الغدير ـ الجزء العاشر ::: 331 ـ 340
(331)
كل منهما ثاني الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص الصحيحة الثابتة (1) فهل هناك خليفة على المسلمين يجب إعدامه ؟.

مناظرات وكلم
    1 ـ قال أبو عمر في الاستيعاب (2) كان عبد الرحمن بن غنم ـ الصحابي ـ من أفقه أهل الشام وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذا انصرفا من عند علي رضي الله عنه رسولين لمعاوية ، وكان مما قال لهما : عجبا منكما ، كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوان عليا إلى أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق ، وإن من رضيه خير ممن كرهه ، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه ؟ وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ؟ وهو أبوه من رؤوس الأحزاب. فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه رحمة الله عليهم.
    2 ـ خرج رجل من أهل الشام ـ يوم صفين ـ ينادي بين الصفين : يا أبا الحسن ! يا علي أبرز إلي.
    فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتهما بين الصفين فقال : يا علي إن لك قدما في الاسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك ؟ فقال له علي : وما ذاك ؟ قال : ترجع إلى عراقك ، فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا.
    فقال له علي : لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم (3).
    3 ـ قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة : يا جعدة ! إنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام ، لرضا أهلها به.
1 ـ ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري ج 2 : 402 ، أسد الغابة 3 : 318.
2 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 542 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 183.
3 ـ راجع ما مر في هذا الجزء.


(332)
فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد علي في الحرب ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.
    فقال جعدة : أما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان ، وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل ، وأما قولك : إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجد من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينه ، وقصر بمعاوية شكه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل. الحديث. كتاب صفين ص 529 ط مصر ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 301.
    4 ـ من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين : إن معاوية ادعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ، ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزين لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حب الفتنة ، ولبس عليهم الأمر ، وزادهم رجسا إلى رجسهم.
    تاريخ الطبري 6 : 9 ، كتاب صفين لابن مزاحم ص 263 ، كامل ابن الأثير 3 : 128 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 483.
    5 ـ من كلمة لعبد الله أيضا يخاطب بها أمير المؤمنين عليه السلام : يا أمير المؤمنين ! إن القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين ! بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.
    ثم التفت إلى الناس فقال : كيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ؟ والله ما أظن أن يفعلوا.
    6 ـ من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي بصفين : إن هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلا لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا. إلى آخر ما مر في ص 59.
    7 ـ من كتاب لسعد بن أبي وقاص إلى معاوية :


(333)
    أما بعد : فإن أهل الشورى ليس منهم أحد أحق بها من صاحبه ، غير أن عليا كان من السابقة ، ولم يكن فينا ما فيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقنا كلنا بالخلافة ، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدره ، وقد علمنا أنه أحق بها منا ، ولكن لم يكن بد من الكلام في ذلك والتشاجر ، فدع ذا وأما أمرك يا معاوية ! فإنه أمر كرهنا أوله وآخره ، وأما طلحة ، والزبير فلو لزما بيعتهما لكان خيرا لهما ، والله تعالى يغفر لعائشة أم المؤمنين ( الإمامة والسياسة 1 : 86 ).
    8 ـ من كتاب لمحمد بن مسلمة إلى معاوية : ولعمري يا معاوية ! ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميتا ، لقد خذلته حيا ، ونحن ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب.
    الإمامة والسياسة 1 : 87.
    إلى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا.
    قال الأميني : هذه كلمات تامات ممن كانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله ، وقد عرفوا نفسياته ومغازيه منذ عرفوه وثنيا ومستسلما حتى وقفوا عليه من كثب ، وقد تعالى به الوقت بل تسافل حتى طفق يطمع مثله في الخلافة الإسلامية ، وبينهما ذاك البون الشاسع ، وخلال الفضل التي تخلى عنها ، والملكات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أكفأته عنها بخفي حنين ، وهؤلاء وإن اختلفت كلماتهم لكنها ترمي إلى مغزى واحد من عدم كفائة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين ، أو ما يتحراه من حكومة الشام خلافة مختذلة عن الخلافة الإسلامية الكبرى المنعقدة لأهلها يومئذ أو إنه لا يتحرى إلا إمرة مغتصبة وما لها من مفعول أثرة وثراء ، أو إنه منبعث عن ضغائن وإحن مما أصاب أهله وذويه من الإمام عليه السلام فقتلو تقتيلا تحت راية الأوثان وظهر أمر الله وهم كارهون.
    ولم يكن لمعاوية وأصحابه مرمى غير الإسفاف إلى هذه الهوات السحيقة مما خفي على هؤلاء الحضور ، واستكشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني ، الحاملون ولاء ذلك البيت الساقط ، وأنت ترى أنه لا يقام في سوق الدين لشيء منها أي قيمة ، ولا


(334)
تكون لها أي عبرة ، فدحضا لدعوة الباطل ، وسحقا لشره الاستعباد.
    وكان ابن هند الجاهل بنفسه ـ والانسان على نفسه بصيرة ـ برى نفسه أحق بالخلافة من عمر كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر قال : دخلت على حفصة ونسوانها تنطف قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيئ.
    فقالت : إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة.
    فلم تدعه حتى ذهب.
    فلما تفرق الناس خطب معاوية (2) قال : من يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن أبيه.
    قال خبيب بن مسلمة فهلا أجبته ؟ قال عبد الله : فحللت حبوتي وهممت أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الاسلام.
    فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان.
    قال خبيب : حفظت وعصمت ؟ أين كان ابن عمر عن هذه العقلية التي حفظ بها وعصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحق بعد إجماع الأمة المسلمة عليها ، ولم يخش أن يقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ؟ ففرق الجمع ، وشق عصا المسلمين ، وسفكت دماء زكية ، والله من ورائهم حسيب.
    ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخاة لمعاوية بل ينبأنا التاريخ عن إنه لم يك يتحاشا عن أن يعرفه الناس بالرسالة ويقبلونه نبيا بعد نبي العظمة ، روى ابن جرير الطبري بالإسناد : إن عمرو بن العاص أوفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو : انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا سلموا عليه بالخلافة فإنه أعظم لكم في عينه ، وصغروه ما استطعتم ، فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه : إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف ، فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له : ابن الخياط.
    فدخل وقد تعتع فقال : السلام عليك يا رسول الله !
1 ـ في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ج 6 : 141.
2 ـ قال ابن الجوزي : كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده. راجع فتح الباري 7 : 323.


(335)
فتتابع القوم على ذلك ، فلما خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة (1).
    ولعل هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممن تولى معاوية بعد وفاته.
    قال شمس الدين النياء المقدسي (2) في كتاب ( أحسن التقاسيم في معرفة الأقالم ) ص 399 : وفي أهل اصفهان بله وغلو في معاوية ووصف لي رجل بالزهد والتعبد فقصدته وتركت القافلة خلفي وبت عنده تلك الليلة وجعلت أسائله إلى أن قلت : ما قولك في ( الصاحب ) (3) فجعل يلعنه ثم قال : إنه أتانا بمذهب لا نعرفه.
    قلت وما هو ؟ قال : يقول : معاوية لم يكن مرسلا : قلت : وما تقول أنت ؟ قال : أقول كما قال الله عزوجل : لا نفرق بين أحد من رسله ، أبو بكر كان مرسلا ، وعمر كان مرسلا ، حتى ذكر الأربعة ثم قال : ومعاوية كان مرسلا.
    قلت : لا تفعل ، أما الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكا.
    فجعل يشنع علي وأصبح يقول للناس : هذا رجل رافضي فلو لم تدرك القافلة لبطشوا بي ، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة.
    هب إن القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون لكن هذا الذي يدعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلا كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور ؟ أو يسكن روعتهم فيرجعوا إلى حق المقام لولا أن معاوية لم يكن له في مبوأه ذلك ضالة إلا الحصول أعلى الملوكية الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة ؟ لأنه لا يبلغ أمنيته إلا بها فلا يبالي أسلم عليه بالربوبية أو الرسالة أو إمرة المؤمنين وقد حاول إرغام ابن النابغة فيما توسمه منه في مقتبله ذلك ، فبلغ ما أراد فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الأمر أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.
    يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل ، ولم يشنع على من يسلم عليه بالرسالة ، غير أنه لم يرقه أن يذكر نبي الاسلام بالرسالة ، ويزريه بذكر اسمه وهو يعلم أن
1 ـ راجع تاريخ الطبري 6 : 184 ، تاريخ ابن كثير 8 : 140.
2 ـ أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة 336 ، والمتوفى نحو 380.
3 ـ هو الوزير الشيعي الوحيد الصاحب بن عباد المترجم له في الجزء الرابع ص 42 ط 2.


(336)
العظمة لا تفارقه ، والرسالة تلازمه ، ذكر الحفاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (1) أن معاوية قال : أرأيت هاشما ؟ قال : نعم والله طوالا حسن الوجه يقال : إن بين عينيه بركة.
    قال : فهل رأيت أمية ؟ قال نعم رأيته رجلا قصيرا أعمى يقال : إن في وجهه شرا أو شؤما.
    قال : أفرأيت محمدا ؟ قال : ومن محمد ؟ قال : رسول الله.
    قال : أفلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله ؟ (2)

التحكيم لماذا ؟
    إن آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدء الأمر ، وإن تستر بها آونة على الأغبياء ، وتترس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى حين سولت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس ، فأول تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان ، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يدعوهم ـ منذ أول ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند ، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة ـ (3) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعد ومحكمات القرآن ونصوصه ، لولا أن ابن النابغة وصاحبه يسيران على الأمة غدرا ومكرا ، وعلى إمام الحق خيانة وظلما ، غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة ، ومظاهر العدوان ، بين دهاء ابن العاصي وحمارية الأشعري ، بين قول أبي موسى لابن العاصي : لا وفقك الله غدرت وفجرت ، (4) إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى : وإنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا (5) فوئد الحق ، وأودي بالحقيقة ، بين شيطان
1 ـ أحد المعمرين قد أتى عليه من السن يوم استقدمه معاوية ستون وثلثمائة سنة ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ، ومترجمو الصحابة ، في معاجمهم.
2 ـ تاريخ ابن عساكر 3 : 103 ، أسد الغابة 1 : 115.
3 ـ راجع ما أسلفناه في هذا الجزء صفحة 276.
4 ـ وفي لفظ ابن قتيبة : مالك ؟ عليك لعنة الله ، ما أنت إلا كمثل الكلب. وفي لفظ ابن عبد ربه : لعنك الله ، فإن مثلك كمثل الكلب.
5 ـ الإمامة والسياسة 1 : 115 ، كتاب صفين ص 628 ط مصر ، العقد الفريد 2 : 291 ، تاريخ الطبري 6 : 40 ، مروج الذهب 2 : 22 ، كامل الأثير 3 : 144 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 198.


(337)
وغبي ، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين ! إن الخلافة هي المتوخاة لكل منهما ، ولذلك انعقد التحكيم ، وبه كان يلهج خطباء العراق وأمرائهم عند النصح للأشعري ، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحق ، وبلج الاصلاح.
    فمن قول ابن عباس للأشعري : إنه قد ضم إليك داهية العرب : وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة ، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك ، واعلم يا أبا موسى ! أن معاوية طليق الاسلام ، وإن أباه رأس الأحزاب ، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق ، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ، ويوجره (1) ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة ، واعلم : أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبا يسوءك ، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وأنها بيعة هدى ، وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين. [ شرح ابن أبي الحديد 1 : 195 ] ومن قول الأحنف بن قيس له : ادع القوم إلى طاعة علي.
    فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبوا ، ويختار من قريش الشام من أحبوا (2).
    ومن قول شريح بن هانئ للأشعري : إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي ، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقا ، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا ، والرجاء منك يأسا ، ثم قال :
أبا موسى رميت بشر خصم واعط الحق شامهم وخذه وإن غدا يجئ بما عليه فلا تضع العراق فدتك نفسي فإن اليوم في مهل كأمس كذاك الدهر من سعد ونحس

1 ـ وجره الدواء أو جره إياه : جعله في فيه. أوجره الرمح ، طعنه. ووجره : أسمعه ما يكره.
2 ـ الإمامة والسياسة 1 : 99 ، وفي ط 112 ، نهاية الإرب 7 : 239 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 196.


(338)
ولا يخدعك عمرو إن عمرا لـه خـدع يحار العقل منها فـلا تجعل معاوية بن حرب هـداه الله للاسـلام فـردا عدو الله مطـلع كل شمس ممـوهة مزخـرفة بلبس كشـيخ في الحوادث غير نكس سوى عرس النبي ، وأي عرس؟ (1)
    ومن قول معاوية لعمرو بن العاص : إن خوفك العراق فخوفه بالشام ، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن ، وإن خوفك عليا فخوفه بمعاوية.
    ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية : أرأيت إن ذكر عليا وجاءنا بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ، ما أقول ؟ فقال معاوية : قال ما تريد وترى. [ الإمامة والسياسة 1 : 99 ، وفي ط 113 ].
    قال الأميني : هذه صفة الحال ، ومصاص الحقيقة ، ومن نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب كل منهما الخلافة ، وإثباتها لصاحبه ، ودونه تحقق الخلع والتثبيت ، وعليه وقع التحكيم حقا أو باطلا ، ولم يكن السامع يجد هنالك قط من دم عثمان ركزا ، ولا عن ثاراته ذكرا ، وإنما تطامنت النفوس على تحري الخلافة فحسب ، و لقصر النزاع على الخلافة محيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمام عليه السلام عن صحيفة الصلح.
    فلقد تمخضت لك صورة الواقع من أمنية معاوية الباطلة في كل من هذه العناوين الستة المذكورة المدرجة تحت : 1 ـ حديث الوفود.
    2 ـ أنباء في طيات الكتب.
    3 ـ تصريح لا تلويح.
    4 ـ فكرة معاوية لها قدم.
    5 ـ مناظرات وكلم.
    6 ـ التحكيم لماذا.
1 ـ الإمامة والسياسة 1 : 99 ، وفي ط 113 ، كتاب صفين 614 ، 615 ط مصر ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 195.

(339)
    فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه البات بقصر النزاع بين الإمام عليه السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة ؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفا ضحية لشهواته ومطامعه ، وهو يحسب أنه لا يوافيه مناقش في الحساب ، أو ناظر إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان ، وكأنه لا يخجل إن جاثاه منقب ، أو واقفه مجادل ، كما أنه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة ، وأن الله سبحانه لبالمرصاد.
    ونختم البحث بكلمة الباقلاني ، قال في ( التمهيد ) ص 231 : إن عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز ، لأنه متعبد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه ، وقد يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد ، وذلك رأي كثير من الفقهاء ، وقد يكون ممن يرى ذلك ، ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثان ، فعقد الأمر له على ألا يقيم الحد إلا على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممن عقده ورضي به.
    وعلى أنه إذا ثبت أن عليا ممن يرى قتل الجماعة بالواحد ، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم ، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليهم ، ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنهم بغاة عليه ، وممن لا يجب استخراج حق لهم ، دون أن يدخلوا في الطاعة ، ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن قتل قتلة عثمان لا يؤدي إلى هرج عظيم ، وفساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، وإن تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه ، وتقصي الحق فيه ، أولى وأصلح للأمة ، وألم لشعثهم ، وأنفى للفساد والتهمة عنهم.
    هذه أمور كلها تلزم الإمام في إقامة الحدود ، واستخراج الحقوق ، وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حد من حدود الله ، والعمل فيه برأي الرعية ، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط ، فوجب اطراح هذه الرواية (1) لو صحت ، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك لكان هذا
1 ـ يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم : بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان.

(340)
خطأ منهم ، غير أنه لم يكن بقادح في صحة إمامته ، لأن العقد له قد تقدم هذا العقد الثاني ، وهذه الشريطة لا معتبر بها ، لأن الغلط في هذا من الإمام الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. الكلام.
حجج داحضة
    استرسل ابن حجر في تدعيم ما منته به هواجسه اقتصاصا منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية ، والاعتذار عنه بما ركبه من الموبقات ، وتصحيح خلافته بإسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق ص 129 ـ 131 بما تنتهي خلاصة ما لفقه إلى أمرين : أحدهما القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية و نزاع مع خليفة الوقت ، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلفة (1) وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة ، وجماعة من البدريين (2) ولفيف من المهاجرين والأنصار ، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم بإحسان ، وهو يحسب أن شيئا من هذه التلفيقات يبرر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجلية من الكتاب والسنة ، وأن الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجا دون أن يلحقه أي حوب كبير ، وأسدل عليه ستارا عما اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبوية ، ولم يعلم أنه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهم أمام النص ، ويتهجم على أحكام الدين الباتة وطقوسه النهائية ، بلغ الرجل أن الاجتهاد جائز على الضد من اجتهاد المجتهدين وما تعقل أنه غير جائز على خلاف الله ورسوله.
    وقصارى القول إنه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به (3) ضابط للاجتهاد يتم طرده وعكسه ، وإنما يمطط مع الشهوات والأهواء ، فيعذر به خالد بن
1 ـ قال ابن مزاحم : أصيب بصفين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ، وأصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا. كتاب صفين ص 643 ، وذكره ابن كثير في تاريخه 7 : 274 وقال : قاله غير واحد ، وزاد أبو الحسن بن البراء : وكان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريا. وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن الشحنة في روضة المناظر هامش الكامل 3 : 191 ، وصاحب تاريخ الخميس في ج 2 : 277.
2 ـ راجع ما مر في الجزء التاسع ص 359 ط 1.
3 ـ نظراء الشيخ على القاري ، والخفاجي في شرحي الشفا 3 : 166.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس