الغدير ـ الجزء العاشر ::: 351 ـ 360
(351)
    وأما مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فهو عدل القرآن والعالم بأسراره وغوامضه ، كما أن عنده العلم الصحيح بكل مشكلة ، والحكم البات عند كل قضية ، والجواب الناجع عند كل عويصة ، وقد صح عند الأمة جمعاء قوله الصادق المصدق صلوات الله عليه : : سلوني قبل أن لا تسألوني ، لا تسألوني عن آية في كتاب الله ولا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنبأتكم بذلك. راجع الجزء السادس ص 193 ط 2.
    السنة.
    وماذا تحسب أن يكون نصيب معاوية من علم الحديث الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وفعله وتقريره ؟ لقد عرفنا موقفه منها قوله هو فيما أخرجه أحمد في مسنده 4 : 99 من طريق عبد الله بن عامر قال : سمعت معاوية يحدث وهو يقول : إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان على عهد عمر.
    لماذا هذا التحذير عن الأحاديث بعد أيام عمر ؟ ألان الافتعال والوضع كثرا بعده ؟ أم لأن الصحابة العدول الموثوق بهم على عهد عمر وما قبله منذ تصرم العهد النبوي سلبت عنهم الثقة بعد خلافة عمر ؟ فكأنهم ارتدوا ـ العياذ بالله ـ بعده كذابين وضاعين ، ولازمه الطعن في أكثر الأحاديث وعدم الاعتداد بمدارك الأحكام ، لأن شيئا كثيرا منها انتشر بعد ذلك الأجل ، وما كانت الدواعي والحاجة تستدعيان روايتها قبل ذلك ، على أن الجهل بتاريخ إخراجها ، هل هو في أيام عمر أو بعدها ؟ يوجب سقوطها عن الاعتبار لعدم الثقة برواتها وروايتها ؟ ولم تكن الرواة تسجل تاريخ ما يروونه حتى يعلم أن أيا منها محاط بسياج الثقة ، وأيا منها منبوذ وراء سورها.
    وما خصوصية عهد عمر في قبول الرواية ورفضها ؟ ألان الحقايق تمحضت فيه ؟ ومن ذا الذي محضها ، أم لأن التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم ؟ ومن ذا الذي فعل ذلك ؟ أم أن يد الأمانة قبضت على السنة عندئذ ، وعضتها بالنواجذ حرصا عليها ، فلم يبق إلا لبابها المحض ؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات ؟ ومتى بدلت السنن ؟ ومتى غيرت الأحكام ؟ راجع الجزء السادس وهلم جرا.
    ولعل قول معاوية هذا في سنة الرسول صلى الله عليه وآله كاف في قلة اعتداده بها ، أو أنه كان ينظر إليها نظر مستخف بها ، وكان يستهين بقائلها مرة ، ويضرط لها إذا سمعها مرة


(352)
أخرى ، وينال من رواتها بقوارص طورا ، وينهى راويها عن الرواية بلسان بذي بكل شدة وحدة ، إلى أشياء من مظاهر الهزء والسخرية (1) فما ظنك بمن هذا شأنه مع ـ السنة الشريفة ؟ فهل تذعن له إنه يعبأ بها ويحتج بها في موارد الحاجة ، ويأخذها مدركا عند عمله ؟ أو ينبذها وراء ظهره ؟ كما فعل ذلك في موارده ومصادره كلها.
    وإن حداثة عهد معاوية بالاسلام وأخذه بالروايات بعد كل ما قدمناه ، وما كان يلهيه عن الاصاغة إليها طيلة أيامه من كتابة وإمارة وملوكية ، وإن حياته في دور الاسلام كلها كانت مستوعبة بظروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه ، فمتى كان يتفرغ لأخذ الروايات وتعلم السنن ؟ ثم من ذا الذي أخذ عنه السنة ؟ والصحابة جلهم في منتأى عن مبائته ( الشام ) ولم يكن معه إلا طليقا أعرابيا ، أو يمانيا مستدرجا ، وهو يسيئ ظنه بجملة الصحابة المدنيين حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبوية ويقول بملأ فمه : إنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم ، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام (2) وعلى أثر ظنه السيئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأمراءه عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يظهر مما أخرجه الحاكم في المستدرك 4 : 486 من قول عبد الله بن عمرو بن العاص لما قاله نوف : أنت أحق بالحديث مني أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله : إن هؤلاء قد منعونا عن الحديث يعني الأمراء.
    وجاء في حديث : إن معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر فقال : لئن بلغني إنك تحدث لأضربن عنقك (3).
    وعلى ذلك الظن أهدر دماء بقية السلف الصالح ، وبعث بسر بن أرطاة إلى المدينة الطيبة فشن الغارة على أهلها ، فقتل نفوسا بريئة ، وأراق دماء زكية ، واقتص أثره من بعده جروه يزيد في واقعة الحرة ، ومن يشابه أبه فما ظلم.
نظرة في أحاديث معاوية
    إن لنا حق النظر في شتى مناحي رواياته ، لقد أخرج عنه أحمد في مسنده في الجزء الرابع ص 91 ـ 102 مائة وستة أحاديث وفيها من المكرر.
1 ـ راجع تفصيل كل هذه فيما أسلفناه في هذا الجزء ص 281 ـ 284.
2 ـ راجع صفحة 319 من هذا الجزء.
3 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 248.


(353)
    1 ـ حديث إذا أراد الله بعبده خيرا يفقهه في الدين.
    كرره ست عشر مرة في ص 92 ، 92 ، 93 ، 93 ، 93 ، 93 ، 93 ، 95 ، 96 ، 96 ، 97 ، 98 ، 98 ، 99 ، 101 ، 101.
    2 ـ حديث تقصير شعر النبي بمشقص مكرر عشر مرات في ص 92 ، 95 ، 96 ، 97 ، 97 ، 97 ، 97 ، 98 ، 102 ، 102.
    3 ـ حديث حكاية رسول الله صلى الله عليه وآله الأذان كرره سبع مرات في ص 91 ، 92 ، 93 ، 98 ، 98 ، 100 ، 100.
    4 ـ حديث عقوبة شرب الخمر مكرر خمس مرات في ص 93 ، 95 ، 96 ، 97 101.
    5 ـ حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر جاء في ص 96 ، 97 ، 97 ، 100.
    6 ـ حديث كبة الشعر يوجد في ص 91 ، 94 ، 95 ، 101.
    7 ـ حديث مناشدته عن أحاديث جاء في ص 92 ، 95 ، 96 ، 99.
    8 ـ حديث صوم عاشوراء في ص 95 ، 96 ، 97.
    9 ـ حديث حب الأنصار يوجد في ص 96 ، 100 ، 100.
    10 ـ حديث من أحب أن يمثل له قياما في ص 91 ، 93 ، 100.
    11 ـ حديث النهي عن لبس الذهب والحرير يوجد في ص 96 ، 100 ، 101.
    12 ـ حديث منقبة المؤذنين في ص 95 ، 98.
    13 ـ حديث إنما أنا خازن ص 99 ، 100.
    14 ـ حديث العمري جائزة ص 97 ، 99.
    15 ـ حديث سجدة السهو لكل منسي ص 100 ، 100.
    16 ـ حديث التبعية في الركوع والسجود ص 92 ، 98.
    17 ـ حديث النهي عن ركوب الخز والنمار ص 93 ، 93.
    فالباقي من أحاديثه من غير تكرير سبعة وأربعون حديثا ، وهل تسد هي فراغ الاستنباط في أحكام الدين لأي مجتهد ؟ مع أن فيها ما ليس من الأحكام مثل رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر توفي كل منهم وهو ابن ثلاث وستين ، وقوله : رأيت


(354)
النبي صلى الله عليه وآله يمص لسان الحسن. إلى أمثال ذلك. ولقد آن لنا أن ننظر نظرة أخرى في غير واحد من متون أحاديثه فمنها :
    1 ـ إن معاوية دخل على عائشة فقالت له : أما خفت أن أقعد لك رجلا يقتلك ؟ فقال : ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. يعني : الإيمان قيد الفتك.
    كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك ؟ قالت : صالح قال فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عزوجل. مسند أحمد 4 : 92.
    قال الأميني إنه ينم عن أن أم المؤمنين كانت تستبيح دم الرجل بما ارتكبه من ـ الجرائم والمآثم ، وسفك دماء زكية ، ونفوس مزهقة بريئة ، حتى أنها كانت ترى من المعقول السائغ أن تقعد له رجلا فيقتله ، فأقنعها بأنه في بيت أمان ، وداخل في ذمتها ، وأن ما بينه وبينها صالح ، وأرجئ الموافاة للجزاء إلى يوم التلاقي بينه وبين الناس.
    ويستشف من هذه إنه لم يكن عند معاوية درأ لما كانت أم المؤمنين تنقمه عليه ، وإلا لكان للرجل أن يتشبث به في تبرير أعماله وتبرأة نفسه دون التافهات.
    وإن تعجب فعجب اقتناع أم المؤمنين من معاوية بأن بينه وبينها صالح ، وإن لم يكن صالحا بينه وبين الله ، ولا صالحا بينه وبينها لأنه قاتل أخيها ( محمد بن أبي بكر ) وكان على عنق معاوية ذلك الدم الطاهر ، وإن غضت الطرف عنه أختها لأن بينه وبينها صالح ، كما إنها غضت الطرف عن دم حجر وأصحابه وهو من موبقات ابن آكلة الأكباد وطالما نقمت عليه ذلك وكانت توبخه ، لكن برره ذلك الصالح بينهما بلا عقل ولا قود ، وأما دم عثمان فما غضت عنه أم المؤمنين مهما لم يكن بينهما وبين علي عليه السلام صالح ، وهل يحتج معاوية يوم القيامة في موقف العدل الإلهي متى خاصمه محمد وحجر وأصحابه و آلاف من الصلحاء الأبرار ممن سفك دمائهم بأن بينه وبين عائشة صالح ؟ وهل يفيده هذا الحجاج ؟ أنا لا أدري.
    أما كان لعائشة أن تفحم الرجل بأن الإيمان لو كان قيد الفتك ( وهو قيد الفتك ) فلماذا لم يقيده ؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين ، وأعيان الأمة المسلمة ، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن الله ( مكة ) ولا مجاورو بيت أمانه ( المدينة ) ولعل أم المؤمنين كانت تنظر إلى إيمان الرجل من وراء ستر رقيق ولم تجده إيمانا مستقرا ـ إن لم نقل


(355)
أنها وجدته مستودعا ـ يقيد صاحبه ، ويسلم المسلمون بذلك من يده ولسانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم (1).
    2 ـ عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : لما قدم علينا معاوية حاجا ، قدمنا معه مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ، ثم انصرف إلى دار الندوة ، وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به ، فقال لهما : وما ذاك ؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة ؟ فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت ؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قالا : فإن ابن عمك قد كان أتمها ، وإن خلافك إياه له عيب ، قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا.
    مسند أحمد 4 : 94.
    قال الأميني : أنا لا أدري إن الشائنة ها هنا تعود إلى فقه معاوية ؟ أم إلى دينه ؟ حيث يتعمد الإتمام حيثما قصر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتخذته الأمة سنة متبعة وفيهم أبو بكر وعمر ، وقد صح عن عبد الله مرفوعا : الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر.
    لكن الرجل خالف الجميع ، وجابه حكم الرسول صلى الله عليه وآله نزولا منه إلى رغبة مروان الطريد بن الطريد ، وعمرو بن عثمان ؟ صونا لسمعة ابن عمه عثمان مبتدع هذه الأحدوثة فإن كان هذا فقه الرجل في الحديث ؟ فمرحا بالفقاهة ، أو أن ذلك مبلغه من الدين ؟ فبعدا له في موقف الديانة. راجع الجزء الثامن ص 100 ـ 122 ، 269 ط 1.
    3 ـ عن الهنائي قال : كنت في ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند معاوية ، فقال معاوية : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير ؟ قالوا : اللهم نعم. إلى أن قال :
1 ـ أخرجهما البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والطبراني وابن داود. راجع فيض القدير 1 : 270.

(356)
    قال : أنشدكم الله تعالى أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين حج و عمرة ؟ قالوا : أما هذا فلا ؟ قال : أما إنها معهن. وفي لفظ : قال : وتعلمون أنه نهى عن المتعة ـ يعني متعة الحج ـ قالوا : اللهم لا. راجع المسند 4 ص 92 ، 95 ، 99.
    قال الأميني : هذا معطوف على ما قبله ، فإن حرص الرجل على إحياء البدع تجاه السنة النبوية الثابتة ، أوقفه هاهنا موقف المكابر المعاند ، فقد أسلفنا في الجزء السادس ص 184 ـ 191 ، 200 ـ 206 : إن متعة الحج نزل بها القرآن الكريم ولم ينسخ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وآله نحبه ، وكان عليها العمل أيام أبي بكر وصدرا من أيام عمر حتى منع عنها.
    وعليه فاقتصاص معاوية أثر ذلك المحرم ( بالكسر ) يجلب الطعن إما في فقهه هو وجهله بالسنة ، أو في دينه ، والجمع أولى ، والثاني أقرب إليه.
    4 ـ من طريق حمران يحدث عن معاوية قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها ، ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر. ج 4 : 99 ، 100.
    قال الأميني : عرفت ـ في الجزء السادس ص 170 ـ 173 ـ إن الصلاة بعد العصر كانت مطردة على العهد النبوي يصليها هو صلى الله عليه وآله ولم يكن يدعهما سرا ولا علانية ، وما تركهما حتى لقي الله تعالى ، وصلاهما أصحابه إلى أن منع عنها عمر ، واحتجت الصحابة عليه بأنها سنة ثابتة ، ولا تبديل لسنة الله ، غير أن الرجل لم يصخ إلى قولهم ، وطفق يمضي وراء أحدوثته ، وجاء معاوية وقد زاد في الطنبور نغمة ، وعزى إلى رسول الله النهي عنهما ، وهل هذا مقتضى جهله بالسنة ؟ أو مبلغه من الفقه والدين ؟ فاسمع القول ، واقض بالحق لك أو عليك.
    5 ـ من عدة طرق عن معاوية مرفوعا : من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد الرابعة فاقتلوه. أخرجه في ج 4 : 93 ، 95 ، 96 ، 97 ، 101.


(357)
    قال الأميني : إني واقف هاهنا موقف التحير ، ولا أدري هل كان معاوية عاملا بمفاد هذا الحديث يوما من أيامه أبان خلافته وإمارته وقبلهما ؟ أو كان يناقضه كمناقضته بكثير من الأحكام ؟ ولإن كان خاضعا لما فيه من الحكم البات لما حملت إليه روايا الخمر قطارا ، ولما حملها إليه حماره الذي كان يصاحبه ، ولا ادخرها في حجرته ، ولا اتخذ متجرا لبيعها ، ولا شربها هو ، ولا يعربد بشعره فيما وهو سكران ، ولا قدمها إلى وفوده ، ولا استخلف جروه السكير بمرئى منه ومسمع ، ولا أضاع حد الله على من يشربها وينتشي بها ، وحديث معاوية هذا مع جودة سنده وإخراج مثل أحمد والترمذي وأبي داود إياه لم يأخذ به وبمفاده أحد من أئمة الفقه وضربوا عنه صفحا لتفرد معاوية بروايته وهو لا يؤتمن على حديثه.
    هذا موقفه مع السنة التي اتخذها هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله على قلتها ، فما ظنك بالكثير الذي لم يبلغه منها.
    6 ـ عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية وكان قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا. المسند 4 : 99.
    وقد جاء كما يأتي في الجزء الحادي عشر من كتاب له كتبه إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام : وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل و أحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار.
    قال الأميني : هل هذان الحديثان اللذان رواهما معاوية حجة له أو عليه ؟ والحقيقة جلية لا يخفيها ستار ، فإنك جد عليم بالذي باء بإثم تلكم الدماء المهراقة منذ يوم صفين ، وبعده ريثما تتاح له الفرص مع مهب الريح ، وتحت كل حجر ومدر ، وعلى الروابي والثنيات ، وعدد الرمل والحصى ، عند كل هاتيك دم مسفوك ، ونفس مزهقة ، وأوصال مفصولة ، وحرمات مهتوكة وهل شيء من تلكم البوائق يباح بآية من الكتاب ؟ أو يبرر بسنة صحيحة ؟ أو يحبذ بشيء من معاقد إجماع المسلمين ؟ وهل هناك قياس ينتهي إلى شيء من هذه المبادئ الاجتهادية ؟ وهل معاوية يحسن شيئا منها أو يتقنها ؟ : وأين وأنى له الرأي والاجتهاد ؟ أو هو مجرم جاهل ، وباغ


(358)
ظلوم ، وثان الخليفتين اللذين بويعا في عهد ، فيجب قتال هذا ، وقتل ذاك ، بالنصوص النبوية ، فلا يرقب فيه إل ولا ذمة ، فلا ذمة لمهدور الدم ، ولا حرمة لمن يجب إعدامه في الشريعة ، أين هو والخلافة ؟ حتى يستبيح الدماء الزاكية دون شهواته ومطامعه ، وهل تدري أي دماء سفكها ؟ وأي حرمات انتهكها ؟ نعم : اقترف بها إراقة دماء المهاجرين والأنصار من الصحابة العدول والتابعين لهم بإحسان ، وباء بإثم دماء البدريين ومئات من أهل بيعة الشجرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وفيهم مثل عمار الذي قتلته الفئة الباغية ـ فئة معاوية ـ ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وثابت بن عبيد الأنصاري ، وأبي الهيثم مالك بن التيهان ، وأبي عمرة بشر الأنصاري ، وأبي فضالة الأنصاري كل هؤلاء من البدريين ، وفيهم حجر بن عدي راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وثم البطل المجاهد مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، والعابد الصالح محمد بن أبي بكر.
    وقبل هذه كلها استبشاره بدم الإمام المقدس الخليفة عليه وعلى الأمة جمعاء مولانا أمير المؤمنين ، وسروره بذلك ، وعده ذلك من لطيف صنع الله.
    وما ظنك بمجرم يكون عنده دم الإمام السبط الزكي أبي محمد الحسن عليه السلام بدس السم إليه ؟! وقد استبشر لما باء بإثمه ، وناء بجرمه ، فسيؤاخذ بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه كلها.
    7 ـ من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعا : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. المسند للإمام أحمد 4 : 96.
    قال الأميني : هاهنا نسائل أنصار معاوية وأوداءه عن أن أي موتة مات هو بها ، وعن أي إمام مات وعلى عنقه بيعته ؟ ومن الذي اخترم الرجل وقد طوقته ولايته ؟ وهل كان هناك إمام يجب طاعته وبيعته بالنص والاجماع غير مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بارزه وكاشفه ؟ وألقح دون مناوئته الحرب الزبون ، ونازعه في أمر الخلافة ، وخلع ربقة الاسلام من عنقه ، أو يوم استبشر بقتل الإمام عليه السلام وهي الطامة الكبرى ؟ و المصاب بها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله.
    أو يوم افتجعت به الصديقة الكبرى فاطمة بشظية قلبها الإمام السبط المجتبى بسم من معاوية مدسوس إليه ؟ فهل بايعه يومئذ وهو خليفة


(359)
الوقت بالجدارة والنص وإجماع لا يستهان به من بقايا رجال الحل والعقد ؟ أو إنه ناوئه في الأمر وغدر به وكاده ؟ لما ظهر من أجناده الخور والفشل ، وقلبوا على إمام الحق ظهر المجن ، وحدت بهم المطامع والميول إلى أن يسلموه لمعاوية إن قامت الحرب على أشدها ، فالتجأ الإمام إلى الصلح صونا لدماء شيعته ، وإبقاء على حياة ذوية.
    فهل كان معاوية طيلة هذه المدد في ذكر من روايته هذه ؟ وهل علم أنه طوى تلكم السنين وليس في عنقه بيعة لإمام ؟ وإنه لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة ؟ (1) وإنه إن مات والحالة هذه مات ميتة جاهلية ؟ أو إنه كان يرى من فقهه استثناءه من هذه الكلية التي لم يستثن منا الرسول صلى الله عليه وآله أحدا ؟ أو إن جهله بالأحكام وبنفسه كان يطمعه في أن يكون هو الخليفة المبايع له ، والمطاع بأمر الله ورسوله ؟ وهيهات له ذلك ، وهو طليق ابن طليق ، ولم يؤهله لها علم ولا حنكة ، ولا نص ولا إجماع ، إلا شره منهم ، وطمع زائغ ، وحلوم مطاشة ، أو أن الرجل كان لم يكترث لأن يموت ميتة جاهلية على ولاية سواع وهبل ؟

    لفت نظر :
    إن حديث معاوية : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5 : 218 ، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 259 من طريق عبد الله ابن عمر وزاد : ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له.
    وهذا الحديث معتضد بألفاظ أخرى من طرق شتى منها : قوله صلى الله عليه وآله : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
    أخرجه مسلم في صحيحه 6 : 22 ، والبيهقي في سننه 8 : 156 ، وابن كثير في تفسيره 1 : 517 ، والحافظ الهيثمي في المجمع 5 : 218 ، واستدل بهذا اللفظ شاه ولي الله في إزالة الخفاء 1 ص 3 على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوبا كفائيا.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهلية.
    أخرجه أحمد في مسنده 3 : 446 ، والهيثمي في المجمع 5 : 223.
1 ـ المحلى لابن حزم 9 : 359.

(360)
    وقوله صلى الله عليه وآله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
    ذكره التفتازاني في شرح المقاصد 2 : 275 وجعله لدة قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في المفاد.
    وبهذا اللفظ ذكره التفتازاني أيضا في شرح عقائد النسفي المطبوع سنة 1302 غير أن يد الطبع الأمينة على ودايع العلم والدين حرفت من الكتاب في طبع سنة 1313 سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث.
    وحكاه الشيخ علي القاري صاحب المرقاة في خاتمة الجواهر المضية 2 : 509 ، وقال في ص 457 : وقوله عليه السلام في صحيح مسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
    معناه : من لم يعرف من يجب عليه الاقتداء والاهتداء به في أوانه.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية.
    أخرجه مسلم في صحيحه 6 : 21 ، والبيهقي في سننه 8 : 156 ، وذكر في تيسير الوصول 3 : 39 نقلا عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية.
    أخرجه مسلم في صحيحه 6 : 21.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية.
    ذكره أبو جعفر الاسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانية للجاحظ ص 29 ، و ذكره الهيثمي في المجمع 5 : 224 ، 225 بلفظ : من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية.
    وبلفظ : من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من مات وليس لإمام جماعة عليه طاعة مات ميتة جاهلية.
    أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5 : 219.
    وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر ، فإن من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات مات ميتة الجاهلية.
    شرح السير الكبير 1 : 113.
    هذه حقيقة راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها ، ولا يتم إسلام مسلم إلا بالنزول لمؤداها ، ولم يختلف في ذلك اثنان ، ولا إن أحدا خالجه في ذلك شك ، وهذا التعبير ينم عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وإنه في منتئى عن أي
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس