الغدير ـ الجزء العاشر ::: 301 ـ 310
(301)
    وكتب عليه السلام إلى معاوية : إن طلحة والزبير بايعاني ، ثم نقضا بيعتهما ، وكان نقضهما كردتهما ، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون (1).
    فهلا كانت بحسب معاوية تلكم الحجج ؟! وقد طن في أذن الدنيا قول أمير المؤمنين عليه السلام : ما هو إلا الكفر ، أو قتال القوم.
    فهلا عرف الرجل وبال أمر أصحاب الجمل ، ومغبة تلك النخوة والغرور ، والتركاض وراء الأهواء والشهوات ، بعد قتل آلاف مؤلفة من الصالح والطالح ، من أهل الحق والباطل ؟ فإشهاره السيف لإزهاق النفوس بريئة كانت أو متهمة من رجال أو نساء أو أغلمة ، وقتل أمم وزرافات تعد بالآلاف بإنسان واحد قتله المجتهدون العدول من أمة محمد بعد إقامة الحجة عليه ، إنما هو مما حظرته الشريعة ، ولم يعرف له مساغ من الدين ، وكان ابن هند في الأمر كما كتب إليه الإمام عليه السلام : لست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر ، ولا عليك منه شاهد ، ولست متعلقا بآية من كتاب الله ، ولا عهد من رسول الله (2).
    وتاسعا : إلى أن ما حكم به خليفة الوقت يجب اتباعه ولا يجوز نقضه فقد كتب علي عليه السلام إلى معاوية في كتاب له : وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإني نظرت في هذا الأمر ، وضربت أنفه وعينه فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عما قليل يطلبونك ، لا يكلفونك أن تطلبهم في بر ولا بحر (3).
    فهلا كان ذلك نصا من الإمام عليه السلام على أنه لا مساغ له لأن يدفع قتلة عثمان لأي إنسان ثائر ، وإن طلب ذلك منه غي وشقاق ، فهل كان معاوية يحسب أن أمير المؤمنين عليه السلام يتنازل عن رأيه إذا ما ارتضاه هو ؟ أو يعدل عن الحق ويتبع هواه ؟ حاشا ثم حاشا ، أو لم يكن من واجب معاوية البخوع لحكم الإمام المطهر بنص القرآن والإخبات
1 ـ كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 34 ط مصر ، العقد الفريد 2 : 284 ، الإمامة والسياسة 1 : 81 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 248 ، ج 3 : 300.
2 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 122 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 412.
3 ـ كتاب صفين ص 96 ، 102 ، العقد الفريد 2 : 286 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 409.


(302)
إلى رأيه الذي لا يفارق القرآن ؟ كيف لا ؟ وقد صح عن القوم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روايات تمسكوا بها في اتباع نظراء معاوية ويزيد من أئمة الضلال وأمراء الجور والعدوان مثل ما عزي إليه صلى الله عليه وآله : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
    قال حذيفة : قلت : كيف أصنع يا رسول الله ! إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع (1).
    وسأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ، ويمنعونا حقنا ، فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله فجذبه الأشعث بن قيس فقال صلى الله عليه وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (2).
    هذا رأي القوم في أمراء الشر والفساد فما ظنك بالامام العادل المستجمع لشرايط الخلافة الذي ملأت الدنيا النصوص في وجوب اقتصاص أثره ، و الموافقة لآرائه وكل ما يرتأيه من حق واضح ؟!.
    وعاشرا : إلى أن قاتل عثمان المباشر لقتله اختلف فيه كما مر تفصيله في الجزء التاسع ويأتي أيضا بين جبلة بن الايهم المصري. وكبيرة السكوني. وكنانة بن بشر التجيبي. وسودان بن حمران. ورومان اليماني. ويسار بن غلياض. وعند ابن عساكر يقال له : حمال (3).
    فقتل منهم من قتل في الوقت ، ولم يكن أحد من الباقين في جيش الإمام عليه السلام ولا ممن آواهم هو ، فلم يكن لأحد عند غيرهم ثار ، وأما الذين آواهم الإمام عليه السلام فهم المسببون لقتله من المهاجرين والأنصار ، أو المؤلبون عليه من الصحابة العدول ، ولم يشذ عنهم إلا أناس يعدون بالأنامل.
    وبعد هذه كلها هلا كانت لتبرأة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام نفسه من دم عثمان وقد كتبها إلى طلحة والزبير ومعاوية ، ولتبرأة الأعيان من الصحابة إياه منذ مقتل عثمان إلى أن استحر القتال في واقعة صفين ، وقد كتبوها إلى طلحة والزبير ومعاوية
1 ـ صحيح مسلم 6 : 20 ، سنن البيهقي 8 : 157.
2 ـ صحيح مسلم 6 : 19 ، سنن البيهقي 8 : 158.
3 ـ الصواعق ص 66.


(303)
ومن لف لفهم ، قيمة توازن عند معاوية شهادات الزور التي لفقها هو من أناس لا خلاق لهم ، وثبتتها حيله ودسائسه ، وأجراها ترغيبه وترهيبه ؟ وقد علم هو أن أمير المؤمنين من هو ، وصلحاء الصحابة الذين وافقوه على التبرأة والتبرير من هم ، ومن أولئك الطغمة الثائرين لخلافه ، والمجلبين عليه ، جير : كان يعلم كل ذلك لكنه الملك و السلطان وهما يبرران لصاحب النهمة والشره كل بائقة وموبقة.

ـ 19 ـ
دفاع ابن حجر عن معاوية
بأعذار مفتعلة
    أنت إذا قضيت الوطر عن معاوية ومعاذيره التافهة في هذه المعمعة ، فهلم معي إلى ناصره الأخير ـ ابن حجر ـ الذي فاتته النصرة بالضرب والطعن ، فطفق يسود صحيفة من صحائفه الشوهاء بأعذار مفتعلة في صواعقه ، يتصول بها كمن يدلي بحجج قاطعة ، وابن حجر وإن لم يكن أول من نحت تلكم الأعذار ، وقد سبقه إليها أناس آخرون من أبناء حزم وتيمية وكثير ، غير أن ما جاء به ابن حجر يجمع شتات ما تترس به القوم دفاعا عن ابن هند ، وزاد هو في طنبوره نغمات ، قال في الصواعق ص 129 : ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة : أن ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة ، للاجماع على حقيتها لعلي كما مر (1) فلم تهج الفتنة بسببها وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي ظنا منه أن تسليمهم إليهم على الفور مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر علي يؤدي إلى اضطراب وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الاسلام سيما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها ، فرأى علي رضي الله عنه أن تأخير تسليمهم أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة ، ويتحقق التمكن من الأمور فيها على وجهها ، ويتم له انتظام شملها واتفاق كلمة المسلمين ، ثم بعد ذلك يلتقطهم واحدا فواحدا ويسلمهم إليهم ، ويدل لذلك أن بعض قتلته عزم على الخروج على علي ومقاتلته لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان ، وأيضا فالذين تمالؤا على قتل عثمان
1 ـ ذكره في الصواعق ص 71.

(304)
كانوا جميعا كثيرة كما علم مما قدمته في قصة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم ، جمع من أهل مصر قيل : سبعمائة ، وقيل : ألف ، وقيل خمسمائة ، وجمع من الكوفة ، وجمع من البصرة وغيرهم قدموا كلهم المدينة وجرى منهم ما جرى ، بل ورد أنهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف فهذا هو للحامل لعلي رضي الله عنه عن الكف عن تسليمهم لتعذره كما عرفت.
    ويحتمل أن عليا رضي الله عنه رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويل فاسد استحلوا به دمه رضي الله عنه لإنكارهم عليه أمورا كجعله مروان ابن عمه كاتبا له ورده إلى المدينة بعد أن طرده النبي صلى الله عليه وآله منها ، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال ، وقضية محمد بن أبي بكر ، ظنوا أنها مبيحة لما فعلوه جهلا منهم وخطأ والباغي إدا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دما كان أو مالا كما هو المرجح من قول الشافعي رضي الله عنه ، وبه قال جماعة آخرون من العلماء ، وهذا الاحتمال وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه.
    إلخ قال الأميني : هب أن عثمان قتل مظلوما بيد الجور والتعدي.
    وأنه لم يك يقترف قط ما يهدر دمه.
    وأن قتله لم يقع بعد إقامة الحجة عليه والأخذ بكتاب الله في أمره.
    وأنه لم يقتل في معمعة بين آلاف مكردسة من المدنيين والمصريين والكوفيين والبصريين.
    ولم تكن البلاد تمخضعت عليه ، وما نقم عليه عباد الله الصالحون.
    وأن قاتله لم يجهل من يوم أودى به ، وكان مشهودا يشار إليه ، ولم يكن قتيل عمية (1) لا يدرى من قتله حتى تكون ديته من بيت مال المسلمين.
    ولم يقتل الذين باشروا قتله وكان قد بقي منهم باقية يقتص منها.
    وأن المهاجرين والأنصار ما اجتمعوا على قتله ، ولم تكن لأولئك المجتهدين العدول يد في تلك الواقعة ، ولم يشارك في دمه عيون الصحابة.
    وأن أهل المدينة ليسوا كاتبين إلى من بالآفاق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنكم
1 ـ بكسر العين والميم المشددة مع تشديد الياء.

(305)
إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزوجل تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم فإن دين محمد قد أفسده من خلفكم وترك ، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
    وأن المهاجرين لم يكتبوا إلى من بمصر من الصحابة والتابعين : أن تعالوا إلينا و تداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بدل ، وسنة رسول الله قد غيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت.
    إلى آخر ما مر ج 9.
    وأن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وعمرو بن العاص لم يكونوا أشد الناس عليه ، ولم يكن لهم تركاض وراء تلك الثورة.
    وما قرع سمع الدنيا نداء عثمان : ويلي على ابن الحضرمية ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي ، يحرض على نفسي.
    وأن طلحة لم يقل : إن قتل ـ عثمان ـ فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وأنه لم يمنع الناس عن إيصال الماء إليه.
    وأن مروان لم يقتل طلحة دون دم عثمان ، ولم يؤثر عنه قوله يومئذ : لا أطلب بثأري بعد اليوم.
    وأن الزبير ما باح بقوله : اقتلوه فإنه غير دينكم ، وإن عثمان لجيفة على ـ الصراط غدا.
    وأن عائشة ما رفعت عقيرتها بقولها : اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر.
    وإنها لم تقل لمروان : وددت والله إنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا وإنكما في البحر. ولم تقل لابن عباس : إياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية.
    وأن عمرو بن العاص لم يقل : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع ، إن كنت لأحرض عليه حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.
    وأن سعد بن أبي وقاص لم يبح بقوله : أمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه.
    وأن عثمان لم يبق جثمانه ملقى ثلاثا في مزبلة لا يهم أمره أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الصحابة العدول.
    وأن طلحة لم يك يمنع عن تجهيزه ودفنه في مقابر المسلمين ، وأنه لم يقبر في حش كوكب جبانه اليهود بعد ذل الاستخفاف.


(306)
    وأن ما أسلفناه في الجزء التاسع من حديث أمة كبيرة من الصحابة وفيهم العمد والدعائم كل ذلك لم يصح.
    وأن إمام الوقت ليس له العفو عن قصاص كما عفى عثمان عن عبيد الله بن عمر حين قتل هرمزان وجفينة بنت أبي لؤلؤة بلا أي جريرة.
    وأن معاوية لم يك يتثبط عن نصرته ، ولم يتربص عليه دائرة السوء ، ولم يشهد عليه عيون الصحابة بأن الدم المهراق عنده ، وأنه أولى رجل بأن يقتص منه ويؤخذ بدم عثمان.
    وأن عثمان لم يكن له خلف يتولى دمه غير معاوية.
    وأن عليا عليه السلام هو الذي قتل عثمان ، أو آوى قاتليه.
    وأن معاوية لم يك غائبا عن ذلك الموقف ، وكان ينظر إليه من كثب ، فعلم بمن قتله ، وبمن انحاز عن قتله.
    وأن ما ادعاه معاوية لم يكن إفكا وبهتا وزورا من القول متخذا عن شهادة مزورة واختلاق.
    وأن هذه الخصومة لها شأن خاص لا ترفع كبقية الخصومات إلى إمام الوقت.
    وأن قتال معاوية إنما كان لطلب قتلة عثمان فحسب لا لطلب الخلافة ، وأنه لم يك يروم الخلافة في قتاله بعد ما كان يعلم نفسه إنه طليق وابن طليق ، ليس ببدري و لا له سابقة ، وأنه لا يستجمع شرايط الخلافة ، وأنه لم تؤهله لها الخيرة والاجماع والانتخاب. هب أن الوقايع هكذا وقعت ـ يا بن حجر ـ ؟! واغضض عن كل ما هنالك من حقائق ثابتة على الضد مما سطر (1) فهلا كانت مناوئة معاوية مع خليفة وقته الإمام المنصوص والمجمع عليه خروجا عليه ؟! وهلا كان الحزب السفياني بذلك بغاتا أهانوا سلطان الله ، و استذلوا الإمارة الحقة ، وخلعوا ربقة الاسلام من أعناقهم ؟! فاستوجبوا إهانة الله ، يجب قتالهم ودرأهم عن حوزة الإيمان ، وكانوا مصاديق للأحاديث المذكورة في أول هذا البحث ص 272 ، 273.
1 ـ راجع الجزء التاسع حتى تقف على حقيقة الأمر.

(307)
    إن معاوية لم يكن خليفة ولا انعقدت له بيعة ، وإنما كان واليا عمن تقدم من ـ الذين تصرمت أيام خلافتهم ، فلزمته بيعة أمير المؤمنين وهو بالشام كما كتب إليه بذلك الإمام عليه السلام ، وكان تصديه للشؤون العامة واليا على أهل ناحيته محتاجا إلى أمر جديد أو تقرير لولايته الأولى من خليفة الوقت ، وكل ذلك لم يكن ، إن لم نقل : إن أمير المؤمنين عليه السلام عزله عما تولاه ، وإنه سلام الله عليه أوفد عليه من يبلغه عنه لزوم الطاعة واللحوق بالجماعة ، كما إنه عليه السلام كتب إليه بذلك.

( حديث الوفود )
وفد علي عليه السلام الأول
    أوفد الإمام عليه السلام في أول ذي الحجة سنة 36 بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي على معاوية وقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله ، وإلى الطاعة والجماعة.
    فأتوه ودخلوا عليه فتكلم بشير بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا معاوية : إن الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله عزوجل محاسبك بعملك ، وجازيك بما قدمت يداك ، وإني أنشدك الله عزوجل أن تفرق جماعة هذه الأمة ، وأن تسفك دماءها بينها.
    فقطع عليه الكلام وقال : هلا أوصيت بذلك صاحبك ؟ فقال بشير : إن صاحبي ليس مثلك ، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل ، والدين ، والسابقة في الاسلام والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال : فيقول ماذا ؟ قال : يأمرك بتقوى الله عزوجل ، و إجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دنياك ، وخير لك في عاقبة أمرك.
    قال معاوية : ونطل دم عثمان رضي الله عنه ؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا.
    فتكلم شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا معاوية ! إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه والله ما يخفى علينا ما تغزو وما تطلب ، إنك لم تجد شيئا تستغوي به الناس ، وتستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم ، إلا قولك : ( قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه ) فاستجاب له سفهاء طغام ،


(308)
وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل ، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ورب متمني أمر وطالبه ، الله عزوجل يحول دونه بقدرته ، وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته ، ووالله مالك في واحدة منهما خير ، لئن أخطأت ما ترجو ، إنك لشر العرب حالا في ذلك ، ولئن أصبت ما تمنى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار ، فاتق الله يا معاوية ! ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله.
    فتكلم معاوية وكان من كلامه : فقد كذبت ولو مت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت ، انصرفوا من عندي ، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف ، وغضب وخرج القوم وأتوا عليا وأخبروه بالذي كان من قوله (1).
    وفد علي عليه السلام الثاني
    ولما دخلت سنة 37 توادعا على ترك الحرب في المحرم إلى انقضائه طمعا في الصلح واختلف فيما بينهما الرسل في ذلك من دون جدوى ، فبعث علي عليه السلام عدي بن حاتم ، ويزيد بن قيس ، وشبث بن ربعي ، وزياد بن حنظلة إلى معاوية ، فلما دخلوا عليه تكلم عدي بن حاتم فحمد الله ثم قال : أما بعد : فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عزوجل به كلمتنا وأمتنا ، و يحقن به الدماء ، ويؤمن به السبل ، ويصلح به ذات البين ، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة ، وأحسنها في الاسلام أثرا ، وقد استجمع له الناس ، وقد أرشدهم الله عزوجل بالذي رأوا ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية ! لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل.
    فقال معاوية :
    كأنك إنما جئت متهددا ، لم تأت مصلحا ، هيهات يا عدي ، كلا والله ، إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان (2) أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه ، وإنك لمن قتلته ، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عزوجل به ، هيهات يا عدي بن
1 ـ تاريخ الطبري 5 : 242 ، الكامل لابن الأثير 3 : 122 ، تاريخ ابن كثير 7 : 256.
2 ـ القعقعة : تحريك الشيئ اليابس الصلب مع صوت. والشنان جمع شن بالفتح : القربة البالية. وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت ، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له.


(309)
حاتم ! قد حلبت بالساعد الأشد.
    فقال له شبث بن ربعي وزياد بن حنظلة : أتيناك فيما يصلحنا وإياك ، فأقبلت تضرب الأمثال ، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل ، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه.
    وتكلم يزيد بن قيس فقال : إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك ، ونحن ـ على ذلك ـ لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة ، وإنك راجع به إلى الألفة والجماعة ، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك ، إن أهل الدين والفضل لم يعدلوا بعلي ، ولن يميلوا بينك وبينه فاتق الله يا معاوية ! ولا تخالف عليا ، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا.
    ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
    فتكلم معاوية وقال : أما بعد : فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة ، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي ، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها ، إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا ؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
    فقال له شبث : أيسرك يا معاوية ! أنك أمكنت من عمار تقتله ؟ فقال معاوية : وما يمنعني من ذلك ؟ والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ، و لكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان.
    فقال شبث : وإله الأرض وإله السماء ما عدلت معتدلا ، لا والذي لا إله إلا هو ، لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام ، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها.
    فقال له معاوية : إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق ، وتفرق القوم عن معاوية فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن حنظلة التميمي فخلا به.
    فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا أخا ربيعة ، فإن عليا قطع أرحامنا ، وآوى قتلة صاحبنا ، وإني أسألك النصر بأسرتك وعشيرتك ، ثم لك عهد الله عزوجل وميثاقه أن أوليك إذا


(310)
ظهرت أي المصرين أحببت. قال زياد : فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عزوجل وأثنيت عليه ثم قلت :
    أما بعد : فإني على بينة من ربي ، وبما أنعم علي ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين. ثم قمت (1)
    وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد بإسناده أن قراء أهل العراق ، وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا ، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني ، وعلقمة بن قيس ، وعامر بن عبد قيس ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له : ما تطلب ؟ قال : أطلب بدم عثمان. قالوا : فمن تطلب به ؟ قال : عليا. قالوا : أهو قتله ؟ قال : نعم وآوى قتلته.
    فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال : كذب ! لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله ، فرجعوا إلى معاوية فقال : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا ، فرجعوا إلى علي فقال : والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت.
    فرجعوا فقال معاوية : فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده.
    فرجعوا ، فقال علي : تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها ، وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل.
    فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال : إن كان الأمر على ما يقول فما له أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن ها هنا ؟ فرجعوا إلى علي فقال علي : إنما الناس مع المهاجرين والأنصار ، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم ، ورضوا وبايعوني ، ولست أستحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الأمة ويشق عصاها ، فرجعوا إلى معاوية فقال : ما بال من ها هنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر ؟ فرجعوا ، فقال علي : إنما هذا للبدريين دون غيرهم ، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي ، وقد بايعني وقد رضي ، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم (2) ها هنا تجد الباغي متجهما تجاه تلك الدعوة الحقة كأنه هو بمفرده ، أو هو و طغام الشام والأجلاف الذين حوله بيدهم عقدة أمر الأمة ، تنحل وتعقد بمشيئتهم
1 ـ تاريخ الطبري 6 : 3 ، الكامل لابن الأثير 3 : 124 ، تاريخ ابن كثير 7 : 258.
2 ـ تاريخ ابن كثير 7 : 258.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس