الغدير ـ الجزء العاشر ::: 361 ـ 370
(361)
نجاح وفلاح ، فإن ميتة الجاهلية إنما هي شر ميتة ، ميتة كفر وإلحاد ، لكن هنا دقيقة لا بد من البحث عنها وهي أن الصديقة الطاهرة المطهرة بنص الكتاب الكريم التي يغضب الله ورسوله لغضبها ويرضيان لرضاها ، ويؤذيهما ما يؤذيها قضت نحبها و ليس في عنقها بيعة لمن زعموا أنه خليفة الوقت ، ومثلها بعلها طيلة ستة أشهر أيام حياة حليلتها كما جاء في الصحيحين وفيهما : كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس (1) قال القرطبي في المفهم.
    كان الناس يحترمون عليا في حياتها كرامة لها لأنها بضعة من رسول الله وهو مباشر لها ، فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكر انصرف الناس عن ذلك الاحترام ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرق جماعتهم.
    فالحقيقة هاهنا مرددة بين أن الصديقة سلام الله عليها عزبت عنها ضرورية من ضروريات دين أبيها وهي أولاها وأعظمها وقد حفظته الأمة جمعاء حضريها وبدويها وماتت ـ العياذ بالله ـ على غير سنة أبيها ، وبين أن لا يكون للحديث مقيل من الصحة وقد رواه الحفظة الاثبات من الفريقين وتلقته الأمة بالقبول ، وبين إنها سلام الله عليها لم تك تعترف للمتقمص بالخلافة ، ولا توافقه على ما يدعيه ، ولم تكن تراه أهلا لذلك ، وكذلك الحال في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
    فهل يسع لمسلم أن يختار الشق الأول ويرتأي لبضعة النبوة ولزوجها نفس النبي الأمين ووصيه على التعيين ما يأباه العقل والمنطق ويبرأ منه الله ورسوله ؟ لا ، ليس لأحد أن يقول ذلك.
    وأما الشق الثاني ، فلا أظن جاهلا يسف إلى مثله بعد استكمال شرايط الصحة والقبول وإصفاق أئمة الحديث ومهرة الكلام على الخضوع لمفاده ، وإطباق الأمم الإسلامية على مؤداه.
    فلم يبق إلا الشق الثالث ، فخلافة لم تعترف لها الصديقة الطاهرة وماتت وهي واجدة عليها وعلى صاحبها ، ويجوز مولانا أمير المؤمنين التأخر عنها ولو آناما ، ولم
1 ـ صحيح البخاري كتاب المغازي ج 6 : 197 ، صحيح مسلم كتاب الجهاد ج 5 : 154.

(362)
يأمر حليلتها بالمبادرة إلى البيعة ، ولا بايع هو ، وهو يعلم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ، فخلافة هذا شأنها حقيقة بالإعراض عنها والنكوص عن البخوع لصاحبها.
    8 ـ من طريق أبي أمية عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده : إن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينا هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة أو مرتين فقال : يا معاوية ! إن وليت أمرا فاتق الله عزوجل وأعدل.
    قال : فما زلت أظن إني مبتلى بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت. المسند 4 : 101.
    قال الأميني : إن من المأسوف عليه أن الرجل نسي هذه الوصية النبوية في عهديه جميعا من الإمارة والملك العضوض ، أو أنه كان يذكرها غير أنه لم يكترث لها فلم يدع شيئا من مظاهر العدل والتقوى إلا وتركه ، ولا أمرا من موجبات الإثم والعدوان إلا وارتكبه ، وإن البحث لفي غنى عن سرد تلك المآثم والجرائم ، وقد كررنا بعضها في أجزاء هذا الكتاب ، وفي حيطة سعة الباحث الوقوف عليها كلها.
    فليته كان يذكر تلك الوصية الخالدة يوم تثبط عن نصرة عثمان حتى أودي به ، ويوم كاشف إمام الوقت أمير المؤمنين عليه السلام بالحروب الطاحنة ، وجابه ولاية الله الكبرى بكل ما كان يسعه عناده ومكائده ، وناوء الصحابة العدول بالقتل والتشريد ، واضطهد صلحاء الأمة بكل ما في حوله وطوله من إخافة وإرجاف وقتل ذريع وأخذ بالظنون والتهم ، أو كان من العدل والتقوى شيء من هذه ؟ أو كان منهما بيع الخمر وشرابها وأكل الربا ، واستلحاق زياد بأبي سفيان ، واستخلاف يزيد ؟ ولعلك أعرف بيزيد من غيرك كما أن مستخلفه كان أعرف به من كل أحد.
    ولعل من أظهر مصاديق عدله وتقواه دؤبه على سب الإمام الطاهر ، ولعنه على صهوات المنابر ، وقنوته بذلك في صلواته ـ التي كانت تلعنه ـ وحمله الناس على ذلك بالحواضر الإسلامية وأوساطها طول حياته حتى كانت بدعة مخزية مستمرة في العهد الأموي كلها بعد أن اخترمته المنية.


(363)
    وليتني كنت أدري إنه ماذا كان يفعله مما يخالف العدل والتقوى لولا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله إياه ؟ أوانه ( والعياذ بالله ) لو كانت الوصية بخلاف ما سمعه منه صلى الله عليه وآله ؟ فهل كان يتاح له أكثر وأشنع مما فعل ؟.
    9 ـ من غير طريق عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ، وفي لفظ : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
    وفي بعض الألفاظ : وكان معاوية قلما خطب إلا ذكر هذا الحديث في خطبته (1) قال الأميني : كان من قضية هذا السماع ووعيه ، والاكثار من روايته حتى أنه جاء مكررا في مسند أحمد ست عشر مرة ، وما كان يخطب معاوية إلا وذكره ، التأثر بمفاده ، والتهالك في التفقه في الدين ، والحرص على ما كان يسمعه أو يبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبادئ الفقه وغاياته ، فما هذا الذي قهقره عن ضبط ما هنالك من حكم وأحكام ؟ وأبعده عن مستقى السنة ذلك البون الشاسع الذي تركه أجهل خلق الله بأحكامه ، عدا ما خالفه وباينه ، من أحاديث كانت حجة عليه ، بعيدا عن مغازيه وأعماله ، وعدا طفائف لا يعود العالم بها فقيها في دينه ، متبصرا في أمره ، كل ذلك ينم عن أن الرجل لم يرد الله به خيرا ولا فقهه في دينه ، وليس ذلك من ابن هند ببعيد.
    10 ـ من طريق محمد بن جبير بن مطعم يحدث : إنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث إنه سيكون ملك من قحطان ، فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عزوجل بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد : فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك جهالكم ، فإياكم والأماني التي تضل أهلها ، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين.
    قال الأميني : لقد غلط معاوية في فهم الحديث على تقدير صحته ، فإن الذي ذكر عبد الله بن عمرو أن ذلك الكائن ملك ، ولم ينص على أنه خليفة ، وكم في الدهر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ملوك من غير قريش ؟ ومن الجائز أن يكون ذلك الملك الموعود به من أصحاب الملك العضوض ، فما رده به معاوية من أن الذين يجب أن يكونوا من قريش
1 ـ المحلى لابن حزم 9 : 359.

(364)
هم الأئمة الذين لا ينازعون في أمرهم ما أقاموا الدين ، فمعاوية ومن اهتدى مثاله ممن لم يقيموا الدين بل ناوئوه وباينوه خارجون عنهم ، وهاهنا تسقط مطامع معاوية وأمانيه التي أضلته من انطباق الرواية عليه وعلى نظرائه وإن لم يكونوا قحطانيين ، فأولى به من تحذره عن تخلف نسبة قحطان عنه أخذه الحذر عن موانع الخلافة التي لا تبارحه أو كانت الخلافة في الطلقاء ؟ أو كانت في غير البدريين ؟ أو كان يشترط فيها فقدان العدل والتقوى في الخليفة ؟ أو كان لآكلة الأكباد ورايتها نصيب من خلافة الله ؟ وإن تعجب فعجب إن الرجل يعد عبد الله بن عمرو من الجهال ، وهو الذي جاء فيه عن أبي هريرة : إنه أكثر الناس حديثا من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان يكتب الحديث ، وفي لفظ أبي عمر : أحفظ حديثا.
    وقال : كان فاضلا حافظا عالما ، قرأ الكتاب واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه فأذن له ، وهو الذي أثنى عليه ابن حجر بغزارة العلم والاجتهاد في العبادة (1).
    نعم : يقع معاوية في الرجل كمن ملأ إهابه علما ، وشحن الطروس والسطور فقها وحديثا ، ذهولا منه عن أن الأمة المنقبة حفظت عليه حديث عبادة بن الصامت من قوله له : إن أمك هند أعلم منك (2).
    هذا معاوية ومبلغه من العلم بالسنة.
الإجماع
    قد عرفت آنفا أن من مدارك الاجتهاد في الأحكام الشرعية ومبادئها : الإجماع ولعل أقسط تعاريفه ما قاله الآمدي في الإحكام 1 : 280 : إنه اتفاق جملة من أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقايع.
    فهلم ولننظر إلى معاوية وأقواله وتقولاته وأعماله وجرائمه وفقهه ، واجتهاده هل يقع شيء منها في معقد من معاقد الإجماع ؟ وأين أولئك الفقهاء ، وأهل الحل والعقد في الفقه والدين الذين أصفقوا مع معاوية على ما عنده من بدع وتافهات ؟ ومن كان منهم يومئذ ليطلوا سقطات معاوية الشاذة بالإجماع ؟ وهل كان مبائة الفقهاء يومئذ في
1 ـ الاستيعاب 1 ، 307 ، أسد الغابة 3 : 233 ، الإصابة 2 : 352 ، تهذيب التهذيب 5 : 337.
2 ـ تاريخ ابن عساكر 7 : 210.


(365)
غير المدينة المنورة من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان ؟ وفي بلاد غيرها انتشروا منها إليها ، وكلهم كانوا في منتأى عن ابن هند وآراءه ، ولم يزل هو يناوئهم ويضادهم في القول والعمل ويتحرى الوقيعة فيهم.
    نعم : كان يصافقه على مخاريقه حثالة من طغام الشام الذين حدتهم النهمة والشره وهملج بهم المطامع والشهوات ، فما قيمة اجتهاد يكون هذا أحد مبادئه ؟!
    القياس
    المعتبر من القياس عند أئمة السنة والجماعة أن يكون المناط منصوصا عليه في الكتاب والسنة ، أو مخرجا عنهما بالبحث والاستنباط إما بنوعه أو بشخصه (1) ولم نجد في اختيارات معاوية شيئا من تلكم المناطات في المقيس عليه منصوصة أو مستنبطة يصح القياس في المقيس ويجوز التعويل عليها ، نعم : كانت عنده أقيسة جاهلية أراد تطبيق أحكام الاسلام بها.
    أي اجتهاد هذا ؟! لعلك إلى هنا عرفت معنى الاجتهاد الصحيح وحقيقته ومبانيه عند أئمة الاسلام من رجالات الفقه وأصوله ، والمسك باليد بعد معاوية عن كل ذلك بعد المشرقين ، فهلم معي نقرأ صحيفة مكررة من أفعال هذا المجتهد الطاغية وتروكه التي اجتهد فيها ويرى أبناء حزم وتيمية وكثير وحجر ومن لف لفهم أن الرجل لم يلحقه ذم وتبعة من تلكم الهفوات ، بل يحسبونه مأجورا فيها لكونه مجتهدا مخطأ.
    ألا تقول أي اجتهاد جوز على هذا المجتهد أو أوجب عليه وعلى كل مسلم بأمره ـ رضي بذلك أم أبى ـ سب مثل مولانا أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه والقنوت بلعنه في الصلوات ، والدعاء عليه وعلى الإمامين السبطين (2) والصلحاء الأخيار معه ؟! هل اجتهد هذه الأحدوثة من آية التطهير والمباهلة أو من المئات النازلة في علي عليه السلام ؟ أو من الآلاف من السنة الشريفة المأثورة عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله من فضائله ومناقبه ؟ أو من الإجماع المعقود على بيعته واتخاذه خليفة مفترضة طاعته ؟ ولئن تنازلنا عن
1 ـ راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء تحت عنوان : الاجتهاد ماذا هو.
2 ـ راجع الجزء الثاني ص 101. 102 ، 132 ، 133 ط 2.


(366)
الخلافة له ، فهل هناك إجماع على نفي إسلامه ونفي كونه من أعيان الصحابة العدول ، حتى يستسيغ هذا المجتهد ـ رضيع ثدي هند المتفيئ تحت رايتها ـ الوقيعة فيه والنيل منه ؟.
    وهل هناك قياس يخرج ملاكه من مبادئ الاجتهاد الثلاثة التي قامت بسيف علي عليه السلام واعتنقتها الأمة ببأسه ، وعرفتها ببيانه ، يسوغ للرجل ما تقحم فيه ؟ نعم : كانت تراث وإحن بين القبيلتين ـ أبناء هاشم وبني أمية ـ منذ العهد الجاهلي ، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كل من الفئتين المتخاصمتين من الأخرى كيفما وقع ، وأينما أصاب ، وريثما انتهز الفرصة من تمكن من الانتقام ، سواء حمل المنكوب شيئا من الظلامة أو لا ، فيقتل غير القاتل ، ويعذب غير المجرم ، ويؤاخذ غير الجاني ، شنشنة جاهلية ثبت عليها الجاهلون ، واستمروا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الاسلام ، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية ( المجتهد في أعماله واجتهاده ).
    أي اجتهاد يسوغ له دؤبه على لعن الإمام المفدى على صهوات المنابر ، وفي أدبار الصلوات ، حتى غير سنة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه ، وكان يوبخ الساكتين عن لعنه بملأ فمه وصراحة لهجته ؟ فبأي كتاب أم بأية سنة أو إجماع أو قياس كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية ؟ أي اجتهاد يحتم عليه استقراء كل من والى عليا أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم ، وتشريدهم ، والتنكيل بهم ، وتعذيبهم بأشد العذاب ، ولم يرقب فيهم ذمة الاسلام ولا إليه ، ولم يراع فيهم حرمة الصحبة وصونها ؟ أو يساعده على ذلك شيء من الآي الكريمة ؟ أو أثارة من السنة الشريفة ؟ أو إجماع من أهل الدين ؟ وأين هم ؟! [ وهم كلهم مناوئوا معاوية ومنفصلون عن آرائه ] أو أن هناك قياس خرج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث ؟ أي اجتهاد يبيح له قذف علي عليه السلام بالإلحاد والغي والبغي والضلال والعدوان و الخبث والحسد إلى طامات أخرى ؟ أو تحسب أنك تجد حجة على شيء من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم ؟ أو من تضاعيف السنة النبوية ؟ أو من معاقد إجماع الأمة ؟ والأمة على بكرة أبيها تعلم أن شيئا من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تكتسح


(367)
عنها إلا ببيان الإمام وبنانه ، وسيفه ولسانه ، ولو قام للدين مثال شاخص لما عداه أن يقوم بصورة علي عليه السلام ومثاله.
    أي اجتهاد يحبذ له المسرة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكي إمامي الهدى صلوات الله عليهما ، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ويري لصاحبه قتل علي عليه السلام من لطف الله وحسن صنعه ، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله ؟ وأنت جد عليم بأن فقه الكتاب الكريم في منتئ عن هذه الشقوة ، كما أن السنة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة ، ودع عنك معقد إجماع الأمة النائي عن هذه الفظاظة ، و ملاكات الشريعة منصوصة ومستنبطة البائنة لتلك الصلافة.
    نعم : قياس الجاهلية الأولى يضرب على وتره ويغنى في وتيرته.
    أي اجتهاد يرخص هتك حرمات مكة والمدينة ، وشن الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليا عليه السلام ويشرع نذر قتل نساء ربيعة لحب رجالهم أمير المؤمنين وتشيعهم له عليه السلام ؟!.
    أي اجتهاد يحلل مثلة من قتل تحت راية علي عليه السلام يوم صفين ، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره ؟! كما فصلنا القول فيه في الجزء الثالث.
    أي اجتهاد يمنع إمام الحق وآلافا من المسلمين عن الماء المباح ، ويعطي لمعاوية حق القول : بأن هذا والله أول الظفر ، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه ، أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه ؟! (1) أي اجتهاد يجوز بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وإشاعة الفحشاء ، وقد حرمها كتاب الله وسنة نبيه ، ويتلوهما الإجماع والقياس.
    ؟! أي اجتهاد يحث الناس بإعطاء الإمارة والولايات وبذل القناطير المقنطرة لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبي الأقدس وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم ؟! أي اجتهاد يراق به دم من سكت عن لعن علي ولم يتبرأ منه ولو كان من جلة الصحابة ومن صلحاء أمة محمد كحجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق ؟ أي اجتهاد يؤدي إلى خلاف ما ثبت من السنة الشريفة ، ويصحح إدخال ما
1 ـ كتاب صفين ص 182 ، شرح نهج البلاغة 1 : 328.

(368)
ليس منها في الأذان والصلاة والزكاة والنكاح والحج والديات على التفصيل الذي مر في هذا الجزء.
    أي اجتهاد يغير دين الله وسنته لمحض مخالفته عليا عليه السلام كما مر ص 205.
    أي اجتهاد ينقض به حد من حدود الله لاستمالة مثل زياد بن أمه وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ؟! أي اجتهاد يحابي خلافة الله ليزيد السكير المستهتر ، ويستحل به دماء من تخلف عن تلك البيعة الغاشمة ؟! أي اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين علي عليه السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق ؟! أي اجتهاد تدعم به الشهادات المزورة والفرية والإفك والكذب وقول الزور و النسب المختلقة والمكر والخديعة لنيل الأماني الوبيلة المخزية ؟! أي اجتهاد يجوز إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته وعترته ، وإيذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان وفي مقدمهم سيدهم وفي الذكر الحكيم قوله تعالى : الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم.
    والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
    وجاء عن الصادع الكريم : من آذى مسلما فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل (1) وقوله عن جبريل عن الله تعالى : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.
    ومن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب.
    وقوله : من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي.
    وقوله : من أهان لي وليا فقد استحل محاربتي.
    وقوله : من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة.
    وقوله : من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة (2).
    أي اجتهاد يري صاحبه نقض الإل وحنث العهد ، من السهل الهين في جميع موارده ومصادره ؟! أي اجتهاد يجابه به سنة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والازدراء والضرطة ؟
1 ـ راجع الحاوي للفتاوى 2 : 47.
2 ـ راجع الحاوي للفتاوى 1 : 361 ـ 324.


(369)
كما فصل في ص 281 ـ 283.
    أي اجتهاد يفسد البلاد ، ويضل العباد ، ويشق عصا المسلمين ، بالشذوذ عن الجماعة ، وخلع ربقة الاسلام عن البيعة الحقة ، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الأمة من أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته ؟!.
    إلى غير هذه من اجتهادات باطلة ، وآراء سخيفة تافهة ، ليس لها في مستوى الصواب مقيل ، ولا لها في سوق الدين اعتبار يعذر صاحبه ، وكلها مبائنة للكتاب ، مضادة مع السنة الثابتة الصحيحة ، ونقض للاجماع الصحيح المتسالم عليه ، والقياس الذي نص في المقيس عليه على ملاك الحكم في أي من الكتاب والسنة ، أو إنه مستنبط بالاجتهاد والتظني فيهما.
    وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحري الحق ؟! اللهم إنها ميول وأهواء ومطامع وشهوات تزجي بصاحبها إلى هوات المهالك ، وهل هذا يضاهي شيئا من اجتهاد المجتهدين ؟! على أن جملة من المذكورات مما لا مساغ للاجتهاد فيه ، ولا يتطرق إليه الرأي والاستنباط ، لأن الحكم فيها ملحق بالضروريات من الدين ، ومما لا يسع فيه الخلاف ، فمن حاول شيئا من ذلك فقد حاول دفاعا للضروري من الدين ، واستباح محظورا ثابتا من الشريعة ، كمن يستبيح قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتهاده ، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شق المرائر ، واستمراء جرع الحتف المبير.
من هو هذا المجتهد ؟
    أهو ابن آكلة الأكباد ـ نكس الله رايتها ـ الهاتك لحرمات الله ، المعتدي على حدوده ، المجرم الجاني ؟.
    يحسب أبناء حزم وتيمية وكثير ومن لف لفهم إنه مجتهد مأجور ، ويقول ابن حجر : إنه خليفة حق ، وإمام صدق.
    هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم بل نقول بما قاله المقبلي (1) في كتابه ( العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء المشايخ ) ص 365 : ما كان علي رضي الله عنه
1 ـ الشيخ صالح بن مهدي المتوفى 1108.

(370)
وأرضاه إلا إمام هدى ، ولكنه ابتلى وابتلي به ، ومضي لسبيله حميدا ، وهلك به من هلك ، هذا يغلو في حبه أو دعوى حبه لغرض له ، أعظمهم ضلالا من رفعه على الأنبياء أو زاد على ذلك ، وأدناهم من لم يرض له بما رضى لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الإمارة ، رضي الله عنهم أجمعين.
    وآخر يحط من قدره الرفيع ، أبعدهم ضلالا الخوارج الذين يلعنونه على المنابر ، ويرضون على ابن ملجم شقي هذه الأمة ، وكذلك المروانية ، وقد قطع الله دابرهم ، وأقربهم ضلالا الذين خطأوه في حرب الناكثين ، والله سبحانه يقول : فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.
    فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي من تصدق ؟ مع أنهم بغوا بغيا محققا بعد استقرار الأمر له ، ولا عذر لهم ، ولا شبهة إلا الطلب بدم عثمان ، وقد أجاب رضي الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال : يحضر وارث عثمان ويدعي ما شاء ، واحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
    أو كما قال فإن تصح هذه الرواية ، وإلا فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدنى الناس من المتمسكين بالشريعة ، وأما أنه يقطع قطيعا من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة وأكثر ، بل قيل : إنهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق ، فيقتلهم عن بكرة أبيهم ، والقاتل واحد ، أربعة ، عشرة ، قيل : هما اثنان فقط.
    وذكره في الصواعق أيضا ، فهذا ما يعتذر به عاقل ، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلة باطلة ، خلا أن طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن يلحق بهم من تلك الدرجة التي يقدر قدرها من الصحابة ، لا يشك عاقل في شبهة غلطوا فيها ، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم.
    وأما معاوية والخوارج فمقاصدهم بينة ، فإن لم يقاتلهم علي فمن يقاتل ؟ أما الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلا ضال ، وأما معاوية فطالب ملك ، اقتحم فيه كل داهية ، وختمها بالبيعة ليزيد ، فالذي يزعم أنه اجتهد فأخطأ ، لا نقول : اجتهد وأخطأ.
    لكنه إما جاهل لحقيقة الحال مقلد ، وإما ضال اتبع هواه ، اللهم إنا نشهد بذلك.
    ورأيت لبعض متأخري الطبريين في مكة رسالة ذكر فيها كلاما عزاه لابن عساكر وهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن معاوية سيلي أمر الأمة ، وأنه لن يغلب ، وأن عليا
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس