الغدير ـ الجزء العاشر ::: 321 ـ 330
(321)
كله ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنت والفاضل والمفضول ؟ والسائس والمسوس ؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ؟ هيهات لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ، ألا تربع أيها الانسان ! على ظلعك ؟ وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخر حيث أخرك القدر ؟ فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر.
    ومنه قوله عليه السلام : وذكرت إنه ليس لي ولا صحابي عندك إلا السيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين ؟! ؟! فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل (1) فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت ، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ، وقد صحبتهم ذرية بدرية ، وسيوف هاشمية ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد.
    ولما نزل علي عليه السلام الرقة قالت له طائفة من أصحابه : يا أمير المؤمنين ! اكتب إلى معاوية ومن قبله من قومك ، فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما.
    فكتب إليهم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية ومن قبله من قريش : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول تكذبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه ، وإظهار أمره ، فدخلت العرب في الدين أفواجا ، وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها ، فكنتم فيمن دخل في هذا الدين إما رغبة أو رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم ، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في
1 ـ حمل ، هو حمل بن سعدانه الصحابي شهد صفين مع معاوية.

(322)
الدين ، ولا فضائلهم في الاسلام ، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به فيحوب ويظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ويعدو طوره ، ويشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله ، فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا أقربها من الرسول ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، أو لهم إسلاما ، وأفضلهم جهادا ، وأشدهم بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا ، فاتقوا الله الذي إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ، وأعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإن للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا ، ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وحقن دماء هذه الأمة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، واهتديتم لحظكم ، وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة ، لم يزدادوا من الله إلا بعدا ، ولا يزداد الرب عليكم إلا سخطا ، والسلام.
    راجع الإمامة والسياسة 1 : 20 ، 71 ، 72 ، 77 ، 78 ، كتاب صفين 34 ، 38 ، 58 ، 59 ، 62 ـ 65 ط مصر ، كامل المبرد 1 : 155 ، 157 ، العقد الفريد 2 : 233. وفي ط 284 ، نهج البلاغة 2 : 7 ، 8 ، 30 ، 35 ، 98 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 77 ، 136 ، 248 ، 252 و ج 3 : 300 ، 302 ، صبح الأعشى 1 : 229 ، نهاية الإرب 7 : 233. ومر بعض هذه الكتب بتمامه في هذا الجزء.
    قال الأميني : ألم تعلم أيها القارئ الكريم عقيب ما استشففت هذه الكتب المترددة بين إمام الحق ورجل السوء ( معاوية ) أنه حين يسر حسوا في ارتغاء محتجا بقتل عثمان تارة ، وبإيواء قاتليه تارة أخرى ، وبطلبه حقن الدماء كمن لا يبتغيه هو ، أنه كان لا يبتغي إلا الخلافة ؟ وأنه يعدو إليها ضابحا ، ويضحي دونها كل غال ورخيص ، ويهب دونها الولايات ، ويمنح تجاهها المنائح ، ويهب الرضائخ ، ويستهوي بها النفوس الخائرة ، ومهملجي نهمة الحاكمية ، ويستهين بيعة المهاجرين والأنصار ، وهم إلب واحد لبيعة إمام الهدى صلوات الله عليه ، ويحسبهم قد فارقوا الحق وخبطوا في العمى ، ويرجح كفة الشام على كفة عاصمة الاسلام ، وأهلوه هم الصحابة العدول من المهاجرين والأنصار ، على أنه ليس للطليق ابن الطليق أن يتدخل في شأن هم أثبتوا دعائمه ،


(323)
وشيدوا معالمه ، ومن الذي منحه النظر في أمر هذا شأنه ؟ ومتى كان له ولطغام الشام أن يجابهوا إمرة الحق التي نهض بها أهل الحل والعقد ؟ ولم يباشر الحرب هنالك إلا بعد أن أتم الإمام عليه السلام عليه الحجة ، وألحب له الطريق ، وأوقفه على حكم الله البات وأمره النهائي ، غير أن معاوية في أذنه وقر عن سماع كلم الحق والبخوع لها ، والملك عقيم.

تصريح لا تلويح
يعرب عن مرمى ابن هند
    مر في سالف القول ص 317 إن معاوية قال لجرير : يجعل علي له الشام ومصر جباية ، ويكون الأمر له بعده ، حتى يكتب إليه بالخلافة ، وكتب بذلك إليه عليه السلام ، وكتب إليه عليه السلام يسأله إقراره على الشام فكتب إليه علي عليه السلام : أما بعد : فإن الدنيا حلوة خضرة ، ذات زينة وبهجة ، لم يصب إليها أحد إلا شغلته بزينتها عما هو أنفع له منها ، وبالآخرة أمرنا ، وعليها حثثنا ، فدع يا معاوية ! ما يفنى ، واعمل لما يبقى ، واحذر الموت الذي إليه مصيرك ، والحساب الذي إليه عاقبتك ، واعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه وبين ما يكره ، ووفقه لطاعته ، وإذا أراد بعبد سوءا أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة ، وبسط له أمله ، وعاقه عما فيه صلاحه ، وقد وصلني كتابك فوجدت ترمي غير غرضك ، وتنشد غير ضالتك ، وتخبط في عماية ، وتتيه في ضلالة ، وتعتصم بغير حجة ، وتلوذ بأضعف شبهة.
    فأما سؤالك المتاركة والاقرار لك على الشام ، فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس ، وأما قولك : إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه (1) وعزل عثمان من كان عمر ولاه (2) ولم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح الأمة ما قد كان ظهر لمن قبله أو أخفي عنه عيبه ، والأمر يحدث بعده الأمر ، ولكل وال رأي واجتهاد (3) وكتب الرجل إليه عليه السلام ثانية ـ قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة ـ يسأله إقراره على
1 ـ يريد خالد بن الوليد كان ولاه أبو بكر فعزله عمر.
2 ـ عزل عثمان عمال عمر كلهم غير معاوية.
3 ـ نهج البلاغة 2 : 44 ، شرح ابن أبي الحديد 4 : 57.


(324)
الشام وذلك أن عليا عليه السلام قال : لأناجزنهم مصبحا. وتناقل الناس كلمته ، ففزع أهل الشام لذلك ، فقال معاوية : قد رأيت أن أعاود عليا وأسأله إقراري على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه (1) ولأكتبن ثانية ، فألقى في نفسه الشك والرقة ، فكتب إليه.
    أما بعد : فإنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت ، لم يجنها بعضنا على بعض ، ولئن كنا قد غلبنا على عقولنا ، لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقي ، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك بيعة وطاعة فأبيت ذلك علي ، فأعطاني الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو ، ولا أخاف من الفناء إلا ما تخاف ، وقد والله رقت الأجناد وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ، ولا يسترق به حر ، والسلام.
    فأجابه علي عليه السلام : أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك لم يجنها بعضنا على بعض ، فإني لو قتلت في ذات الله وحييت ، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله ، والجهاد لأعداء الله ، وأما قولك : إنه قد بقي من عقولنا ما نندم على ما مضى فإني ما تنقصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي ، وأما طلبك إلي الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس ، وأما قولك : إن الحرب قد أكلت إلا حشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ، ومن أكله الباطل فإلى النار. الكتاب (2).
    وكتب معاوية إلى ابن عباس : أما بعد : فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار ابن عفان حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه ، واستعظامهما ما نيل منه ،
1 ـ كذب الرجل وقد أجابه الإمام ( ع ) بما سمعت غير أنه كتمه على أصحابه خوفا من أن يهتدي به بعض إلى الحق ويفارق الباطل.
2 ـ الإمامة والسياسة 1 : 88 وفي ط 95 ، كتاب صفين ص 538 ، مروج الذهب 2 60 ، 61 ، نهج البلاغة 2 : 12 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 424.


(325)
فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان ، فقد وليها عدي وتيم (2) فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة.
    وقد وقع من الأمر ما قد ترى ، وأدالت هذه الحرب بعضنا على بعض حتى استوينا فيها ، فما يطعمكم فينا يطعمنا فيكم ، وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا ، ولقد رجونا غير الذي كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس ، ولا غدا بأحد من حدكم اليوم ، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام ، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ، فإنما بقي من رجالها ستة : رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق.
    ورجلان بالحجاز ، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو. وأما اللذان بالعراق فأنت وعلي.
    وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر (3) فإثنان من الستة ناصبان لك ، واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع ، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي.
    فكتب ابن عباس إليه : أما بعد : فقد جاءني كتابك وقرأته ، فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان وكراهتنا لسلطان بني أمية ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة ، وأما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه ، وضيقا خناقه ، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي ، وأما قولك : إنه لم يبق من قريش إلا ستة فما أكثر رجالها ، وأحسن بقيتها ، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ، ولم يخذلنا إلا من خذلك ، وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم ، فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان كما أن عثمان خير منك ، وقد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده ، وأما قولك : إنه لو بايعني الناس استقمت ، فقد بايع الناس عليا وهو خير مني فلم تستقم له : وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية ؟ وإنما أنت طليق وابن طليق ، والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء ، والسلام (1) وفي لفظ ابن قتيبة : فما
1 ـ يعني أبا بكر وعمر.
2 ـ يعني سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر.
3 ـ الإمامة والسياسة 1 : 85 ، وفي ط 96 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 289.


(326)
أنت والخلافة ؟ وأنت طليق الاسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.
    وخطب معاوية بعد دخوله الكوفة وصلح الإمام السبط سلام الله عليه فقال : يا أهل الكوفة ! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ؟ وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون.
    ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين. شرح ابن أبي الحديد 4 : 6 ، تاريخ ابن كثير 8 : 131 واللفظ للأول.
    قال معروف بن خربوذ المكي : بينا عبد الله بن عباس جالس في المسجد ونحن بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس إليه فأعرض عنه ابن عباس فقال له معاوية : مالي أراك معرضا ؟ ألست تعلم أني أحق بهذا الأمر من ابن عمك ؟ قال : لم ؟ لأنه كان مسلما وكنت كافرا ؟ قال : لا ، ولكني ابن عم عثمان. قال : فابن عمي خير من ابن عمك. قال : إن عثمان قتل مظلوما.
    قال : وعندهما ابن عمر فقال ابن عباس : فإن هذا والله أحق بالأمر منك.
    فقال معاوية : إن عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن عباس : ذاك والله أدحض لحجتك. مستدرك الحاكم 3 : 467.
    قال الأميني : إن هذه الكلم لتعطي القارئ دروسا ضافية من تحري معاوية للخلافة لا غيرها من أول يومه ، ولم يكن في وسع ابن آكلة الأكباد دفع شيء مما كتب إليه من ذلك ، وإنه كان يريد على فرض قصوره النيل لكل الأمنية القناعة ببعضها ، فيصفو له ملك الشام ومصر ، وللإمام عليه السلام ما تحت يده من الحواضر الإسلامية وزرافات الأجناد ، عسى أن يتخذ ذلك وسيلة للتوصل إلى بقية الأمل في مستقبل أيامه ، وكانت هذه القسمة ابتداعا في أمر الخلافة الإسلامية ، وتفريقا بين صفوفها ، لم تأل إلى سابقة في الدين ، ولا أمضاها أهله في دور من الأدوار ، وإنما هي فصمة في الجماعة ، وتفريق للطاعة ، وتفكيك لعرى الاسلام ، وتضعيف لقواه ، وبيعة عامة تلزم القاصي والداني لا يستثنى منها جيل دون جيل ، ولا يجوز انحياز أمة عنها دون أمة ، وإنما هو الخليفة الأخير الذي أوجبت الشريعة قتله كما مر حديثه الصحيح الثابت ،


(327)
وإنه هو معاوية نفسه ، فما كان يسع الإمام عليه السلام والحالة هذه إلا قتال هذا الطاغية أو يفئ إلى أمر الله.

فكرة معاوية لها قِدم
    إن رأي معاوية في خلافة الإمام عليه السلام لم يكن وليد يومه ولا بنت ليلته ، وإنما كان مناوئا منذ فرق بينهما الاسلام ، وقتل في يوم واحد أخوه وجده وخاله بسيف علي عليه السلام ، فلم يزل يلهج ويهملج في تفخيذ الناس عنه صلوات الله عليه من يوم قتل عثمان ، بعث رجلا من بني عميس وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام ، وفيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك.
    أما بعد : فإني قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب (1) فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب ، فإنه لا شيء بعد هذين المصرين ، قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهر الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما.
    فسر الزبير بهذا الكتاب ، وأعلم به طلحة ، ولم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام. شرح ابن أبي الحديد 1 : 77.
    قال الأميني : انظر إلى دين الرجل وورعه يستسيغ أن يخاطب الزبير بإمرة المؤمنين لمحض حسبانه أنه بايع له أجلاف أهل الشام ، ولا يقول بها لأمير المؤمنين حقا علي عليه السلام وقد تمت له بيعة المسلمين جمعاء وفي مقدمهم الزبير نفسه وطلحة بن عبيد الله الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه ، فغرهما على نكث البيعة فذاقا وبال أمرهما ، وكان عاقبتهما خسرا.
    وأنت ترى أن الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك ، ووسيلة النيل إلى الأماني من الخلافة الباطلة ، أوحاه معاوية إلى الرجلين ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.
1 ـ استوسق : اجتمع. الحلب : اللبن المحلوب.

(328)
    ويدعوا الرجل لمناوئي علي عليه السلام بالظفر وعليه عليه السلام بالخذلان ، والصادع الكريم يقول في الصحيح المتفق عليه : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.
    وكتب إلى الزبير أيضا : أما بعد : فإنك الزبير بن العوام ، ابن أبي خديجة (1) ، وابن عمة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه ، وسلفه (3) وصهر أبي بكر ، وفارس المسلمين ، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث : فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت ، تخبط خبط الجمل الرديع ، كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين ، وسبقت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة ، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة.
    واعلم يا أبا عبد الله : أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى حقن الدماء : ولم الشعث ، وجمع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، قبل تفاقم الأمر ، وانتشار الأمة ، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار ، عما قليل ينهار إن لم ير أب ، فشمر لتأليف الأمة ، وابتغ إلى ربك سبيلا ، فقد أحكمت الأمر من قبلي لك ولصاحبك على أن الأمر للمقدم ، ثم لصاحبه من بعده ، جعلك الله من أئمة الهدى ، وبغاة الخير والتقوى ، والسلام. ألا مسائل ابن هند عن قوله : إن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة.. إلخ.
    لماذا أصبحت ؟ ومتى أصبحت ؟ وكيف أصبحت ؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كل صالح لها ويشمر على درأ كل معرة عنها هو صنو رسول الله ونفسه الإمام المنصوص عليه ، وقد أجمعت الأمة على بيعته لولا أن معاوية يكدر الصفو ، ويقلق السلام ، ويفرق الكلمة بدسائسه وتسويلاته ، فمثله كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ،
1 ـ خويلد أبو خديجة زوج الرسول ( ص ) جد الزبير بن العوام بن خويلد.
2 ـ أم الزبير هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله.
3 ـ السلف : زوج أخت امرأته. تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وتزوج رسول الله أختها عايشة.


(329)
    وكتب إلى طلحة :
    أما بعد : فإنك أقل قريش في قريش وترا ، مع صباحة وجهك ، وسماحة كفك ، وفصاحة لسانك ، فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة ، وخامس المبشرين بالجنة ، و لك يوم أحد وشرفه وفضله ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى ما تقلدك الرعية من أمرها ، مما لا يسعك التخلف عنه ، ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به ، فقد أحكمت لك الأمر قبلي ، والزبير فغير متقدم عليك بفضل ، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام ، والأمر من بعده للمقدم له ، سلك الله بك قصد المهتدين ، ووهب لك رشد الموفقين ، والسلام.
    قال الأميني : لمسائل هاهنا أن يحفي لمعاوية السؤال عن أن ما تبجح به للزبير و طلحة من الفضائل التي استحقا بها الخلافة هل كان علي عليه السلام خلوا منها ؟ يذكر لهما البشارة بالجنة ، وأن زبيرا أحد أولئك المبشرين ، وأن طلحة خامسهم ، فهلا كان علي عليه السلام عاشرهم ؟ فلماذا سلخها عنه ، وحثهما بالمبادرة إليها حتى لا يسبقهما إليها ابن أبي طالب ؟! ؟! وإن كان تلكم البشارة ـ المزعومة ـ بمجردها كافية في إثبات الجدارة للخلافة ؟ فلماذا أخرج عنها سعد بن أبي وقاص ؟ وهو أحد القوم المبشرين وكان يومئذ حيا يرزق ، و لعل طمعه فيهما كان آكد ، فحلب حلبا له شطره. والأعجب قوله لطلحة : فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة.
    فهلا كان أمير المؤمنين أول السابقين وأولاهم بالمئاثر كلها ؟ وهلا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : السباق ثلاثة : السابق إلى موسى يوشع. وصاحب ياسين إلى عيسى. والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب ؟ (1).
    وهلا صح عند أمة محمد صلى الله عليه وآله أن عليا أول من آمن بالله ، وصدق نبيه صلى الله عليه وآله وصلى معه ، وجاهد في سبيله ؟ وإن كان لطلحة يوم أحد وشرفه وفضله فلعلي عليه السلام مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كلها من بدر واحد وخيبر والأحزاب وحنين ويوم حمراء الأسد (2) هب أن معاوية كان في أذنه وقر من شركه لم يسمع نداء جبريل ورضوان يوم ناديا :
1 ـ راجع الجزء الثاني : 306 ط ثاني.
2 ـ راجع ما مر في الجزء السابع ص 202 ـ 206.


(330)
لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار (1)
    فهل كان في بصره عمى كبصيرته لا يبصر نضال علي ونزاله في تلكم المعارك الدامية ؟ نعم : معاوية لا يرى مواقف علي عليه السلام فضلا وشرفا لأنه هو الذي أثكل أمهات بيته ، و ضرب أقذلة أخيه وجده وخاله وأبناء بيته الساقط بسيفه البتار ، وإلى هذا يومي قوله لطلحة : فإنك أقل قريش في قريش وترا.
    ومن كتاب له إلى مروان : فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد ، لا يصطاد إلا غيلة ، ولا يتشازر إلا عن حلية ، وكالثعلب لا يفلت إلا روغانا ، واخف نفسك منهم أخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف ، وامتهن (2) نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها (3) وأنغل (4) الحجاز ، فإني منغل الشام ، والسلام.
    قال الأميني : هذه شنشنة معاوية منذ بلغه أمر الإمام عليه السلام وانعقاد البيعة له ، فوجد نفسه عند الأمة في معزل عن المشورة أو اعتضاد في رأي ، وأن البيعة لاحقته لا محالة ، فلم يجد منتدحا عن إقلاق الأمر على صاحب البيعة الحقة ، وأن يستدني منه أمانيه الخلابة بتعكير الصفو له عليه السلام فطفق يفسد ما اطمأن إليه من الأمصار ، ويوعز في كتبه إلى إفساد الرأي ، وتفريق الكلمة ، وهو ضالته المنشودة.
    وإن تعجب فعجب أخذه البيعة لطلحة والزبير واحدا بعد آخر وقد ثبت في أعناقهما بيعة الإمام عليه السلام ، وكانت هذه البيعة أبان ثبوت بيعتهما كما ينم عنه نص كتبه إليهما ، ثم ومن هو معاوية حتى يرشح أحدا للخلافة بعد انعقاد الإجماع لخليفة الحق ؟ ولم يكن هو من أهل الترشيح لو لم تنعقد البيعة المذكورة.
    على أن الغبي لم يهتد إلى أن أخذ البيعة لهما مستلزم لنكثهما عن البيعة الأولى وما غناء إمام ناكث عن مناجح الأمة ومصالحها ، مع إنهما على تقدير صحة البيعة يكون
1 ـ انظر الجزء الثاني ص 55.
2 ـ امتهنه : احتقره وابتذله.
3 ـ فقس الطائر بيضه. كسرها وأخرج ما فيها.
4 ـ نغل الأديم كفرح : فسد في الدباغ. أنغله : أفسده.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس