الغدير ـ الجزء العاشر ::: 311 ـ 320
(311)
والمهاجرون والأنصار والبدريون من الصحابة قط لا قيمة لهم ولا لبيعتهم وجماعتهم عنده في سوق الاعتبار ، يقول : إن الجماعة معه ، وإن الطاعة لا يراها هو ، على حين أنهما حصلتا له صلوات الله عليه رضي به ابن هند أو أبى ، وإن الجماعة التي كانت لعلي عليه السلام وبيعتهم إياه كانت من سروات المجد وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ووجوه الأمصار والبلاد ، ولم يتحقق إجماع في الاسلام مثله ، وأما التي كانت لمعاوية في حسبانه فمن رعرعة الشام ، ورواد الفتن ، وسماسرة الأهواء ، ولم يكن معه كما قال سيدنا قيس بن سعد بن عبادة : إلا طليقا أعرابيا ، أو يمانيا مستدرجا ، وكان معه مائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل كما مر حديثه في ص 195 ، فأي عبرة بموقف هؤلاء ؟ وأي قيمة لبيعتهم بعد شذوذهم عن الحق ونبذهم إياه وراء ظهورهم ؟.
    من يكن ابن آكلة الأكباد وزبانيته حتى يكون لهم رأي في الخلافة ؟ ويطلبوا من أمير المؤمنين اعتزال الأمر ، ورده شورى بين المسلمين بعد أن العمد والدعائم من المسلمين رضوا بتلكم البيعة وعقدوها للإمام الحق على زهد منه عليه السلام فيها ، لكنهم تكاثروا عليه كعرف الفرس حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاه ، فكان تدخل الطليق ابن الطليق في أمر الأمة الذي أصفق عليه رجال الرأي والنظر تبرعا منه من غير طلب ولا جدارة ، بل كان خروجا على الإمام الذي كانت معه جماعة المسلمين ، وانعقدت عليه طاعتهم ، فتبا لمن شق عصاهم ، وفت في عضدهم.
    وابن هند إن لم يكن ينازع للخلافة كما حسبه ابن حجر فما كانت تلك المحاباة وتغرير وجوه الناس ورجالات الثورات بولايات البلاد ؟ فترى يجعل مصر طعمة لعمرو ابن العاص ، وله خطواته الواسعة وراء قتل عثمان ، ويعهد على زياد التميمي أن يوليه أي المصرين أحب إذا ظهر ، غير أن التميمي كان على بينة من ربه فيما أنعم الله عليه لم يك ظهيرا للمجرمين ، وكذلك قيس بن سعد الأنصاري كتب إليه معاوية يعده بسلطان العراقين إذا ظهر ما بقي ، ولم أحب قيس سلطان الحجاز ما دام له سلطان (1) وقيس شيخ الأنصار ، وهم المتسربلون بالحديد يوم الجمل قائلين : نحن قتلة عثمان.
    ولنا حق النظر في قوله لشبث بن ربعي : وما يمنعني من ذلك والله لو أمكنت من
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 228.

(312)
ابن سمية ما قتلته بعثمان .. إلخ. من الذي أخبر معاوية عن عمار وعن قتله عثمان ومولاه ناتل ؟ وكان معاوية يومئذ بالشام ، ولينظر في البينة التي حكم بها على عمار ولعلها قامت بشهادة مزورة زورها نفس معاوية جريا على عادته في أمثال هذه المواقف.
    وإن صدق في دعواه وكان الأمر كما قرره هو فلا قود عندئذ إذ عمار من المجتهدين العدول لا يقتل إنسانا إلا من هدر الاسلام دمه ، يتبع أثره ، ولا ينقض حكمه ، كيف لا ؟ وقد ورد الثناء عليه في خمس آيات فصلناها في ج 9 ص 21 ـ 24 ، وجاء عن النبي الأعظم قوله صلى الله عليه وآله : إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، وخلط الإيمان بلحمه ودمه.
    وقوله صلى الله عليه وآله : عمار خلط الله الإيمان ما بين قرنه إلى قدمه ، وخلط الإيمان بلحمه ودمه ، يزول مع الحق حيث زال ، وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا. وقوله صلى الله عليه وآله : ملئ إيمانا إلى مشاشه. وفي لفظ : حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنيه إيمانا.
    وقوله صلى الله عليه وآله : إن عمارا مع الحق والحق معه ، يدور عمار مع الحق أينما دار ، وقاتل عمار في النار.
    وقوله صلى الله عليه وآله : إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق.
    وقوله صلى الله عليه وآله : دم عمار ولحمه حرام على النار أن تطعمه.
    وقوله صلى الله عليه وآله : ما لهم ولعمار ؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه.
    نعم : صدق معاوية في قوله : ما يمنعني من ذلك ؟ وأي وازع للانسان عن قتل عمار إذا ما صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله هذه وقوله : ما لقريش وعمار يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار ، قاتله وسالبه في النار.
    وقوله : من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن يسفه عمارا يسفهه الله ، ومن يسب عمارا يسبه الله ، ومن يحقر عمارا حقره الله ، ومن يلعن عمارا لعنه الله ، ومن ينتقص عمارا ينتقصه الله (1)
1 ـ راجع تفصيل هذه الأحاديث في الجزء التاسع ص 24 ـ 28.

(313)
وفد معاوية إلى الإمام عليه السلام
    وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري ، وشرحبيل بن السمط ، ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه وتكلم حبيب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديا ، يعمل بكتاب الله عزوجل ، وينيب إلى أمر الله تعالى ، فاستثقلتم حياته ، واستبطأتم وفاته ، فعدوتم عليه فقتلتموه رضي الله عنه ، فادفع إلينا قتلة عثمان ـ إن زعمت أنك لم تقتله ـ نقتلهم به ، ثم اعتزل أمر الناس ، فيكون أمرهم شورى بينهم ، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم.
    فقال له علي بن أبي طالب : وما أنت لا أم لك والعزل ، وهذا الأمر ؟ اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل له.
    فقال وقال له : والله لتريني بحيث تكره. فقال علي. و ما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك ؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي ، أحقرة وسوءا ؟ اذهب فصوب وصعد ما بدا لك.
    وقال شرحبيل : إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل ، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به ؟ فقال علي : نعم ، لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به.
    فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : فإن الله جل ثناؤه بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق ، فأنقذ به من الضلالة ، و انتاش به من الهلكة ، وجمع من الفرقة ، ثم قبضه الله إليه ، وقد أدى ما عليه صلى الله عليه وسلم ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه ، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه ، فأحسنا السيرة ، وعدلا في الأمة ، وقد وجدنا عليهما أن توليا علينا ، ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فغفرنا ذلك لهما ، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه ، فساروا إليه فقتلوه ، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم ، فقالوا لي : بايع.
    فأبيت عليهم ، فقالوا لي : بايع ، فإن الأمة لا ترضى إلا بك ، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس ، فبايعتهم ، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني ، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عزوجل له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، طليق ابن طليق ، حزب من هذه الأحزاب ، لم يزل


(314)
لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عدوا ، هو وأبوه ، حتى دخلا في الاسلام كارهين فلا غرو إلا خلافكم معه ، وانقيادكم له ، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدا ، إلا أني أدعوكم إلى كتاب الله عزوجل ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإماتة الباطل ، وإحياء معالم الدين ، أقول قولي هذا ، و استغفر الله لي ولكم ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة. فقالا : إشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما. فقال لهما : لا أقول : إنه قتل مظلوما ، ولا أنه قتل ظالما. قالا : فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلوما فنحن منه برآء.
    ثم قاما فانصرفا ، فقال علي : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (1).

أنباء في طيات الكتب
تعرب عن مرمى معاوية
    هلم معي ننظر في شطر من كتب ابن حرب المعربة عن مرماه الذي كان تركاضه وراءه ، هل فيها إيعاز أو تلويح أو تصريح بغايته المتوخاة في نزاعه الإمام الطاهر عليه السلام ، وإنه كان يروم الخلافة ويحوم حولها وينازع الأمر أهله ؟ رغم إنكار ابن حجر إياه إنكارا باتا نصرة له.
    إن النعمان بن بشير لما قدم على معاوية بكتاب زوجة عثمان تذكر فيه دخول القوم عليه ، وما صنع محمد بن أبي بكر عن نتف لحيته ، في كتاب رققت فيه وأبلغت حتى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدع قلبه.
    وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزقا ، وعقدت شعر لحيته في زر القميص ، قال : فصعد المنبر معاوية بالشام وجمع الناس ، ونشر عليهم القميص ، وذكر ما صنعوا بعثمان فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق ، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه ، فقام إليه أهل الشام فقالوا : هو ابن عمك وأنت وليه ، ونحن الطالبون معك بدمه ، فبايعوه أميرا عليهم ، وكتب ، وبعث الرسل إلى كور الشام ، وكتب
1 ـ تاريخ الطبري 6 : 4 ، الكامل لابن الأثير 3 : 125 ، تاريخ ابن كثير 7 : 258.

(315)
إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو بحمص يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام ، فلما قرأ شرحبيل كتاب معاوية دعا أناسا من أشرف أهل حمص فقال لهم : ليس من قتل عثمان بأعظم جرما ممن يبايع لمعاوية أميرا ، وهذه سقطة ، ولكنا نبايع له بالخلافة ، ولا نطلب بدم عثمان مع غير خليفة ، فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص ثم كتب إلى معاوية : أما بعد : فإنك أخطأت خطأ عظيما حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة ، وإنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة ، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة.
    فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك ودعا الناس وصعد المنبر وأخبرهم بما قال شرحبيل ودعاهم إلى بيعته بالخلافة ، فأجابوه ولم يختلف منهم أحد ، فلما بايع القوم له بالخلافة واستقام له الأمر كتب إلى علي (1).
    وفي حديث عثمان بن عبيد الله الجرجاني قال : بويع معاوية على الخلافة ، فبايعه الناس على كتاب الله وسنة نبيه ، فأقبل مالك ابن هبيرة الكندي ـ وهو يومئذ رجل من أهل الشام ـ فقام خطيبا وكان غائبا من البيعة فقال : يا أمير المؤمنين ! اخدجت هذا الملك ، وأفسدت الناس ، وجعلت للسفهاء مجالا ، وقد علمت العرب أنا حي فعال ، ولسنا بحي مقال ، وإنا نأتي بعظيم فعالنا على قليل مقالنا ، فابسط يدك أبايعك على ما أحببنا وكرهنا.
    فقال الزبرقان بن عبد الله السكوني :
معاوي أخدجت الخلافة بالتي ببيعة فصل ليس فيها غميزة وكان كبيت العنكبوت مذبذبا وأصبح لا يرجوه راج لعلـة وما خير ملك يا معاوية ! مخدج إذا شاء ردته السكون وحمير شرطت فقد بوا لك الملك مالك ألا كل ملك ضمه الشرط هالك فأصبح محجوبا عليه الأرائك ولا تنتحي فيه الرجال الصعالك تجرع فيه الغيظ والوجه حالك وهمدان والحي الخفاف السكاسك (2)
    جرت بين الإمام عليه السلام وبين معاوية مكاتبات نحن نأخذ من تلكم الكتب ما يخص
1 ـ الإمامة والسياسة 1 : 69 ، 70.
2 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 90.


(316)
بالموضوع ، كتب عليه السلام إليه في أول ما بويع له بالخلافة :
    أما بعد : فقد علمت إعذاري فيكم ، وإعراضي عنكم ، حتى كان ما لا بد منه ، ولا دفع له ، والحديث طويل ، والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر ، وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك ، وأقبل إلي في وفد من أصحابك ، والسلام.
    وفي لفظ : أما بعد : فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابي فبايع لي ، وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك.
    وفي لفظ ابن قتيبة : أما بعد : فقد وليتك ما قبلك من الأمر والمال ، فبايع من قبلك ، ثم أقدم إلي في ألف رجل من أهل الشام.
    فكتب معاوية : أما بعد : فإنه :
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب
    ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية : وقد بلغك ما كان من قتل عثمان رحمه الله ، وبيعة الناس عامة إياي ، ومصارع الناكثين لي ، فادخل فيما دخل الناس فيه ، وإلا فأنا الذي عرفت ، وحولي من تعلمه. والسلام.
    ومما كتب عليه السلام إليه مع جرير البجلي : فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما ، كان ذلك لله رضا ، وإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج عنه ، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
    فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإن أحب الأمور إلي قبولك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرضت له قاتلتك ، واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكمت القوم إلي ، حملتك وإياهم على كتاب الله ، وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن.

(317)
    وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعقد معهم الإمامة ، ولا يدخلون في الشورى ، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايعه ، ولا قوة إلا بالله.
    قدم جرير على معاوية بكتاب علي ، فلما أبطأ عليه معاوية برأيه استحثه بالبيعة ، فقال له معاوية : يا جرير ! إن البيعة ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي ، ودعا أهل ثقته فاستشارهم ، فقال له أخوه عتبة : إستعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، فإنه من قد عرفت ، فكتب معاوية إلى عمرو ، وهو بفلسطين : أما بعد : فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك ، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك ، فأقدم على بركة الله ، أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله.
    فقال معاوية لجرير : إني قد رأيت رأيا ، قال جرير : هات.
    قال : اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة ، وأسلم إليه هذا الأمر ، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير : اكتب ما شئت.
    فكتب إلى علي يسأله ذلك ، فلما أتى عليا كتاب معاوية عرف إنها خدعة منه ، وكتب إلى جرير بن عبد الله : أما بعد : فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يرثيك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام ، وقد كان المغيرة بن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام ، فأبيت ذلك عليه (1) ولم يكن الله ليراني أن أتخذ المضلين عضدا ، فإن بايعك الرجل وإلا فأقبل ، والسلام (2).
    ولما فشا كتاب معاوية في العرب كتب إليه أخو عثمان لأمه الوليد بن عقبة :
معاوي إن الشام شامك فاعتصم وحام عليها بالصوارم والقنا وإن عليا ناظر ما تجيبه بشامك ، لا تدخل عليك الأفاعيا ولا تك موهون الذراعين وانيا فأهد له حـربا تشيب النواصيا

1 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء السادس 142 ط 2.
2 ـ كتاب صفين 38 ، 58 ، 59 ، الإمامة والسياسة 1 : 82 ، وفي ط 72 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 136 ، 249 ـ 251.


(318)
وإلا فسلم إن في السلم راحة وإن كتابا يا بن حرب كتبته سألت عليا فيه ما لن تناله وسوف ترى منه التي ليس بعدها أمثل علي تعتريه بخدعة لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا على طمع يزجي إليك الدواهيا وإن نلته لم تبق إلا لياليا بقاء فـلا تكثر عليك الأمانيا وقد كان ما جريت من قبل كافيا ؟
    وكتب إلى معاوية أيضا :
معاوي إن المـلك قد جب غاربه أتاك كتاب من علي بخطة فلا ترج عند الواترين مودة وحاربه إن حاربت حر بن حرة فإن عليا غير ساحب ذيله فلا تدعن الملك والأمر مقبل فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه وإن كنت تنوي أن ترد كتابه فألق إلى الحي اليمانين كلمة أفانين : منهم قاتل ومحرض وكنت أميرا قبل بالشام فيكم تجيبوا [ومن أرسى ثبيرا مكانه] فأقلل وأكثر ، ما لها اليوم صاحب وأنت بما في كفك اليوم صاحبه هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه وإلا فسلم لا تدب عقاربه على خدعة ما سوغ الماء شاربه وتطلب ما أعيت عليه مذاهبه فقبح ممليه وقبح كاتبه وأنت بأمر لا محالة راكبه عدو وما لاهم عليه أقاربه بلا ترة كانت وآخر سالبه فحسبي وإياكم من الحق واجبه تدافع بحر لا ترد غواربه سواك فصرح لست ممن تواربه (2)
    فأقام جرير عند معاوية ثلاثة أشهر. وقيل : أربعة. وهو يماطله بالبيعة ، فكتب علي إلى جرير :
    سلام عليك ، أما بعد : فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، وخيره بين حرب مجلية ، أو سلم مخزية ، فإن اختار الحرب فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ، وإن اختار السلم فخذ بيعته وأقبل إلي ، والسلام.
1 ـ المواربة : المخارعة والمداهاة.

(319)
    فكتب معاوية إلى علي جوابا عن كتابه مع جرير :
    أما بعد : فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكنك أغريت بدم عثمان المهاجرين. وخذلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوي بك الضعيف ، وقد أبي أهل الشام إلا قتالك ، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين ، وإنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم ، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام ، ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ، لأن أهل البصرة أطاعوك ، ولم يطعك أهل الشام.
    فكتب إليه الإمام عليه السلام : زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خفري (1) بعثمان ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرت فلزمتني خطيئة الأمر ، ولا قتلت فأخاف على نفسي قصاص القاتل.
    وأما قولك : إن أهل الشام هم حكام أهل الحجاز ، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى ، أو تحل له الخلافة ، فإن سميت كذبك المهاجرون و الأنصار ، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز.
    فارجع إلى البيعة التي لزمتك ، وحاكم القوم إلي.
    وأما تمييزك بين أهل الشام والبصرة ، وبينك وبين طلحة والزبير ، فلعمري فما الأمر هناك إلا واحد ، لأنها بيعة عامة ، لا يتأتى فيها النظر ، ولا يستأنف فيها الخيار.
    ومن كتاب كتبه معاوية إلى علي عليه السلام في أواخر حرب صفين : فإن كنت ـ أبا حسن ـ ! إنما تحارب على الإمرة والخلافة فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين ، ولكنها ما صحت لك ، أنى بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوها ؟ وخف الله وسطواته ، واتق بأسه
1 ـ الخفر : نقض العهد. الغدر.

(320)
ونكاله ، واغمد سيفك عن الناس ، فقد والله أكلتهم الحرب ، فلم يبق منهم إلا كالثمد (1) في قرارة الغدير.
    والله المستعان.
    فكتب علي عليه السلام إليه كتابا منه : وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الاسلام ، فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك ، ولكني وجدت الله تعالى يقول : فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.
    فنظرنا إلى الفئتين ، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها ، لأن بيعتي لزمتك وأنت بالشام ، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة ، وأنت أمير لعمر على الشام ، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام.
    وأما شق عصا هذه الأمة ، فأنا أحق أن أنهاك عنه ، فأما تخويفك لي من قتل أهل البغي فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم وقال لأصحابه : إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.
    وأشار إلي ، وأنا أولى من اتبع أمره ، وأما قولك : إن بيعتي لم تصح ، لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها ، فكيف ؟ وإنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب ، لا يثنى فيها النظر ، ولا يستأنف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمروي (2) فيها مداهن ، فاربع على ظلعك ، وانزع سربال غيك ، واترك ما لا جدوى له عليك ، فليس لك عندي إلا السيف ، حتى تفئ إلى أمر الله صاغرا ، وتدخل في البيعة راغما ، والسلام.
    ومن كتاب لمعاوية إلى علي عليه السلام : فدع اللجاج والعبث جانبا ، وادفع إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ، ليتفقوا على من هو لله رضا ، فلا بيعة لك في أعناقنا ، ولا طاعة لك علينا ، ولا عتبى لك عندنا ، وليس لك ولأصحابك إلا السيف.
    فأجابه الإمام عليه السلام بكتاب منه قوله : وزعمت أن أفضل الناس في الاسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تم اعتزلك
1 ـ الثمد : الماء القليل يتجمع في الشتاء وينضب في الصيف.
2 ـ روى في الأمر : نظر وفكر ، أي الذي يفكر ويروي فيها ويبطئ عن الطاعة مداهن أي : منافق.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس