الغدير ـ الجزء العاشر ::: 281 ـ 290
(281)
وعرف انطباقها عليه بتمام معنى الكلمة ، ثم ينحاز عنه ويتخذ سبيلا غير سبيله فيبغي به الغوائل ، ويتربص به الدوائر ، ويقع فيه بملء فمه وحشو فؤاده ، ويرميه بقذائف الحقد والشنئان ؟! لعلك لا تجد مسلما هو هكذا غير من ألهته العصبية عن الهدى ، و تدهورت به إلى هوة الشهوات السحيقة ، ولعلك لا تجد ذلك الرجل البائس إلا ابن أبي سفيان المجابه للكتاب والسنة بعد الانكار بقلبه بالهزء والسخرية بلسانه ، فعل مردة الوقت وطواغيت الأمة ، فتراه عند ما روى له سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة أحاديث مما سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام ونهض ليقوم ضرط له معاوية استهزاء كما مر حديثه في هذا الجزء ص 258.
    وحينما ذكر له أبو ذر الغفاري ذلك الصادق المصدق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إست معاوية في النار. جابهه بالضحك وأمر بحبسه.
    ولما بقر عبد الرحمن بن سهل الأنصاري روايا خمر لمعاوية وبلغه شأنه قال : دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله (1).
    يستهزأ إنكاره على تلك الكبيرة الموبقة ، وليت شعري بم هذا الهزأ والسخرية ؟ أبالصحابي العادل ؟ أم بمن استند إليه في حكمه بتحريم الخمر ؟ أم بالشريعة التي جاءت به ؟ إن ابن آكلة الأكباد بمقربة من كل ذلك ، أو إنه لا يدين الله بذلك الحكم البات ؟ ولما سمع من عمرو بن العاص ما حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله لعمار تقتلك الفئة الباغية.
    قال لعمرو : إنك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدث بالحديث ، وأنت ترحض في بولك ، أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي وأصحابه ، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا.
    وقال : أفسدت علي أهل الشام ، أكل ما سمعت من رسول الله تقوله ؟ (2) أهذا هزء ؟ أم أن معاوية بلغ من السفاهة مبلغا يحسب معه أن أمير المؤمنين هو قاتل عمار ، إذن فما قوله في سيد الشهداء حمزة وجعفر الطيار ؟ (3) أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهما يوم ألقاهما بين رماح المشركين وسيوفهم ؟ لا تستبعد مكابرة الطاغية
1 ـ راجع ما مر في هذا الجزء ص 181.
2 ـ أسلفنا تفصيله في الجزء الأول ص 329 ط 2.
3 ـ بهذا أجاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن كلام الرجل كما في تاريخ الخميس 2 : 277.


(282)
بقوله : إن رسول الله قتلهما. أو إن الرجل وجد حمرا مستنفرة فألجمها وألجم مراشدها بتلكم التمويهات ؟ وكل هذه معقولة غير مستعصية على استقراء أعمال معاوية وأفعاله.
    ثم ماذا يعني بقوله : أفسدت علي...
    أيريد كبحا أمام جري السنة الشريفة ؟ أو يروم إسدال غطاء على مجاليها ؟ أو الإعراض عن مدلولها لأنه لا يلائم خطته ؟ ولا يستبعد شيء من ذلك ممن طبع الله على قلبه وهو ألد الخصام.
    ولما حدثه عبادة بن الصامت حديث حرمة الربا (1) وقد نطق بها القرآن الكريم فقال : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره.
    فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية.
    ولما سمع من عبادة حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن هذا لا يقول شيئا.
    فلم يك يرى قول رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يعبأ به ويصاخ إليه ، ويعدل عليه.
    ولما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري (2) فقال له معاوية : يا أبا قتادة ! تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار ! ما منعكم ؟ قال : لم يكن معنا دواب.
    فقال معاوية : فأين النواضح ؟ قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر.
    قال : نعم يا أبا قتادة ! قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : إنا سنرى بعده أثرة.
    قال معاوية : فما أمركم به عند ذلك ؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا حتى تلقوه.
    قال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه قول معاوية :
ألا أبلغ معاوية بن صخر فأنا صابرون ومنظروكم أمير المؤمنين عني كلامي إلى يوم التغابن والخصام (3)
    وحق القول : إن المخذول لا يخضع لهتاف النبوة ، ولا إنهم سوف يلقون صاحبها ، ويرفعون إليه ظلامتهم ، فيحكم لهم على من استأثر عليهم ، وحسبه ذلك إلحادا وبغيا.
1 ـ مر حديثه في هذا الجزء ص 185.
2 ـ في رواية ابن عساكر : عبادة بن صامت الأنصاري.
3 ـ الاستيعاب 1 : 255 ، تاريخ ابن عساكر 7 : 213 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 134.


(283)
    وفي رواية أن أبا أيوب أتى معاوية فشكا إليه أن عليه دينا فلم ير منه ما يحب فرأى أمرا كرهه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنكم سترون بعدي أثرة. قال : فأي شيء قال لكم ؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا. قال : فوالله لا أسألك شيئا أبدا (1).
    وفي لفظ : دخل أبو أيوب على معاوية فقال : صدق رسول الله إنكم سترون بعدي أثرة فعليكم بالصبر.
    فبلغت معاوية فقال : صدق رسول الله أنا أول من صدقه.
    فقال أبو أيوب : أجرأة على الله وعلى رسوله ؟ لا أكلمه أبدا ولا يأويني وإياه سقف بيت. تاريخ ابن عساكر 5 : 42.
    وفي لفظ الحاكم : إن أبا أيوب أتى معاوية فذكر حاجة له فجفاه ولم يرفع به ورأسا فقال أبو أيوب : أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أنه سيصيبنا بعده أثرة قال : فبم أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض. قال : فاصبروا إذا. فغضب أبو أيوب وحلف أن لا يكلمه أبدا. الخصايص الكبرى 2 : 15.
    وحضر أبو بكرة مجلس معاوية فقال له : حدثنا يا أبا بكرة : فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك.
    قال عبد الرحمن بن أبي بكرة : وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتى أخرجنا (2).
    ولعلك تعرف خبيئة ضمير معاوية بما حدثه ابن بكار في ( الموفقيات ) عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي قال : سمعت المدائني يقول : قال مطرف بن المغيرة : وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية.
    ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء فرأيته مغتما فانتطرته ساعة وظننت إنه لشيء حدث فينا أو في عملنا فقلت له : مالي أراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني إني جئت من عند أخبث الناس.
    قلت له : وما ذاك ؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنك قد بلغت منا يا أمير المؤمنين ! فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا ، فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم
1 ـ تاريخ ابن عساكر 5 : 41.
2 ـ أخرجه ابن سعد كما في النصايح الكافية 159 ط 1.


(284)
اليوم شيء تخافه.
    فقال لي : هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين ، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعل به ، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمدا رسول الله. فأي عمل يبقى مع هذا لا أم لك ، والله إلا دفنا دفنا ؟ (1).
    فهل تجد إذن عند معاوية إذعانا بما جاء من الكتاب في علي عليه السلام ؟ أو تراه مخبتا إلى شيء من الكثير الطيب الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الثناء على الإمام الطاهر ؟ حينما عاداه وأبغضه ونقصه وسبه وهتك حرماته وآذاه وقذفه بالطامات وحاربه وقاتله و تخلف عن بيعته وخرج عليه.
    أو ترى أن يسوغ لمسلم صدق نبيه ولو في بعض تلكم الآثار والمآثر أن يبوح بما كتبه ابن هند إلى الإمام عليه السلام من الكلم القارصة بمثل قوله في كتاب له إليه عليه السلام : ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها : إن المدينة لتنفي خبثها ، كما ينفي الكير خبث الحديد.
    فلعمري لقد صح وعده ، وصدق قوله ، ولقد نفت خبثها وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها فأقمت بين المصرين ، وبعدت عن بركة الحرمين ، ورضيت بالكوفة بدلا من المدينة ، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضا عن مجاورة خاتم النبوة.
    ومن قبل ذلك ما عيبت خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياتهما فقعدت عنهما ، و ألبت عليهما ، وامتنعت من بيعتهما ، ورمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا ، ورقيت سلما وعرا ، وحاولت مقاما دحضا (2) وادعيت ما لم تجد عليه ناصرا ، ولعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت إلا فسادا واضطرابا ، ولا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا وارتدادا ، لأنك الشامخ بأنفه ، الذاهب بنفسه ، المستطيل على الناس بلسانه ويده.
1 ـ مروج الذهب 2 : 341.
2 ـ مكان دحض بالفتح ويحرك : زلق.


(285)
    وها أنا سائر إليك في جمع من المهاجرين والأنصار ، تحفهم سيوف شامية ، و رماح قحطانية ، حتى يحاكموك إلى الله ، فانظر لنفسك وللمسلمين وادفع إلي قتلة عثمان فإنهم خاصتك وخلصاؤك المحدقون بك ، فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج والاصرار على الغي والضلال ، فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك وفي أهل العراق معك : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
    وقوله في كتاب له : وإن كنت موائلا فازدد غيا إلى غيك ، فطالما خف عقلك ، ومنيت نفسك ما ليس لك ، والتويت على من هو خير منك ، ثم كانت العاقبة لغيرك ، و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك.
    وقوله في كتاب له أيضا : فدعني من أساطيرك ، واكفف عني من أحاديثك ، و أقصر عن تقولك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترائك من الكذب ما لم يقل ، وغرور من معك والخداع لهم ، فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ، ويعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل.
    وقوله من كتاب آخر له : فما أعظم الرين على قلبك ، والغطاء على بصرك ، الشره من شيمتك ، والحسد من خليقتك.
    وقوله في كتاب له إليه عليه السلام : فدع الحسد ، فإنك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة جهادك بشرة نخوتك ، فإن الأعمال بخواتيمها ، ولا تمحص سابقتك بقتال من لا حق لك في حقه ، فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، ولا تبطل إلا حجتك ، ولعمري إن ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحق ، فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق ، وتعوذ من نفسك ، فإنك الحاسد إذا حسد.
    وقوله من كتاب له إليه عليه السلام : فلما استوثق الاسلام وضرب بجرانه ، عدوت عليه ، فبغيته الغوائل ، ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه وأغريت به ، وقعدت ـ حين استنصرك ـ عن نصره ، وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته ، وما يوم المسلمين منك بواحد ، لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ، و


(286)
رمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته ، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطالت مدته وسررت بقتله ، وأظهرت الشماتة بمصابه ، حتى إنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه ، ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان.. إلخ.
    وقوله في كتاب له إليه عليه السلام : أما بعد : فإنا كنا نحن وإياكم يدا جامعة ، وألفة أليفة ، حتى طمعت يا بن أبي طالب ! فتغيرت وأصبحت تعد نفسك قويا على من عاداك بطغام أهل الحجاز ، وأوباش أهل العراق ، وحمقى الفسطاط ، وغوغاء السواد ، وأيم الله لينجلين عنك حمقاها ، ولينقشعن عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء.
    قتلت عثمان بن عفان ، ورقيت سلما أطلعك الله عليه مطلع سوء ، عليك لا لك وقتلت الزبير وطلحة ، وشردت أمك عائشة ، ونزلت بين المصرين فمنيت وتمنيت ، وخيل لك أن الدنيا فد سخرت لك بخيلها ورجلها ، وإنما تعرف أمنيتك ، لو قد زرتك في المهاجرين من الشام بقية الاسلام ، فيحيطون بك من ورائك ، ثم يقضي الله علمه فيك ، والسلام على أولياء الله (1).
    فأي أحد من غوغاء الناس ومن جهلة الأمة يحسب في صاحب هذه الكلمات المخزية نزعة دينية ؟ أو حياءا وانقباضا في النفس ولو قيد شعرة ؟ أو بخوعا إلى كتاب الله وهو يطهر أهل البيت وعلي سيد العترة ، ويراه نفس النبي صلى الله عليه وآله وقرن ولايته بولاية الله وولاية رسوله وطاعته بطاعتهما ؟! نعم : هكذا فليكن رضيع ثدي هند ، وربيب حجر حمامة ، والناشئ تحت راية البغاء ، ووليد بيت أمية ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، هكذا يسرف معاوية في القول ، ويجازف مفرطا فيه ، وما يلفظ من قول إلا ولديه رقيب عتيد ، وهو سرف الفؤاد لا يعبأ بما تلقته الأمة بالقبول من قول نبيها في علي عليه السلام : أنت الصديق الأكبر ، أنت الفاروق الذي تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب الدين.
    وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض.
1 ـ توجد هذه الكتب على تفصيلها في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 41 ، 412 ، 448 ، و ج 4 : 50 ، 51 ، 201 ، وهي مبثوثة في جمهرة الرسائل 1 ص 398 ـ 483.

(287)
    وقوله صلى الله عليه وآله : علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة.
    إلى مئات أو ألوف مما جاء في علي عليه السلام بلسان سيد العالمين نبي الأمة صلى الله عليه وآله.
    بلغ الطاغية من عداء سيد العترة حدا لا يستطيع أن يسمع اسمه عليه السلام وكان ينهى عن التسمية به ، يروى أن علي بن أبي طالب عليه السلام افتقد عبد الله بن العباس فقال : ما بال أبي العباس لم يحضر ؟ فقالوا : ولد له مولود فلما صلى علي قال : امضوا بنا إليه فأتاه فهناه فقال : شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ، ما سميته ؟ قال : أو يجوز لي أن اسميه حتى تسميه.
    فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال : خذه إليك أبا الأملاك قد سميته عليا وكنيته أبا الحسن. فلما قام معاوية قال لابن عباس : ليس لكم اسمه وكنيته قد كنيته أبا محمد. فجرت عليه (1) فكان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه (2) فكان الناس يبدلون أسماء أولادهم ، قاله زين الدين العراقي.

ـ 17 ـ
هنات وهنابث
في ميزان ابن هند
    1 ـ لما قتل نعيم بن صهيب بن العلية فأتى ابن عمه وسميه نعيم بن الحارث بن العلية معاوية ، وكان معه ، فقال : إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه. فقال : لا ندفنهم فليسوا أهلا لذلك ، فوالله ما قدرنا على دفن عثمان معهم إلا سرا قال : والله لتأذنن في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك. فقال له معاوية : ويحك ترى أشياخ العرب لا تواريهم وأنت تسألني دفن ابن عمك. ثم قال له : ادفنه إن شئت أو دع. فأتاه فدفنه (3).
    2 ـ لما قتل عبد الله بن بديل أقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله فألقى عمامته على وجهه وترحم عليه وكان صديقه ، فقال معاوية :
1 ـ كامل المبرد 2 : 157.
2 ـ تهذيب التهذيب 7 : 319.
3 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 293 ط مصر ، تاريخ الطبري 6 : 14 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 489.


(288)
اكشف عن وجهه فقال : لا والله لا يمثل به وفي روح. فقال معاوية : اكشف عن وجهه فإنا لا نمثل به فقد وهبته لك (1). وذكر النسابة أبو جعفر البغدادي في [ المحبر ] ص 479 مما كتبه معاوية إلى زياد بن سلمة : من كان على دين علي ورأيه فاقتله وامثل به يأتي الحديث بتمامه.
    3 ـ قد كان معاوية ( يوم صفين ) نذر في سبي نساء ربيعة وقتل المقاتلة فقال في ذلك خالد بن المعمر :
تمنى ابن حرب نذرة في نسائنا ونمنح ملكا أنت حاولت خلعه ودون الذي ينوي سيوف قواضب بني هاشم قول امرئ غير كاذب (2)
    4 ـ ذكر الباوردي أن عمير بن قرة الليثي الصحابي ممن شهد صفين من الصحابة ، وكان شديدا على معاوية وأهل الشام حتى حلف معاوية لئن ظفر به ليذيبن الرصاص في أذنيه (3).
    هذه هنات موبقة ومحظورات مسلمة من بوائق ابن هند الكثيرة قد ارتكبها أو صمم أن يقترفها في صفين ، فهل من الدين الحنيف منعه عن دفن من قتل تحت راية الحق مع أمير المؤمنين عليه السلام مع وجوب الاسراع في دفن كل مؤمن ؟ فهل كان أولئك الصلحاء من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان عند معاوية خارجين عن الدين ؟ أو أنه كان يتبع فيهم هواه المردي ، ويشفي بذلك غيظه منهم على نصرتهم الحق ؟ وكم عند معاوية من مخازي أمثال هذه تقع عن الدين المبين بمعزل ؟!.
    أفهل تسوغ مثلة المسلم المخالف هواه هوى ابن آكلة الأكباد ؟ والمثلة محرمة حتى بالحيوان حتى بالكلب العقور (4) فكيف بصلحاء المؤمنين ؟ وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من مثل بالحيوان (5).
1 ـ كتاب صفين ص 277 ط مصر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 486.
2 ـ كتاب صفين ص 231 ط مصر.
3 ـ الإصابة لابن حجر 3 : 35.
4 ـ أخرجه الطبراني من طريق على أمير المؤمنين وذكره الزيلعي في نصب الراية 3 : 120 ، والسرخسي في شرح السير الكبير 1 : 78.
5 ـ أخرجه البخاري في صحيحه باب ما يكره من المثلة من طريق ابن عمر.


(289)
    وقد جاء حديث النهي عن المثلة من طريق علي أمير المؤمنين ، وأنس وابن عمر ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري ، وسمرة بن جندب ، وزيد بن خالد ، وعمران بن حصين ، ومغيرة بن شعبة ، والحكم بن عمير ، وعائذ بن قرط ، وأبي أيوب الأنصاري ، ويحيى ابن أبي كثير ، وأسماء بنت أبي بكر.
    وأحاديثهم مبثوثة في صحيحي البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ومسند أحمد ، ومعجم الطبراني.
    راجع نصب الراية للزيلعي 3 : 118 ـ 121.
    فما المسوغ عندئذ لابن هند مثلة من كان على دين علي ورأيه ، ودينه هو دين محمد الذي جاء بالاسلام المقدس ؟ وهل ينعقد نذر المعصية بسبي نساء ربيعة المسلمات إن تغلب عليهم لولاء بعولتهن عليا أمير المؤمنين ؟ وهو محرم في شرع الاسلام ، ولا ينعقد النذر إلا في طاعة ولا أقل من الرجحان في متعلق النذر كما مر بيانه في الجزء الثامن ص 79 ط 1 ، فبأي كتاب أم بأية سنة يسوغ هذا النذر لصاحبه إن كان من أهلهما ، ويسع له أن يقول : لله علي كذا ؟.
    وهل يجوز في شرع الاسلام اليمين بإذابة الرصاص في أذن مسلم صحابي عادل لا يتبع أهواء معاوية ، ولا يخبت إلى ضلالاته ؟ وهل كان يحلف الرجل بإله محمد وعلي صلوات الله عليهما وآلهما وهما وربهما برآء عن مثل هذا الحلف وصاحبه ؟ أو كان يقصد إله آبائه دعائم الشرك وعبدة ( هبل ) حملة الأوزار المستوجبين النار ؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ـ 18 ـ
قذائف موبقة
في صحائف ابن آكلة الأكباد
    هاهنا في أي كفة تجد معاوية وأعماله الشاذة عن الاسلام ؟ فهل تراه أثقل ميزانه بالصالحات ؟ أو أنه خففها بكل موبقة مهلكة ؟ وأنه كان يطففها ويخفف المكيال كيفما وزن وكال ، وليت ابن هند أدلى بما عنده من الشبه في هذه القضية ـ قتاله عليا عليه السلام ـ لنمعن النظر فيها إمعان استشفاف لما ورائها لكنه فات المخذول أن يدلي بشيء من ذلك


(290)
    لا تعارضه البرهنة ، ولا يفنده المنطق غير أمرين أراد بهما تلويثا لساحة قدس الإمام وإن كان هو كشف عن عورته ساعد عرف الناس كذبه في الأمرين جميعا.
    الأول : نسبة الالحاد إليه سلام الله عليه وإنه لا يصلي ، هذا وقد وضح الاسلام بسيفه ، وقامت الصلاة بأيده ، يموه بذلك على الرعرعة الدهماء من الشاميين.
    قال الجاحظ : إن معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك ، وصد عن سبيلك ، فالعنه لعنا وبيلا ، وعذبه عذابا أليما.
    وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز (1).
    وأخرج ابن مزاحم أن يوم صفين برز شاب من عسكر معاوية يقول :
أنا ابن أرباب الملوك غسان أنبأنا أقوامنا بما كان والدائن اليوم بدين عثمان إن عليا قتل ابن عفان
    ثم شد فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثم جعل يلعن عليا ويشتمه ويسهب في ذمه ، فقال له هاشم المرقال : إن هذا الكلام بعده الخصام ، وإن هذا القتال بعده الحساب ، فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به ، قال : فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي ، وإنكم لا تصلون ، وأقاتلكم أن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.
    فقال له هاشم : وما أنت وابن عفان ؟ إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس ، حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين. وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط. قال الفتى : أجل أجل ، والله لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع ، ويشين ولا يزين. فقال له هاشم : إن هذا الأمر لا علم لك به ، فخله وأهل العلم به. قال : أظنك والله قد نصحتني.
    وقال له هاشم : وأما قولك : إن صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله ، وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله ، وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب ، لا ينامون الليل تهجدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.
    قال الفتى : يا عبد الله إني لأظنك امرءا صالحا ، وأظنني مخطئا آثما ، أخبرني هل تجد لي من توبة ؟ قال : نعم ، تب إلى الله يتب عليك ، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات
1 ـ راجع ما أسلفنا في الجزء الثاني ص 102 ط 2.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس