الغدير ـ الجزء العاشر ::: 291 ـ 300
(291)
ويحب التوابين ويحب المتطهرين. قال : فذهب الفتى بين الناس راجعا. فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي. قال : لا ، ولكن نصحني العراقي (1).
    كان المخذول يشوه سمعة الإمام الطيبة بتلكم القذائف الشائنة طيلة حياته ، ولما استشهد سلام الله عليه لم يرفع اليد عن غيه وبغيه ، فجاء يري الأمة الغوغاء أن ما كان من عدائه المحتدم للإمام عليه السلام إنما كان عن أساس ديني لله فيه ، فكتب إلى عماله : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جائنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا إلي حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، و أهلك الله أهل البغي والعدوان (2) ولما دخل ابن عباس على معاوية بعد مقتل أمير المؤمنين عليه السلام قال : الحمد لله الذي أمات عليا (3).
    ما أغلف قلب هذا الرجل الذي يحسب أن عبد الرحمن بن الملجم من عباد الله وقد قيضه المولى سبحانه للنيل من إمام الهدى ، ويعد ذلك من لطفه وحسن صنعه ، وابن ملجم هو ذلك الشقي المهتوك الخارجي الجاني على الأمة جمعاء بقتل سيدها نفس ـ الرسول صلى الله عليه وآله ، وآتيها بخسارة الأبد ، وهو أشقى الآخرين في لسان النبي الكريم ، أو أشقى الأمة في حديثه الآخر ، وأشد الناس عذابا يوم القيامة ، وعاد قوله صلى الله عليه وآله فيه ( أشقى ) كلقب يعرف به أشقى مراد حيث أنه اطرد ذكره به في موارد كثيرة من الحديث والتاريخ (4).
    وليت شعري أي إله يحمده معاوية في موت علي أمير المؤمنين ؟ الإله جعل مودة على أجر الرسالة في محكم الذكر الحكيم ؟
1 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 402 ، تاريخ الطبري 6 : 24 ، كامل ابن الأثير 3 : 135 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 278.
2 ـ مقاتل الطالبيين ص 24 ، شرح ابن أبي الحديد 4 : 13 ، جمهرة رسائل العرب 2 : 13.
3 ـ تاريخ البداية والنهاية لابن كثير 8.
4 ـ راجع الجزء الأول من كتابنا ص 324 ، 325 ط 2.


(292)
    الإله اتخذ عليا نفسا لنبيه في قصة المباهلة ؟
    الإله أمر رسوله صلى الله عليه وآله بتبليغ ولاية علي عليه السلام وإنه إن لم يفعل فما بلغ رسالته ؟
    الإله يرى بولاية علي عليه السلام إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضاه سبحانه ؟
    الإله أوحى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في علي ثلاث : إنه سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، و قائد الغر المحجلين ؟
    الإله عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في علي إنه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ؟ الإله كان علي أحب خلقه إليه بعد نبيه كما جاء في حديث الطير ؟
    الإله كان يحب عليا وعلي يحبه في حديث خيبر ؟
    الإله اختار عليا وصيا لنبيه بعد ما اختاره نبيا فهو أحد الخيرتين من البشر كما جاء في النص النبوي ؟
    الإله دعاه صاحب الرسالة الخاتمة حينما قال في مائة ألف أو يزيدون : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ؟.
    أيسوغ مثل هذا الحمد والثناء لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ، وصدق نبي الاسلام وما جاء به ؟ أم هل يتصور توجيهه إلى رب محمد وعلي ؟ وقد تمت بهما كلمة الله صدقا وعدلا ، وقامت بهما دعائم الدين الحنيف ، وبسعيهما أدركت الأمة المرحومة سعادة الأبد.
    نعم : له مسرح إن وجه إلى ( هبل ) إله آباء معاوية وإلهه إلى أخريات أيام النبوة إن لم نقل إلى آخر نفس لفظه معاوية ، وقد كان مرتكزا في أعماق قلبه ، ومزيج نفسه طيلة ما لهج بأمثال هذه الأقاويل المخزية.
    ثم أي مسلم يبلغ أمله عند قتل إمام الحق ، ووئد خطة الهدى ؟ إلا من ارتطم في الضلالة ، وسبح في الالحاد سبحا طويلا.
    وأما قوله : وأهلك الله أهل البغي والعدوان.
    فانظر واقرأ قول العزيز الحكيم : كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
    يلهج بهذه الكلمة كأنه بمجلب عن البغي والعدوان ـ وهو


(293)
ولفيفه هم الفئة الباغية بنص النبي الأعظم ـ وهو يندد بمن يحسب أنه تردى بهما. نعم : حن قدح ليس منها.
    هل الباغي هو من خرج على إمام زمانه يناضله وينازله ؟ أو إن إمام الوقت ـ المعصوم بنص الكتاب ـ هو الباغي ؟ ( والعياذ بالله ) وإن كان القوم أعداؤه وهو عدو لهم فهم أعداء الله وأعداء رسوله بغير واحد من النصوص النبوية ، وقد شملتهم دعوة صاحب الرسالة المتواترة ( وعاد من عاداه ، واخذل من خذله ).

نظرة
فيما تشبث به معاوية في قتال علي عليه السلام
    الثاني من الأمرين اللذين تشبث بهما ابن آكلة الأكباد في تثبيط الملأ عن نصرة الإمام عليه السلام وتأليبهم إلى قتاله : إن عنده ثار عثمان وعليه ترته ، وللحاكم في هذه القضية أن ينظر أولا إلى أن معاوية نفسه لم يشهد وقعة عثمان حتى يبصر المباشر لقتله ، وإنما تثبط عن نصرته بل كان يحبذ قتله طمعا في أن ينال الملك (1) بعده بحججه التافهة.
    وثانيا إلى أن أمير المؤمنين سلام الله عليه كان غائبا عن المدينة المنورة عند وقوع الواقعة (2) فكيف تصح مباشرته لقتل أو قتال ؟! أو كان ساكنا في عقر داره بالمدينة لا له ولا عليه.
    وثالثا إلى شهادات الزور المتولدة من دسائس ابن حرب ترمي أبرأ الناس من ذلك الدم المراق ، بإيعاز من ابن النابغة ذلك العامل الوحيد في قتل عثمان ، وقد سمعت عقيرته أذن الدنيا : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع (3).
    قال الجرجاني : لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتابا وقال : ما ترى ؟ قال : امض الرأي الأول.
    فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه.
    ثم قال : ما ترى في علي ؟ قال : أرى فيه خيرا ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ، ورأس
1 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع ص 150 ـ 153 ط 1.
2 ـ مر حديثه في الجزء التاسع ص 243.
3 ـ انظر ما فصلناه في الجزء التاسع ص 136 ـ 138 ط 2.


(294)
أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدو لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس : إن عليا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل ، فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا.
    فكتب إلى شرحبيل : إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر فظيع ، فأقدم.
    ودعا معاوية يزيد بن أسد ، وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، و مخارق بن الحارث ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصته ، وبني عم شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه : إن عليا قتل عثمان ، فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقال إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل و ختنه ، وكان أفقه أهل الشام فقال : يا شرحبيل ! إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، إنه قد القي إلينا قتل عثمان ، وإن عليا قتل عثمان (1) فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه ؟ لا تهتك نفسك وقومك ، فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك ، فأبي شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكا.
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ ويا شرح إن الشام شأمك ما بها فإن ابن حرب ناصب لك خدعة فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا فلا تبغين حرب العراق فإنها وإن عليا خير من وطئ الحصى بود علي ما تريد من الأمر سواك فدع قول المضلل من فهر تكون علينا مثل راغية البكر (2) هنيئا له ، والحرب قاصمة الظهر تحرم أطـهار النساء من الذعر من الهاشميين المداريك للوتر

1 ـ في شرح ابن أبي الحديد : إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان ، ولهذا يريدك.
2 ـ الراغية : الرغاء ، البكر : ولد الناقة. مثل يضرب في التشاؤم. انظر ثمار القلوب 282.


(295)
له في رقاب الناس عهد وذمة فبايع ولا ترجع على العقب كافرا ولا تسمعن قول الطغام فإنما وماذا عليهم أن تطاعن دونهم فإن غلبوا كانوا علينا أئمة وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا يهون على عليا لوي بن غالب فدع عنك عثمان بن عفان إننا على أي حال كان مصرع جنبه كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر أعيذك بالله العزيز من الكفر يريدوك أن يلقوك في لجة البحر عليا بأطـراف المثقفة السمر ؟ وكنا بحمد الله من ولد الظهر (1) وكان علي حربنا آخر الدهر دماء بني قحطان في ملكهم تجري لك الخير ، لا ندري وإنك لا تدري فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو
    قال : لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شرحبيل ! إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة علي ، وعلي خير الناس (2) لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك ، وإنما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا.
    فقال شرحبيل : أخرج فانظر.
    فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطؤون له ، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان.
    فخرج مغضبا إلى معاوية فقال : يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان ، ووالله لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك.
    قال معاوية : ما كنت لأخالف عليكم وما أنا إلا رجل من أهل الشام.
    قال : فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا.
    قال : فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل ! فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث إليه حصين : أن زرنا ، فإن عندنا شرحبيل بن السمط ، فاجتمعا عنده ، فتكلم شرحبيل فقال : يا جرير ! أتيتنا بأمر ملفف (3) لتلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطرأت
1 ـ يقال : فلان من ولد الظهر ، بالفتح. أي ليس منا. وقيل معناه : إنه لا يلتفت إليه.
2 ـ هل تجتمع كلمة الرجل هذه مع سبابه المقذع عليا وقوارصه التي أوعزنا إليها ؟ هذا هو النفاق وهكذا يكون المنافق ذا لسانين ووجهين.
3 ـ في شرح ابن أبي الحديد : ملفق.


(296)
عليا وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عما قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال : يا شرحبيل أما قولك : إني جئت بأمر ملفف. فكيف يكون أمرا ملففا وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل على رده طلحة والزبير ؟! وأما قولك : إني ألقيتك في لهوات الأسد. ففي لهواتها ألقيت نفسك ، وأما خلط العراق بالشام فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. وأما قولك : إن عليا قتل عثمان.
    فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك ملت إلى الدنيا ، وشئ كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص.
    فبلغ معاوية قول الرجلين ، فبعث إلى جرير فزجره ولم يدر ما أجابه أهل الشام وكتب جرير إلى شرحبيل :
شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى وقل لابن حرب : مالك اليوم حرمة شرحبيل إن الحق قد جد جده فأرود ولا تفرط بشيئ نخافه ولا تك كالمجري إلى شر غاية وقال ابن هند في علي عضيهة وما لعلي في ابن عفان سقطة وما كان إلا لازما قعر بيته فمن قال قولا غير هذا فحسبه وصي رسول الله من دون أهله فمالك في الدنيا من الدين من بدل تروم بها ما رمت فاقطع له الأمل وإنك مأمون الأديم من النغل عليك ولا تعجل فلا خير في العجل فقد خرق السربال واستنوق الجمل ولله في صدر ابن أبي طالب أجل بأمر ولا جلب عليه ولا قتل (1) إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل من الزور والبهتان قول الذي احتمل وفارسه الأولى به يضرب المثل (2)
    فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر ، وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. ولا والله لا اعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة ، فاستتر له القوم ولفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويعظمون عنده عثمان ويرمون به عليا ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ، وبلغ
1 ـ في شرح ابن أبي الحديد : بقول ولا ما لا عليه ولا قتل. الممالاة : المساعدة.
2 ـ في شرح ابن أبي الحديد : ومن باسمه في فضله يضرب المثل.


(297)
ذلك قومه فبعث ابن أخت له من بارق ـ وكان يرى رأي علي بن أبي طالب فبايعه بعد ، وكان ممن لحق من أهل الشام وكان ناسكا ـ فقال :
لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى ولفف قوما يسحبون ذيولهم فألفى يمانيا ضعيفا نخاعه فطأطأ لها لما رموه بثقلها ليأكل دنيا لابن هند بدينه وقالوا علي في ابن عفان خدعة ولا والذي أرسى ثبيرا مكانه وما كان إلا من صحاب محمد شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله جميعا وأولى الناس بالذنب فاعله إلى كل ما يهوون تحدى رواحله ولا يرزق التقوى من الله خاذله ألا وابن هند قبـل ذلك آكله ودبت إليه بالشنان غوائله لقد كف عنه كفه ووسائله وكلهم تغلي عليه مراجله
    فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال : هذا بعيث الشيطان ، الآن امتحن الله قلبي ، والله لأسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنني. فهرب الفتى إلى الكوفة. وكاد أهل الشام أن يرتابوا.
    وبعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط فقال : إنه كان من إجابتك الحق ، وما وقع فيه أجرك على الله ، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإن هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتم إلا برضا العامة ، فسر في مدائن الشام ، وناد فيهم : بأن عليا قتل عثمان ، وأنه يجب المسلمين أن يطلبوا بدمه ، فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيبا ، فقال : يا أيها الناس ! إن عليا قتل عثمان بن عفان ، وقد غضب له قوم فقتلهم ، وهزم الجميع وغلب على الأرض ، فلم يبق إلا الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض به غمار الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدوا وانهضوا ، فأجابه الناس إلا نساك أهل حمص ، فإنهم قاموا إليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى ، وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث وكان صديقا له :
شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا وشحناء دبت بين سعد وبينه ولكن لبغض المالكي جرير فأصبحت كالحادي بغير بعير


(298)
وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت أتفصل أمرا غبت عنه بشبهة بقول رجال لم يكونوا أئمة وما قول قوم غائبين تقاذفوا وتترك إن الناس أعطوا عهودهم إذا قيل : هاتوا واحدا يقتدى به لعلك أن تشقى الغداة بحربه قريشا فيا لله بعد نصير وقد حار فيها عقل كل بصير ولا للتي لقوكها بحضور من الغيب ما دلاهم بغرور عليا على أنس به وسرور نظيرا له لم يفصحوا بنظير شرحبيل ما ما جئته بصغير (1)
    راجع كتاب صفين لنصر بن مزاحم 49 ـ 57 ، الاستيعاب ترجمة شرحبيل 1 : 589 أسد الغابة 2 : 392 ، الكامل لابن الأثير 3 : 119 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 139 ، 249 ، 250.
    فبهذه الصورة البشيعة من الشهادات المزورة والكتب المختلقة تمت بيعة معاوية لقتال علي أمير المؤمنين.
    ورابعا : إلى أن عثمان قتله رجال مجتهدون من المهاجرين والأنصار ، ووجوه أصحاب محمد صلى الله عليه وآله العدول ، بعد إقامة الحجة عليه ، وإثبات شذوذه عن الكتاب والسنة وإهدار دمه بحكم الكتاب (2) فليس على القوم قود ولا قصاص ، ولم يك مولانا أمير المؤمنين إلا رجلا من المهاجرين أورد كما أوردوا ، وأصدر كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى.
    وقد كتب بهذا أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية (3) وجاء الحجاج به في كلمات غير واحد من الصحابة مثل قول الصحابي العظيم هاشم المر قال المذكور ج 9 : 123 و في هذا الجزء ص 290 ، وقول عمار بن ياسر الممدوح بالكتاب والسنة الذي أسلفناه في ج 9 : 112 ، وقول أبي الطفيل الشيخ الصحابي الكبير الآنف في ج 9 : 140 : وقول عبد الرحمن بن عثمان السابق في ج 9 : 159 ، فما ذنب علي عليه السلام إن آواهم ونصرهم
1 ـ في شرح ابن أبي الحديد : فليس الذي قد جئته بصغير.
2 ـ راجع ما مر في الجزء التاسع 169 ـ 209.
3 ـ راجع ما أسلفناه في ج 9 ص 158 ـ 164.


(299)
وأيدهم ودفع عنهم عادية الباغين.
    وخامسا : إلى أن الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين عليه السلام أو الذين تحكمت بينه وبينهم آصرة المودة لم يكونوا كلهم قتلة عثمان ، ولا باشروا شيئا من أمره ، و لم يكن لأكثرهم في الأمر ورد ولا صدر ، وإنما كان فيهم من أولئك الصحابة العدول أناس معلومون آووا إلى إمام الحق ، فبأي حجة شرعية كان ابن صخر يستبيح قتل الجميع واستقرأهم في البلاد بعد مقتل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وقبله ، فقتلهم تقتيلا ؟!.
    وسادسا : إلى أن معاوية لم يكن ولي دم عثمان وإنما أولياؤه ولده ، وإن كان لهم حق القصاص فعجزوا عن طلبه فعليهم رفع الأمر إلى خليفة الوقت وهو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لينظر في أمرهم ، ويحكم بحكم الله البات وهو أقضى الأمة بنص الرسول الأمين.
    نعم : كانت لمعاوية تراة عند أمير المؤمنين عليه السلام بأخيه حنظلة بن أبي سفيان ، وجده لأمه عتبة بن ربيعة ، وخاله الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وأبناء عمه العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمر وبن أمية.
    لكنه لم ينبس عنهم ببنت شفة لأنها ما كانت تنطلي عند المسلمين فإنهم وثنيون مشركون حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله فذاقوا وبال أمرهم ، وإنما تترس بدم عثمان بضرب من السيرة الجاهلية من صحة قيام أي فرد من أفراد العشيرة بدم أي مقتول منها وإن بعدت بينهم الرحم والقرابة ، وهذه السيرة الغير المشروعة كان يرن صداها في مسامع أهل الشام البعداء عن مبادئ الدين وطقوسه ، ومن ثم استهواهم معاوية ، واستحوذ عليهم بذلك التدجيل ، ولم تكن تلك الحرب الزبون إلا أنها إحن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شمس ، ولم تك تخفى هذه الغاية على أي أحد حتى المخدرات في الحجال (1).
    وسابعا : إلى أن أول واجب على معاوية أن يتنازل إلى ما لزمه من البيعة الحقة فيدخل في جماعة المسلمين ، ولا يشق عصاهم بالتقاعس عنها ، ثم يرفع الخصومة إلى صاحب البيعة ، فيرى فيه رأيه كما جاء في كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية من قوله :
1 ـ انظر ما مر من كلمة أم الخير في الجزء التاسع ص 371 ط 2.

(300)
    وأما قولك : ادفع إلي قتلة عثمان. فما أنت وذاك ؟ وها هنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك (1) فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع (2) إلى البيعة التي لزمتك [ لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها النظر ] وحاكم القوم إلي (3).
    وفي كتاب آخر له عليه السلام كتبه إليه : وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكمت القوم إلي حملتك وإياهم على كتاب الله ، وأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن.
    ولعمري يا معاوية ! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه ، إلا أن تتجنى (4) فتجن ما بدا لك (5).
    وثامنا إلى أن طلحة والزبير قد نهضا قبل معاوية بتلك الغاية التي هو راميها ، وأخرجا حبيسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خدرها ، وحاربهما الإمام عليه السلام بعد ما أتم عليهما الحجة ، وكتب إليهما : وقد زعمتما أن قتلت عثمان ، فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة (6) ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل ، وزعمتما أني آويت قتلة عثمان ، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ، ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم ، وما أنتما وعثمان ؟ إن كان قتل ظالما أو مظلوما ، وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما.
    وإخراجكما أمكما (7).
1 ـ في رواية المبرد : وبعد : فما أنت وعثمان ؟ إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه.
2 ـ في رواية المبرد : فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلى.
3 ـ الإمامة والسياسة 1 : 88 ، الكامل للمبرد 1 : 225 ، العقد الفريد 2 : 284 ، 285 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 252.
4 ـ تجنى عليه : إدعى عليه ذنبا لم يفعله. فتجن : أي تستره وتخفيه.
5 ـ الإمامة والسياسة 1 : 81 ، العقد الفريد 2 : 284 ، نهج البلاغة 2 : 7 ، 124 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 248 ، ج 3 : 300.
6 ـ نظراء سعد بن أبي وقاص ، عبد الله بن عمر ، محمد بن مسلمة.
7 ـ نهج البلاغة 2 : 112 ، الإمامة والسياسة 1 : 62.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس