين للرجل أعذارا هي أفظع من جرائمه.
    الأمر الثاني ثاني الأمرين اللذين ينتهي إليهما دفاع ابن حجر عن معاوية قوله في الصواعق ص 130 : فالحق ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وإنه بعد ذلك خليفة حق وإمام صدق ، كيف ؟ وقد أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لمعاوية اللهم اجعله هاديا مهديا.
    وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب.
    وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمر قال قال معاوية : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معاوية ! إذا ملكت فأحسن.
    فتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بأن الله يجعله هاديا مهديا ، و الحديث حسن كما علمت فهو مما يحتج به على فضل معاوية ، وأنه لا ذم يلحقه بتلك الحروب لما علمت أنها مبنية على اجتهاد ، وإنه لم يكن له إلا أجر واحد ، لأن المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه ، ولا ذم يلحقه بسبب ذلك لأنه معذور ، ولذا كتب له أجر.
    ومما يدل لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلم ذلك ، ويوقى العذاب ، ولا شك أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب ، فعلمنا منه أنه لا عقاب على معاوية فيما فعل من
1 ـ مر تفصيل هذه كلها في هذا الجزء

(374)
تلك الحروب بل له الأجر كما تقرر ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فئته المسلمين وساواهم بفئة الحسن في وصف الاسلام فدل على بقاء حرمة الاسلام للفريقين ، وإنهم لم يخرجوا بتلك الحروب عن الاسلام ، وإنهم فيه على حد سواء ، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قررناه من أن كلا منهما متأول تأويلا غير قطعي البطلان ، وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية لكنه بغي لا فسق به ، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه.
    وتأمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر معاوية بأنه يملك وأمره بالاحسان ، تجد في الحديث إشارة إلى صحة خلافته ، وإنها حق بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها ، فإن أمره بالاحسان المترتب على الملك يدل على حقية ملكه وخلافته وصحة تصرفه ونفوذ أفعاله من حيث صحة الخلافة لا من حيث التغلب ، لأن المتغلب فاسق معاتب لا يستحق أن يبشر ، ولا أن يؤمر بالاحسان فيما تغلب عليه ، بل إنما يستحق الزجر والمقت و الإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله ، فلو كان معاوية متغلبا لأشار له صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، أو صرح له به ، فلما لم يشر فضلا على أن يصرح إلا بما يدل على حقيقة ما هو عليه علمنا أنه بعد نزول الحسن له خليفة حق وإمام صدق. ه‍
( هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية )
    قال الأميني : إن الكلام يقع على هذه الروايات من شتى النواحي ألا وهي :
    1 ـ النظر إلى شخصية معاوية ، وتصفح كتاب نفسه المشحون بالمخازي ، ثم نعطف النظر في أنه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبا لأقل منقبة له يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فضلا عن هذه النسب المزعومة ؟ أو : لا ؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق مما لا يكاد أن يجامع شيئا من المديح والاطراء أو أن تعزى إليه حسنة ، ولا أحسب أنك تجد من أيام حياته يوما خاليا عن الموبقات من سفك دماء زاكية ، وإخافة مؤمنين أبرياء ، وتشريد صلحاء لم يدنسهم إثم ، ولا ألمت بساحتهم جريرة ، ومعاداة للحق الواضح ، ورفض لطاعة إمام الوقت والبغي عليه وقتاله إلى جرائم جمة يستكبرها الدين والشريعة ، ويستنكرها الكتاب والسنة ، ولا يتسرب إلى شيء منها الاجتهاد كما مر بيانه.
    2 ـ من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما روي وصح عن رسول الله


(375)
صلى الله عليه وآله وما يؤثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وعن جمع من الصحابة العدول ، فإنه مما لا يتفق معها في شيء ، وقد أسلفنا من ذلك ما يناهز الثمانين حديثا في هذا الجزء ص 139 ـ 177 فإنك متى نظرت إليها ، واستشففت حقايقها دلتك على أن رجل السوء ـ معاوية ـ جماع المآثم والجرائم ، وإنه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله ومن احتذى مثاله من خلفائه الراشدين ، وأصحابه السابقين الأولين المجتهدين حقا المصيبين في اجتهادهم.
    3 ـ أنا وجدنا نبي الرحمة صلى الله عليه وآله ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله ، والحث على مناوئته ، وتعريف من لاث به بأنهم الفئة الباغية ، وإنهم هم القاسطون ، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنين عليه السلام على أن يناضله ، ويكتسح معرته ، ويكبح جماحه ، وقد علم صلى الله عليه وآله إنه سيكون الخليفة المبايع له ، الواجب قتله ، وإنه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أي اجتهاد نظراء حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، وأصحابهما ، وكثير من البدريين ، وجمع كثير من أهل بيعة الرضوان ، رضوان الله عليهم.
    فهل من المعقول إنه صلى الله عليه وآله يرى لمعاوية والحالة هذه قسطا من الفضيلة ؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين ؟ ويوقع الأمة في التهافت بين كلماته المعزوة إليه هذه ، وبين ما صارح به وصح عنه صلى الله عليه وآله مما أو عزنا إليه.
    وزبدة المخض إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة ، ولكن القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم من طلاء مبهرج.
    4 ـ ما قاله الحفاظ من أئمة الحديث وحملة السنة من إنه لم يصح لمعاوية منقبة ، وسيوافيك بعيد هذا نص عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة.
    5 ـ النظر في إسناد ومتن ما جاء به ابن حجر ، وعلا عليه أسس تمويهه على الحقايق ، وبه طفق يرتأي معاوية خليفة حق ، وإمام صدق.
الرواية الأولى
    أما ما أخرجه الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعا ، أللهم


(376)
اجعله هاديا مهديا واهد به (1). فإن كون ابن أبي عميرة صحابيا في محل التشكيك فإنه لا يصح كما أن حديثه هذا لا يثبت ، قال أبو عمر في الاستيعاب 2 : 395 بعد ذكره بلفظ : اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به : عبد الرحمن حديثه مضطرب لا يثبت في الصحابة وهو شامي ، ومنهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه ، ولا يصح مرفوعا عندهم.
    وقال : لا يثبت أحاديثه ، ولا يصح صحبته.
    ورجال الاسناد كلهم شاميون وهم : أبو سهر الدمشقي.
    2 ـ سعيد بن عبد العزيز الدمشقي.
    3 ـ ربيعة بن يزيد الدمشقي 4 ـ ابن أبي عميرة الدمشقي.
    وتفرد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسنه ، وابن حجر حرف كلمة الترمذي حرصا على إثبات الباطل ، فما ثقتك برواية تفرد بها شامي عن شامي إلى شامي ثالث إلى رابع مثلهم أيضا ، ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنة علم بها ، ولم يك يومئذ يتحرج الشاميون من الافتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة ، على حين إن أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن ، ومن ورائهم النزعات الأموية السائقة لهم إلى الاختلاق ، لتحصيل مرضاة صاحبهم.
    فهناك مرتكم الأباطيل والروايات المائنة.
    على أن هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاري الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول : باب مناقب معاوية.
    وإنما عبر عنه بباب ذكر معاوية.
    وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينص على عدم صحة شيء من فضائل معاوية.
    ومن الحفاظ : النسائي ، والحاكم النيسابوري ، والحنظلي ، والفيروز آبادي ، وابن تيمية ، والعجلوني وغيرهم ، وقد أطبقوا جميعا على أنه لم يصح لمعاوية حديث فضيلة ، ومساغ كلماتهم يعطي نفي ما يصح الاعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث ، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها ، فإنهم يقذفون الحديث بأقل مما ذكرناه في هذا المقام ، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام ( كحسنات معاوية ) لا عزوا إليها عند نفيهم العام.
    وإن مفاد الحديث لمما يربك القارئ ويغنيه عن التكلف في النظر إلى إسناده
1 ـ هذا لفظ الحديث في جامع الترمذي 13 : 229.

(377)
فإن دعاء النبي صلى الله عليه وآله مستجاب لا محالة يقوله ابن حجر ، ونحن في نتيجة البحث والاستقراء التام لأعمال معاوية لم نجده هاديا ولا مهديا في شيء منها ، ولعل ابن حجر يصافقنا على هذه الدعوى ، وليس عنده غير أن الرجل مجتهد مخطئ في كل ما أقدم وأهجم ، فله أجر واحد في مزعمته ، ولا يلحقه ذم وتبعة لاجتهاده ، وقد أعلمناك أن عامة أخطاءه وجرائمه مما لا يتطرق إليه الاجتهاد ، على ما أسلفنا لك أنه ليس من الممكن أن يكون معاوية مجتهدا لفقدانه العلم بمبادئ الاستنباط من كتاب وسنة ، وبعده عن الإجماع والقياس الصحيح.
    أو هل ترى إن الدعاء المستجاب كهذا يقصد به هذا النوع من الاجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرجل وأفعاله ؟ حتى أنه لا يرى مصيبا في واحد منها ، وهل يحتاج تأتي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرسالة ؟ فمرحبا بمثله من اجتهاد معذر ، وهداية لا تبارح الضلال.
    ثم من الذي هداه معاوية طيلة أيامه ، وأنقذه من مخالب الهلكة ؟! أيعد منهم ابن حجر بسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين ، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية ؟! أم ضحاك بن قيس الذي أمره بالغارة على كل من في طاعة علي عليه السلام من الأعراب ، وجاء بفجايع لم يعهدها التاريخ ؟! أم زياد بن أبيه أو أمه الذي استحوذ على العراق ، فأهلك الحرث والنسل ، وذبح الأتقياء ، ودمر على الأولياء ، وركب نهابير لا تحصى ؟! أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه ، وفعل من الجنايات ما فعل ؟! أم مروان بن الحكم الطريد اللعين وابنهما الذي كان لعنه عليا أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة أعوام إحدى طاماته ؟! أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبار الطاغي الذي كان يبالغ في شتم علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبغضه إياه ؟! أم مغيرة بن شعبة أزنى ثقيف الذي كان ينال من علي عليه السلام ويلعنه على منبر


(378)
الكوفة ؟!
    أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الري ، وكان يكثر سب علي عليه السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه ؟! أم سفيان بن عوف الذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن ، فقتل خلقا ، و نهب أموالا ، ثم رجع إليه ؟! أم عبد الله الفزازي الذي كان أشد الناس على علي عليه السلام ، ووجهه إلى أهل البوادي فجاء بطامات كبرى ؟! أم سمرة بن جندب الذي كان يحرف كتاب الله لإرضائه ، وقتل خلقا دون رغباته لا يحصى ؟! أم طغام الشام وطغاتها الذين كانوا يقتصون أثر كل ناعق ، وانحاز بهم هو عن أي نعيق فأوردهم المهالك ؟! أهذه كلها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب ؟ اللهم ، لا.
    ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وآله ـ العياذ بالله ـ قوله : اللهم اجعله ضالا مضلا.
    لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات.
    ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيب من الصدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين ، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحق كأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ولما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله على حربه وقتاله ، ولما عرف فئته بالبغي والقسط.
    ولو كان السلف الصالح يرى شيئا زهيدا من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب لما كانوا يعرفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضلال والاضلال.
    وللسيد العلامة ابن عقيل كلمة حول هذه المنقبة المزيفة ونعما هي قال في النصايح الكافية ص 167 : وها هنا دلالة على عدم استجابة الله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحة الحديث من حديث صحيح أخرجه مسلم عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة.
    سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.


(379)
تعرف بهذا الحديث وغيره شدة حرصه صلى الله عليه وآله على أن يكون السلم دائما بين أمته ، فدعا الله تارة أن لا يكون بأس أمته بينهم كما في حديث مسلم ، وتارة أن يجعل معاوية هاديا مهديا لأنه بلا ريب يعلم أن معاوية أكبر من يبغي ويجعل بأس الأمة بينهما ، فمآل الدعوتين واحد وعدم الاجابة في حديث مسلم تستلزم عدمها في حديث الترمذي ، والمناسبة بل التلازم بينهما واضح بين ، وفي معنى حديث مسلم هذا جاءت أحاديث كثيرة ومرجعها واحد.
    الرواية الثانية
    أللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب.
    في إسنادها الحارث بن زياد ، وهو ضعيف مجهول كما قاله ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، وابن عبد البر ، والذهبي ، كما في ميزان الاعتدال 1 : 201 ، وتهذيب التهذيب 2 : 142 ، ولسان الميزان 2 : 149.
    وهو شامي غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام.
    وإن متنه لفي غنى عن أي تفنيد فإن المراد به إما علم الكتاب كله أو بعضه ، و نحن لم نجد عنده شيئا من علم الكتاب فضلا عن كله ، فإن أعماله وتروكه مضادة كلها لمحكمات الذكر الحكيم ، من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله بإيذاء أهل بيته وصلحاء أمته ، ولا سيما صنوه وخليفته المفروض طاعته الذي هو نفسه ، ومطهر عن أي رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز.
    ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثما لمحض ولائهم من قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله.
    ومن القتل الذريع للصلحاء الأبرار ، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة ، وميوله وأهواءه.
    ومن الكذب الصراح ، وكل فرية وبهت وإفك وقول زور ، طفح الكتاب بتحريمها النهائي.
    ودع عنك بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وتبديل سنة الله التي لا تبديل لها متى ما خالفت خطته السيئة ، وتعديه حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم


(380)
الظالمون ، إلى طامات صافقت على خطرها الكتاب ضرورة الدين.
    فالاعتقاد بجهله بكل هذه الموارد وما شاكلها خير له من علمه بها ومروقه عنها وخروجه عن حكم الكتاب ، ونبذه إياه وراء ظهره ، كما ذهب إليه مولانا أمير المؤمنين و أمة صالحة من الصحابة ، فالدعاء المزعوم له قد عدته الاجابة في كل ورد له وصدر.
    وأما بعض الكتاب فما عسى أن يجديه نفعا إن كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض ؟ ولو كان يعرف من الكتاب قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي.
    وقوله تعالى : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) وقوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
    وقوله تعالى : الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
    أو كان يعرف شيئا من أمثال هذه من كتاب الله لكان يعرف حده ولم يتعد طوره.
    ومما لا نشك فيه أن ابن حجر الذي يقول : لا شك أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب لا يأول الرواية بأنه أريد بها علم الكتاب لا العمل به ، وإن أبى الزاعم إلا ذلك ؟ فيا هبلته الهبول.
    وإنا لا نعلم معنى ( الحساب ) وعلمه الذي جاء في هذه الرواية معطوفا على الكتاب ، فإما أن يراد به تطبيق أفعاله وتروكه على نواميس الشريعة المقررة ، أو علمه بكل ما يحاسب عليه الله عباده ، فيخرج من العهدة من غير تبعة ، أو أنه يحاسب نفسه قبل أن يحاسب بكل قول وعمل ، أو أنه يقسم بالسوية فيعطي كل ذي حق حقه ، ولا يحيف في مال الله ، ولا يميل في أعطيات الناس بمحاباة أحد وقطع آخر من غير تخط عن سنن الحق ، أو أنه يعرف فروض المواريث الحسابية ، أو أنه يعلم بقواعد الحساب العددية من الجمع والضرب والتقسيم والتفريق والجبر والمقابلة والخطأين إلى أمثالها من أصول علم الحساب.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس