الغدير ـ الجزء العاشر ::: 341 ـ 350
(341)
الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة شيخها الصالح وزعيمها المبرور ، وفضائحه من قتل الأبرياء والدخول على حليلة الموئود غيلة وخدعة (1) ويعذر به ابن ملجم (2) المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم على ما انتهكه من حرمة الاسلام ، وقتل خليفة الحق وإمام الهدى في محراب طاعة الله الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتى نواحيه ، واحتفت به النفسيات الكريمة جمعاء ، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ما قاله من كثير طيب عداه الحصر ، وكبى عنه الاستقصاء ، و هو قبل هذه كلها نفس النبي الطاهرة في الذكر الحكيم.
    قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب : أهل السير لا تدافع عنهم أن عليا أمر بقتل قاتله قصاصا ونهى أن يمثل به ، ولا خلاف بين أحد من الأمة أن ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه على صواب وفي ذلك يقول عمروا بن حطان :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إني أفكر فيه ثم أحسبه إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا أوفى البرية عند الله ميزانا
سنن البيهقي 8 : 58 ، 59.
    ويبرر به عمل أبي الغادية (3) الفزاري قاتل عمار الممدوح على لسان الله ولسان رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن الصحيح الثابت قوله صلى الله عليه وآله له : تقتلك الفئة الباغية.
    وقد مر في ج 9 ص 21 ويبرأ به ساحة عمرو بن العاصي (4) عن وصمة مكيدة التحكيم وقد خان فيها أمة محمد صلى الله عليه وآله وكسر شوكتها وقد قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيه وفي صاحبه ـ الشيخ المخرف :
    ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه ، بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ، ولا سنة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله
1 ـ راجع الجزء السابع ص 156 ـ 168 ط 1.
2 ـ راجع الجزء الأول ص 323 ط 2.
3 ـ راجع الجزء الخامس ص 328 ط 2.
4 ـ راجع تاريخ ابن كثير 7 : 283.


(342)
منهما ورسوله وصالح المؤمنين.
    ويحبذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية (1) من البوائق والطامات من استئصال شأفة النبوة وقتل ذراريها ، وسبي عقائلها ، التى لم تبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلا أن يلعنه ويتبرأ منه.
    ويقدس به أذيال المتقاعدين (2) عن بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له ، فماتوا ميتة جاهلية ولم يعرفوا إمام زمانهم.
    وينزه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة في الجزء 6 ، 7 ، 8 ، 9 بأعذار عنهم لا تقل في الشناعة عن جرائرهم. إلى أمثال هذه مما لا يحصى.
    نعم : هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد ، فلا يصاخ إلى مفعوله ، لوقوف الميول والشهوات سدا دون ذلك ، فلا يدرء به التهمة عن المؤلبين على عثمان وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار ، وأعيان المجتهدين ، الذين أخذوا الكتاب والسنة من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله ، فهم عند ابن حزم المبرر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم : فساق ملعونون محاربون سافكون دما حراما عمدا (3) وعند ابن تيمية : قوم خوارج مفسدون في الأرض ، لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة ، وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون (4) وعند ابن كثير : أجلاف أخلاط من الناس ، لا شك أنهم من جملة المفسدين في الأرض ، بغاة خارجون على الإمام ، جهلة متعنتون خونة ظلمة مفترون (5) وعند ابن حجر : بغاة كاذبون ملعونون معترضون لا فهم لهم بل ولا عقل (6).
    ولو كان للاجتهاد منتوج مقرر فلم لم يتبع في إرجاء أمير المؤمنين عليه السلام أمر المتهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنة
1 ـ راجع تاريخ ابن كثير 8 : 223 ، ج 13 : 10 فيه قول أبي الخير القزويني : إنه إمام مجتهد.
2 ـ راجع مستدرك الحاكم ج 3 : 115 ـ 118.
3 ـ الفصل لابن حزم 4 : 161.
4 ـ منهاج السنة 3 : 189 ، 206.
5 ـ تاريخ ابن كثير 7 : 176 ، 186 ، 187.
6 ـ الصواعق المحرقة ص 67 ، 68 ، 129.


(343)
فشنت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفين وكان من ذيولها وقعة الحروريين ، فلم يتبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبي ، وأقضى الأمة بنص من الصادق المصدق ، لكنما اتبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله بن عمر في قتله لهرمزان و بنت أبي لؤلؤة وإهدار ذلك الدم المحرم من غير أي حجة قاطعة أو برهنة صحيحة ، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من ـ المتجمهرين على عثمان ؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه البات ، أيعطي دية المقتول من بيت المال لأنه أودي به بين جمهرة المسلمين لا يعرف قاتله كما فعله في أربد الفزاري (1) أو أنه يراهم من المجتهدين ( وكانوا كذلك ) الذين تأولوا أصابوا أو أخطأوا ، أو أنه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات ، وما هنالك من إرجاف وتعكير يقلقان السلام والوئام ، حتى يتمكن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقة المشروعة ، فعلى أي من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمام عليه السلام به فلا حرج عليه ولا تثريب ، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه أبى للقوم إلا أن يتبع الحق أهوائهم ، وماذا نقموا عليه صلوات الله عليه من تلكم المحتملات ! حتى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرائها تطايرت الرؤس ، وتساقطت الأيدي ، وأرهقت نفوس بريئة ، وأريقت دماء محترمة ، فبأي اجتهاد بادروا إلى الفرقة ، وتحملوا أوزارها ، ولم تتجل لهم حقيقة الأمر ولباب الحق ، لكنهم ابتغوا الفتنة ، وقلبوا له الأمور ، ألا في الفتنة سقطوا.
    ومن أعجب ما يترائى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية : إنه يبيح سب علي أمير المؤمنين عليه السلام وسب كل صحابي احتذى مثاله ، ويجوز لأي أحد كيف شاء وأراد لعنهم ، والوقيعة فيهم ، والنيل منهم ، في خطب الصلوات ، والجمعات ، والجماعات ، و على صهوات المنابر ، والقنوت بها ، والاعلان بذلك في الأندية والمجتمعات ، والخلا والملا ، ولا يلحق لفاعلها ذم ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ ، وإن كان هو من حثالة الناس ، وسفلة الأعراب ، وبقايا الأحزاب ، البعداء عن العلوم والمعارف.
    وأما علي وشيعته فلا حق لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم ، والوقيعة في خصمائهم ،
1 ـ راجع كتاب صفين ص 106 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 279.

(344)
ومبلغ إسفافهم إلى هوة الضلالة على حد قوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (1) وليس لأحدهم في الاجتهاد في ذلك كله نصيب ، ولو كان ضليعا في العلوم كلها ، فإن أحد منهم نال من إنسان من أولئك الظالمين فمن الحق ضربه وتأديبه ، أو تعذيبه وإقصاءه ، أو التنكيل به وقتله ، ولا يأبه باجتهاده المؤدي إلى ذلك صوابا أو خطأ ، وعلى هذا عمل القوم منذ أول يوم اسس أساس الظلم والجور ، وهلم جرا حتى اليوم الحاضر راجع معاجم السيرة والتاريخ فإنها نعم الحكم الفصل ، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق ص 132 قال في لعن معاوية : وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فله فيه أسوة ، أي أسوة بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة ، فلا يلتفت لذلك ، ولا يعول عليه ، فإنه لم يصدر إلا من قوم حمقى جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم في أي واد هلكوا ، فلعنهم الله وخذ لهم ، أقبح اللعنة والخذلان ، وأقام على رؤسهم من سيوف أهل السنة ، وفي حججهم المؤيدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة الأعيان. إنتهى.
    أتعلم من لعن ابن حجر ؟ وإلى من تتوجه هذه القوارص ؟ انظر إلى حديث لعن رسول الله صلى الله عليه وآله معاوية ، وأحاديث لعن علي أمير المؤمنين ، وقنوته بذلك في صلواته ، و لعن ابن عباس وعمار ومحمد بن أبي بكر ، ودعاء أم المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة ، و آخرين من الصحابة ، إقرأوا حكم.

الاجتهاد ماذا هو ؟
    ومما يجب أن يبحث عنه في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد الذي توسعوا فيه حتى سفكت الدماء من أجله وأبيحت ، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم ، وغيرت الأحكام من جرائه ، وكاد أن يكون توسعهم فيه أن يرد الشريعة بدءا إلى عقب ، ويفصم عروة الدين ، ويقطع حبله.
    ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمنة لتبديل السنن المتبعة التي لا تبديل لها ؟ وهل هو من منح الله سبحانه على رعاء الناس ودهمائهم ، فيتقحمونه كيف شاء لهم الهوى ؟
1 ـ سورة النساء : 148.

(345)
أو أن له أصولا متبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنة ، أو تأول صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النص ، أو أنه اتسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزى إليه كل أرنب ، وثعلب ، وتحراه كل بوال على عقبيه أو أعرابي جلف جاف ؟ أنا لا أكاد أن أسوغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد.
    وإنما المتسالم عليه بينهم ما يلي : قال الآمدي في [ الإحكام في أصول الأحكام ] 4 : 218 : أما الاجتهاد ، فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ، ولهذا يقال : إجتهد فلان في حمل حجر البزارة ، ولا يقال : إجتهد في حمل خردلة.
    وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
    وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد ، وله شرطان : الشرط الأول : أن يعلم وجود الرب تعالى : وما يجب له من الصفات ، ويستحقه من الكمالات ، وأنه واجب الوجود لذاته ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، حتى يتصور منه التكليف ؟ وأن يكون مصدقا بالرسول ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات ، والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محققا ، ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام ، متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين ، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصل ، بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه ، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول ، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل.
    الشرط الثاني : أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها ، وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها ، والشروط المعتبرة فيها ، على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها ، وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها ، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها ، وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل ، والصحيح والسقيم ، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وأن يكون عارفا بأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكامية ، عالما باللغة والنحو ، ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي ، وفي النحو


(346)
كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات ، بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة ، والتضمين ، والالتزام ، والمفرد والمركب ، والكلي منها والجزئي ، والحقيقة والمجاز ، والتواطئ والاشتراك ، والترادف والتباين ، والنص والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة ، والتنبيه والايماء ، ونحو ذلك مما فصلناه. ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله.
    وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة ، وما لا بد منه فيها ، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها ، مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية ، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة ، بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها ، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها ، لا أدري.
    وأما ما فيه الاجتهاد : فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيا.
    فقولنا ( من الأحكام الشرعية ) تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها.
    وقولنا ( دليله ظنيا ) تمييز له عما كان دليله منها قطعيا ، كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها ، لأن المخطئ فيها يعد آثما ، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده آثما.
    وقال الشاطبي في الموافقات 4 : 89 ما ملخصه : الاجتهاد على ضربين : الأول : الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله.
    فلا بد من هذه الاجتهاد في كل زمان ، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال ، وهو غير ممكن شرعا ، كما إنه غير ممكن عقلا.


(347)
    وأما الضرب الثاني : وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع : أحدها المسمى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى.
    الثاني المسمى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط ، فكأنه أخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي.
    الثالث : وهو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان : أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص ، كتعين نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك.
    والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه ، فكأن المناط على قسمين : تحقيق عام ، وهو ما ذكر. وتحقيق خاص من ذلك العام.
    إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
    والثاني : التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
    أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح ، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والاضافات ، واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الانسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
    وأما الثاني : فهو كالخادم للأول ، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ، ومن هنا كان خادما للأول ، وفي استنباط الأحكام ثانيا ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط.
    فلذلك جعل شرطا ثانيا ، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة.
    هذا هو الاجتهاد عند الأصوليين وأما الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على رد الفرع إلى الأصل ، واستنباطه منه ، والتمكن من دفع ما يعترض المقام من نقد ورد ، وإبرام ونقض ، وشبه وأوهام.


(348)
    قال الآمدي في الأحكام 1 : 7 : الفقه في عرف المتشرعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.
    وقال ابن نجيم في البحر الرائق 1 : 3 : الفقه اصطلاحا على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعا للأصوليين : العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية بالاستدلال.
    وفي الحاوي القدسي : إعلم أن معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع ، وفي الشريعة الوقوف الخاص وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها ، ودلالاتها ، ومضمراتها ، و مقتضياتها ، والفقيه اسم للواقف عليها.
    وقال : الفقه قوة تصحيح المنقول ، وترجيح المعقول ، فالحاصل : إن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها ، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم.
    وأما استمداده فمن الأصول الأربعة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة ، وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب ، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة ، وأما تعامل الناس فتابع للاجماع ، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس ، وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين.
    وقال ابن عابدين في حاشية البحر 1 : 3 : في تحرير الدلالات السمعية لعلي بن محمد بن أحمد بن مسعود نقلا عن التنقيح : الفقه لغة هو الفهم والعلم ، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال.
    وقال ابن قاسم الغزي في الشرح 1 : 18 : الفقه هو لغة الفهم ، واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
    وقال ابن رشد في مقدمة المدونة الكبرى ص 8 : فصل الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع ، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه : أحدها كتاب الله عزوجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
    والثاني : سنة نبيه عليه السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته ، وأمرنا باتباع سنته فقال عزوجل : وأطيعوا الله والرسول.
    وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله.
    وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
    وقال : واذكرن ما يتلى في بيوتكن.
    من آيات الله والحكمة. والحكمة


(349)
السنة. وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. والثالث : الإجماع الذي دل تعالى على صحته بقوله : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين فوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.
    لأنه عزوجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين ، فكان ذلك أمرا واجبا باتباع سبيلهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا تجتمع أمتي على ضلالة.
    والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول والثلاثة التي هي الكتاب والسنة والاجماع ، لأن الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علما ، وأوجب الحكم به فرضا ، فقال عزوجل : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقال عزوجل : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله.
    أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس ، لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول : وأن احكم بينهم بما أنزل الله.

نظرة في اجتهاد معاوية
    هاهنا حق علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية ، ونناقش القائلين به في أعماله ، أفهل كانت على شيء من النواميس الأربعة : الكتاب. السنة. الإجماع. القياس ؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب ؟ وعند من درسه ؟ ومتى زاوله ؟ وقد كان عهده به منذ عامين (1) قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهل كان يميز بين محكماته ومتشابهاته ؟ أو يفرق بين مجمله ومبينه ؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه ؟ أو أحاط خبرا بمطلقه ومقيده ؟ أو عرف شيئا من ناسخه ومنسوخه ، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة ، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه ؟!.
    إن ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئا من ذلك ، على حين إنها تستدعي فراغا كثيرا لا يتصرم بالسنين الطوال فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم ( الوثنية ) وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد ( الاسلام ) فأذهب عنه هاتيك ، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيلته ، ويتبوأ في دماغه.
1 ـ هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح كما في الاستيعاب ، وكان ذلك في أخريات السنة الثامن الهجرة ، ووفاة النبي صلى الله عليه وآله في أوليات سنة 11.

(350)
    وكان قد سبقه جماعة إلى الاسلام وكتابه ، وهم بين حكم النبي ومحكماته وإفاضاته وتعاليمه ، وهم لا يبارحون منتديات النبوة وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت ، قضوا على ذلك أعواما متعاقبة ومددا كثيرة فلم يتسن لهم الحصول على أكثر تلكم المبادي وانكفؤا عنها صفر الأكف ، خاوين الوطاب ، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنى عشرة سنة ، حتى إذا تمكن من الحفظ بعد ذلك الأجل المذكور نحر جزورا شكرا على ما أتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبارة ، والله يعلم ما عاناه طيلة تلكم المدة من عناء ومشقة ، وهذا الرجل ثان الأمة عند القوم في العلم والفضيلة ، وكان من علمه بالكتاب إنه لم يع تنصيصه على موت النبي صلى الله عليه وآله فلما سمع قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون.
    ألقى السيف من يده ، وسكنت فورته ، وأيقن بوفاته صلى الله عليه وآله كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه ، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه قضيت منها العجب ، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه ، وماذا الذي كان يلهيه عن الخبرة بأصول الاسلام وكتابه ؟ ولئن راجعت فيما يؤل إلى هذا الموقف ( الجزء السادس ) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب.
    وليس من البعيد عنه أول رجل في الاسلام عند القوم الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادي والخواتيم والأشكال والنتايج حدا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديين منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوة منذ بذوغها ، ولعلك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب ما يلمسك باليد يسيرا من هذه الحقايق.
    وأنت إذن في غنى عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأولين الذين لا تعزب عنك أنبائهم في الفقه والحديث والكتاب والسنة ، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أخريات أيامهم ؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنية ، متهالك في الظلم والعدوان ، متفان في عادات الجاهلية ، ترف عليه رايات العهارة وأعلام البغاء ، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه ، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجس بها منذ آباءه الأولين.
    نعم : المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون ، وكانوا مراجع الأمة في مشكلات القرآن ومغازيه وتنزيله وتأويله كعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن ـ العباس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس