الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: 41 ـ 50
(41)
    مكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له ليأخذ له من زياد أمانا حتى يبعث به إلى معاوية فجمع محمد جماعة منهم جرير بن عبد الله ، وحجر بن يزيد ، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر ، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية فأجابهم فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد فلما رآه قال : مرحبا بك أبا عبد الرحمن ! حرب في أيام الحرب ، وحرب وقد سالم الناس.
    على أهلها تجنى براقش.
    فقال حجر : ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وإني لعلى بيعتي.
    فقال : هيهات هيهات يا حجر ! أتشج بيد وتأسو بأخرى ؟ وتريد إذا أمكننا الله منك أن نرضى ؟ كلا والله لأحرصن على قطع خيط رقبتك.
    فقال : ألم تؤمني حتى أتى معاوية فيرى في رأيه ؟ قال : بلى ، إنطلقوا به إلى السجن ، فلما مضى به قال : أما والله لولا أمانه ما برح حتى يلقط عصبه.
    فأخرج وعليه برنس في غداة باردة فحبس عشر ليال ، وزياد ماله غير الطلب لرؤس أصحاب حجر.

عمرو بن الحمق
    خرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل فأتيا جبلا فكمنا فيه وبلغ عامل ذلك الرستاق يقال له : عبيد الله بن أبي بلتعة خبرهما فسار إليهما في الخيل فخرجا إليه ، فأما عمرو فكان بطنه قد استسقى فلم يكن عنده امتناع.
    وأما رفاعة فكان شابا قويا فوثب على فرس له جواد وقال لعمرو : أقاتل عنك ؟ قال : وما ينفعني أن تقتل ؟! أنج بنفسك.
    فحمل عليهم فأفرجوا له حتى أخرجه فرسه وخرجت الخيل في طلبه وكان راميا فلم يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه ، وأخذ عمرو بن الحمق فسألوه من أنت ؟ فقال : من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر عليكم.
    فسألوه فأبى أن يخبرهم فبعث به ابن أبي بلتعة إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي فلما رأى عمرا عرفه وكتب إلى معاوية بخبره فكتب إليه معاوية : إنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص كانت معه وإنا لا نريد أن نعتدي عليه فأطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان.
    فأخرج فطعن تسع طعنات فمات في الأولى منهن أو في الثانية وبعث برأسه إلى معاوية فكان رأسه أول رأس حمل في الاسلام.


(42)
    قال الأميني : هذا الصحابي العظيم ( عمرو بن الحمق ) الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة (1) محكوم عليه عند القوم وغيرهم بالعدالة وكون أقواله وأفعاله حجة لولا أن عدالة الصحابة تمطط إلى أناس معلومين بالخلاعة والمجون كمغيرة بن شعبة ، والحكم بن أبي العاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وزياد بن أبيه ، وأغيلمة قريش من الشباب الزائف ممن جرت المخازي إليهم الويلات ، وتتقلص عن آخرين أنهكتهم العبادة ، وحنكتهم الشريعة ، وأبلتهم الطاعة كعمرو بن الحمق ، وحجر بن عدي ، وعدي بن حاتم ، وزيد وصعصعة ابني صوحان ، ولداتهم.
    أنا لا أدري ما كان المبرر للنيل من عمرو وقتله ؟ وأي جريمة أوجبت أن يطعن بالطعنات التسع اللاتي أجهزت عليه أولاهن أو ثانيتها ؟ أما واقعة عثمان فكانت الصحابة مجمعين عليها بين سبب ومباشر كما قدمناه لك في الجزء التاسع ص 69 ـ 169 فلم لم يؤاخذوا عليها واختصت المقاصة أناسا انقطعوا إلى ولاء مولانا أمير المؤمنين ولاء الله وولاء رسوله صلى الله عليه وآله ؟ ولم يجهز معاوية الجيوش ولا بعث البعوث على طلحة والزبير وهما أشد الناس في أمر عثمان وأوغلهم في دمه ؟! ومن ذا الذي أودي بعثمان غير معاوية نفسه في تثبطه عن نصره وتربصه به حتى بلغ السيف منه المحز (2) ؟ ولماذا كان يندد ويهدد ويؤاخذ أهل المدينة وغيرهم بأنهم تخاذلوا عن نصرته ولا يفعل شيئا عن ذلك بنفسه المتهاونة عن أمر الرجل ؟ نعم : كانت تلكم الأفاعيل على من يوالي عليا صلوات الله عليه ، فهي منكمشة عمن يعاديه ويقدمهم ابن آكلة الأكباد.
    هل لمعاوية أن يثبت إن هلاك عثمان كان بطعنات عمرو ؟ وهؤلاء المؤرخون ينصون على أن المجهز عليه هو كنانة بن بشر التجيبي ، وقد جاء في شعر الوليد بن عقبة :
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
    وقال هو أو غيره :
علاه بالعمود أخو تجيب فأوهى الرأس منه والجبينا (3)

1 ـ كذا وصفه الإمام السبط الحسين عليه السلام فيما مر من كتاب له إلى معاوية.
2 ـ راجع الجزء التاسع ص 150 ـ 153.
3 ـ الأنساب للبلاذري 5 : 98 ، تاريخ الطبري 5 : 132.


(43)
    وأخرج الحاكم في المستدرك 3 : 106 بإسناده عن كنانة العدوي قال : كنت فيمن حاصر عثمان قال : قلت : محمد بن أبي بكر قتله ؟ قال : لا ، قتله جبلة بن الايهم رجل من أهل مصر.
    قال : وقيل : قتله كبيرة السكوني فقتل في الوقت.
    وقيل : قتله كنانة بن بشر التجيبي ، ولعلهم اشتركوا في قتله لعنهم الله ، وقال الوليد بن عقبة :
ألا إن خير الناس بعد نبيهم قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
    وفي الاستيعاب 2 : 477 ، 478 : كان أول من دخل الدار عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال : دعها يا بن أخي والله لقد كان أبوك يكرمها.
    فاستحى وخرج ، ثم دخل رومان به سرحان رجل أزرق قصير محدود عداده في مراد وهو من ذي أصبح معه خنجر فاستقبله به وقال : على أي دين أنت يا نعثل ؟! فقال عثمان : لست بنعثل ولكني عثمان ابن عفان وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين قال : كذبت وضربه على صدغه الأيسر فقتله فخر.
    وقال : اختلف فيمن باشر قتله بنفسه فقيل : محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص.
    وقيل بل حبسه محمد بن أبي بكر وأسعده غيره ، وكان الذي قتله سودان بن حمران وقيل : بل ولي قتله رومان اليمامي.
    وقيل : بل رومان رجل من بني أسد بن خزيمة.
    وقيل : بل إن محمد بن أبي بكر أخذ بلحيته فهزها وقال : ما أغنى عنك معاوية ، وما أغنى عنك ابن أبي سرح ، وما أغنى عنك ابن عامر فقال له : يا ابن أخي ! أرسل لحيتي فوالله إنك لتجبذ لحية كانت تعز على أبيك وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني. فيقال : إنه حينئذ تركه وخرج عنه. ويقال : إنه حينئذ أشار إلى من كان معه فطعنه أحدهم وقتلوه. والله أعلم.
    وأخرج أيضا ما رويناه عن المستدرك بلفظ : فقال محمد بن طلحة فقلت لكنانة : هل ندى محمد بن أبي بكر بشيء من دمه ؟ قال : معاذ الله دخل عليه فقال له عثمان : يا ابن أخي لست بصاحبي وكلمه بكلام فخرج ولم يند بشيء من دمه.
    قال : فقلت لكنانة : من قتله ؟ قال : قتله رجل من أهل مصر يقال له : جبلة بن الايهم ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول : أنا قاتل نعثل.


(44)
    وذكر المحب الطبري في رياضه 2 : 130 ما أخرجه أبو عمر في ( الاستيعاب ) من استحياء محمد بن أبي بكر وخروجه من الدار ودخول رومان بن سرحان وقتله عثمان. فقال : وقيل : قتله جبلة بن الايهم. وقيل : الأسود التجيبي وقيل : يسار بن غلياض.
    وأخرج ابن عساكر في حديث ذكره ابن كثير في تاريخه 7 : 175 : وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب حمارا ويكنى بأبي رومان.
    وقال قتادة : اسمه رومان.
    وقال غيره : كان أزرق أشقر.
    وقيل : كان إسمه سودان بن رومان المرادي.
    وعن ابن عمر قال : كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا.. إلخ.
    وقال ابن كثير في تاريخه 7 : 198 : أما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا لا يصح (1) عن أحد من الصحابة إنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله لكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر ، وعمرو بن الحمق وغيرهم.
    ثم أي مبرر لابن هند في أمره بإتمام الطعنات التسع بعد الطعنة المودية به ؟ وهل في الشريعة تعبد بأن يفعل بالمقتص منه مثل ما فعله بمن يقتص له ؟ أو يكتفى بما هو المقصود من القصاص من إعدام القاتل ؟ ولعل عند فقيه بني أمية مسوغا لا نعرفه أضف إلى ذلك حمل رأسه من بلد إلى بلد ، وهو أول رأس مطاف به في الاسلام (2).
    قال النسابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب [ المحبر ] ص 490 : ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي وكان شيعيا ودير به في السوق. وكان عبد الرحمن بن أم الحكم أخذه بالجزيرة.
    وقال ابن كثير : فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد ـ وكانت في سجنه ـ فألقي في حجرها.
    فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت : غيبتموه عني طويلا ثم أهديتموه إلي قتيلا ، فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقلية.
1 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع فتعرف الصحيح من السقيم وتقف على جلية الحال في القضية.
2 ـ معارف ابن قتيبة 127 ، الاستيعاب 2 : 404 ، الإصابة 2 : 533 وقال : ذكره ابن حبان بسند جيد ، تاريخ ابن كثير 8 : 48


(45)
    نعم : هذه الأفاعيل إلى أمثالها من نماذج فقه أمه آكلة الأكباد الذي سوغ لها ما فعلت بعم النبي الأعظم سيد الشهداء حمزة سلام الله عليه ، واقتص أثر أبيه يزيد بن معاوية فيما ارتكبه من سيد شباب أهل الجنة الحسين السبط صلوات الله عليه ، فقتله و آله وصحبه الأكرمين أشنع قتلة وطيف برؤوسهم الكريمة في الأمصار على سمر القنا فأعقبهما خزاية لا يغسلها مر الدهور ، وشية قورن ذكرها بالخلود.
    على إنه لو كان هناك قصاص فهو لأولياء الدم وهم ولد عثمان ، وإن لم يكن هناك ولي أو إنه عجز عن تنفيذ الحكم فيقوم به خليفة الوقت فإنه ولي الدم وأولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو يومئذ وقبله مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام فهو موكول إليه ، وكان عمرو ابن الحمق في كنفه يراه ويبصر موقفه وخضوعه له ، فلو كان عليه قصاص أجراه عليه و هو الذي لم تأخذه في الله لومة لائم ، وساوى عدله القريب والبعيد ، وكانت يده مبسوطة عند ذاك ، وعمرو أخضع له من الظل لديه ، ومعاوية عندئذ أحد أفراد الأمة ـ إن صدق إنه أحد أفرادها ـ لا يحويه عير ولا نفير ، ولا يناط به حكم من أحكام الشريعة ، غير أنه قحمه في الورطات حب الوقيعة في محبي علي أمير المؤمنين عليه السلام والله من ورائه حسيب.

صيفي بن فسيل
    وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون منه ويأخذ من قدر عليه منهم فجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له : إن امرءا منا يقال له : صيفي بن فسيل من رؤس أصحاب حجر وهو أشد الناس عليه فبعث إليه فأتي به فقال له زياد : يا عدو الله ! ما تقول في أبي تراب ؟ فقال : ما أعرف أبا تراب.
    قال : ما أعرفك به ؟ أما تعرف علي بن أبي طالب ؟ قال : بلى.
    قال : فذلك أبو تراب.
    قال : كلا ذاك أبو الحسن والحسين.
    فقال له صاحب الشرطة : أيقول لك الامير : هو أبو تراب ، وتقول أنت : لا ؟ قال : أفإن كذب الأمير أردت أن أكذب ، وأشهد له بالباطل كما شهد ؟ قال له زياد : وهذا أيضا مع ذنبك ، علي بالعصا فأتي بها فقال : ما قولك في علي ؟ قال : أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين.
    قال : إضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض.
    فضرب حتى لصق بالأرض ثم قال : أقلعوا عنه ، إيه ما قولك في علي ؟! قال : والله لو شرحتني


(46)
بالمواسي والمدي ما قلت إلا ما سمعت مني. قال : لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال : إذا والله تضربها قبل ذلك ، فأسعد وتشقى. قال : ادفعوا في رقبته. ثم قال : أوقروه حديدا واطرحوه في السجن ، ثم قتل مع من قتل من حجر وأصحابه.
    قال الأميني : ما أكبرها من جناية على رجل يقول : ربي الله ويدين بالرسالة ويوالي إمام الحق ، وليس عليه ما يجلب التنكيل به كما فعله ابن سمية بإيعاز من ابن آكلة الأكباد إلا الخضوع لولاية أمر الكتاب بها والرضوخ لها ، وقد أكدته السنة في نصوصها المتواترة.
    وهل الامتناع عن لعن من أمر الله باتباعه وطهره وقدسه يسوغ الضرب والحبس والقتل ؟ أنا لا أدري.
    وإن ابن الزانية ومن ركزه على ولاية الأمصار لعليمان بما ارتئاه ، لكن احتدام بغضهما لصاحب الولاية الكبرى حداهما إلى أن يلغا دم من أسلم وجهه لله وهو محسن. وإلى الله المنتهى.

قبيصة بن ضبيعة
    بعث زياد إلى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب شرطته شداد بن الهيثم فدعا قبيصة في قومه وأخذ سيفه فأتاه ربعي بن حراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير فأراد أن يقاتل فقال صاحب الشرطة : أنت آمن على دمك و مالك ، فلم تقتل نفسك ؟ فقال له أصحابه : قد أومنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك ؟ قال : ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة والله لئن وقعت في يده لا أفلت منه أبدا أو يقتلني.
    قالوا : كلا فوضع يده في أيديهم فأقبلوا به إلى زياد فلما دخلوا عليه قال زياد : وحي عسى تعزون على الدين ، أما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الأمراء.
    قال : إني لم آتك إلا على الأمان.
    قال : فانطلقوا به إلى السجن وقتل مع من قتل من أصحاب حجر.

عبد الله بن خليفة
    بعث زياد بكير بن حمران الأحمري إلى عبد الله بن خليفة الطائي وكان شهد مع حجر فبعثه في أناس من أصحابه فأقبلوا في طلبه فوجدوه في مسجد عدي بن حاتم


(47)
فأخرجوه فلما أرادوا أن يذهبوا به وكان عزيز النفس إمتنع منهم فحاربهم وقاتلهم فشجوه ورموه بالحجارة حتى سقط فنادت ميثاء أخته : يا معشر طئ ! أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم ؟ فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طئ فيهلك فهرب فخرج نسوة من طئ فأدخلنه دارا وانطلق الأحمري حتى أتى زيادا فقال : إن طيئا اجتمعت إلي فلم أطقهم فأتيتك ، فبعث زياد إلى عدي وكان في المسجد فحبسه وقال : جئني به وقد أخبر عدي بخبر عبد الله ، فقال عدي : كيف آتيك برجل قد قتله القوم ؟ قال : جئني حتى أن قد قتلوه ، فاعتل له وقال : لا أدري أين هو ولا ما فعل فحبسه فلم يبق رجل من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي فأتوا زيادا فكلموه فيه وأخرج عبد الله فتغيب في بحتر فأرسل إلى عدي إن شئت أن أخرج حتى أضع يدي في يدك فعلت ، فبعث إليه عدي : والله لو كنت تحت قدمي ما رفعتهما عنك.
    فدعا زياد عديا فقال له : إني أخلي سبيلك على أن تجعل لي لتنفيه من الكوفة ولتسير به إلى جبلي طئ قال : نعم فرجع وأرسل إلى عبد الله بن خليفة : أخرج فلو قد سكن غضبه لكلمته فيك حتى ترجع إن شاء الله.
    فخرج إلى الجبلين ومات بهما قبل موت زياد.

الشهادة المزورة على حجر
    جمع زياد من أصحاب حجر بن عدي أثنى عشر رجلا في السجن ثم دعا رؤساء الأرباع وهم : عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة. وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان. وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة.
    وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد ، فشهد هؤلاء أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين ، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب ، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه ، وأن هؤلاء الذين معه هم رؤس أصحابه وعلى مثل رأيه.
    ونظر زياد في شهادة الشهود وقال : ما أظن هذه شهادة قاطعة وأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة فدعا الناس ليشهدوا عليه وقال زياد :


(48)
على مثل هذه الشهادة فاشهدوا ، أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق فقام عثمان بن شرحبيل التيمي أول الناس فقال : اكتبوا اسمي فقال زياد : ابدؤوا بقريش ثم اكتبوا إسم من نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالصحة والاستقامة (1) فشهد عليه سبعون رجلا فقال زياد : ألقوهم إلا من عرف بحسب وصلاح في دينه فألقوا حتى صيروا إلى هذه العدة [ وهم أربع وأربعون فيهم : عمر بن سعد بن أبي وقاص. شمر بن ذي الجوشن شبث بن ربعي. زجر بن قيس ].
    وممن شهد شداد بن المنذر أخو الحضين وكان يدعى : ابن بزيعة. فكتب : شهادة ابن بزيعة.
    فقال زياد : أما لهذا أب ينسب إليه ؟ ألغوا من الشهود فقيل له : إنه أخو الحضين بن المنذر ؟ فقال : انسبوه إلى أبيه فنسب ، فبلغ ذلك شدادا فقال : والهفاه على ابن الزانية أو ليست أمه أعرف من أبيه ؟ فوالله ما ينسب إلا إلى أمه سمية.
    وكتب في الشهود شريح بن الحرث ، وشريح بن هانئ.
    فأما شريح بن الحرث فقال : سألني عنه فقلت : أما إنه كان صواما قواما.
    وأما شريح بن هانئ فقال : بلغني إن شهادتي كتبت فأكذبته ولمته ، وكتب كتابا إلى معاوية وبعثه إليه بيد وائل بن حجر وفي الكتاب : بلغني إن زيادا كتب شهادتي ، وإن شهادتي على حجر إنه ممن يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويديم الحج والعمرة ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، حرام الدم والمال ، فإن شئت فاقتله ، وإن شئت فدعه.
    فلما قرأ معاوية الكتاب قال : ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم.
    وكتب شهادة السري بن وقاص الحارثي وهو غائب في عمله.
    قال الأميني : هذه شهادة زور لفقها ابن أبيه أو ابن أمه على أصناف من الناس منهم الصلحاء والأخيار الذين أكذبوا ذلك العز والمختلق كشريح بن الحرث وشريح بن هانئ ومن حذا حذوهما ، وشهدوا بخلاف ما كتب عنهما ومنهم من كانوا غائبين عن ساعة الشهادة وساحتها ، لكن يد الإفك أثبتتها عليهم كابن وقاص الحارثي ومن يشاكله.
    ومنهم رجرجة من الناس يستسهلون شهادة الزور ويستسوغون من جرائها إراقة
1 ـ يعني المعروفين بالاستقامة في عداء أمير المؤمنين علي عليه السلام وأهل بيته.

(49)
الدماء ليس لهم من الدين موضع قدم ولا قدم كعمر بن سعد ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وزجر بن قيس ، فتناعقوا بشهادة باطلة لأجلها وصفهم الدعي بأنهم خيار أهل المصر وأشرافهم ، وذوو النهى والدين.
    وإن معاوية جد عليم بحقيقة الحال لكن شهوة الوقيعة في كل ترابي حبذت له قبول الشهادة المزورة والتنكيل بحجر وأصحابه الصلحاء الأخيار ، فصرم بهم أصول الصلاح وقطع أواصرهم يوم أودى بهم ، ولم يكترث لمغبة ما ناء به من عمل غير مبرور فإلى الله المشتكى.

تسيير حجر وأصحابه
إلى معاوية ومقتلهم
    دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب وأمرهما أي يسيرا بهم إلى الشام فخرجوا عشية وسار معهم صاحب الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهي في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات فقال لوائل وكثير : إئذنا لي فأوصي أهلي.
    فأذنا له ، فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن ساعة ثم قال : أسكن فسكتن.
    فقال : اتقين الله عزوجل واصبرن فإني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين : إما الشهادة وهي السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تعالى وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن وأن يحفظني فيكن.
    ثم انصرف فمر بقومه فجعل القوم يدعون الله له بالعافية.
    فساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق وهم اثنى عشر رجلا : حجر بن عدي ، الأرقم بن عبد الله ، شريك بن شداد ، صيفي بن فسيل ، قبيصة بن ضبيعة ، كريم بن عفيف ، عاصم بن عوف ، ورقاء بن سمي ، كدام بن حيان ، عبد الرحمن بن حسان ، محرز بن شهاب ، عبد الله بن حوية.
    وأتبعهم زياد برجلين مع عامر بن الأسود فتموا أربعة عشر رجلا فحبسوا بمرج عذراء فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما وأخذ كتابهما فقرأه على أهل الشام فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان أما بعد : فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء ، فأدا له من عدوه وكفاه مؤنة من بغى عليه


(50)
، إن طواغيت الترابية الصبائية رأسهم حجر بن عدي خالفوا أمير المؤمنين ، وفارقوا جماعة المسلمين ، ونصبوا لنا الحرب ، فأظهرنا الله عليهم وأمكننا منهم وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا ، وقد بعثت بهم إلى أمير المؤمنين وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا.
    فلما قرأ معاوية الكتاب وشهادة الشهود عليهم قال : ماذا ترون في هؤلاء النفر الذين شهد عليهم قومهم بما تسمعون ؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي : أرى أن تفرقهم في قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها وكتب معاوية إلى زياد : أما بعد : فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه وشهادة من قبلك عليهم فنظرت في ذلك فأحيانا أرى قتلهم أفضل من تركهم ، وأحيانا أرى العفو عنهم أفضل من قتلهم ، والسلام.
    فكتب إليه زياد مع يزيد بن حجية التميمي : أما بعد : فقد قرأت كتابك وفهمت رأيك في حجر وأصحابه فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم ، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجرا وأصحابه إلي.
    فأقبل يزيد بن حجية حتى مر بهم بعذراء ، فقال : يا هؤلاء ! أما والله ما أرى برأتكم ولقد جئت بكتاب فيه الذبح فمروني بما أحببتم مما ترون إنه لكم نافع أعمل به لكم وأنطق به.
    فقال حجر أبلغ معاوية : أنا على بيعتنا لا نستقيلها ولا نقيلها ، وإنما شهد علينا الأعداء والأظناء فقدم يزيد بالكتاب إلى معاوية وأخبره بقول حجر فقال معاوية.
    زياد أصدق عندنا من حجر.
    فقال عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي.
    ويقال : عثمان بن عمير الثقفي : جذاذها جذاذها.
    فقال له معاوية : لا تعن أبرا.
    فخرج أهل الشام ولا يدرون ما قال معاوية وعبد الرحمن فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له مقالة ابن أم الحكم فقال النعمان : قتل القوم.
    أقبل عامر بن الأسود العجلي وهو بعذراء يريد معاوية ليعلمه بالرجلين اللذين بعث بهما زياد ولحقا بحجر وأصحابه فلما ولى ليمضي قام إليه حجر بن عدي يرسف في القيود فقال : يا عامر ! اسمع مني أبلغ معاوية : إن دماءنا عليه حرام. وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه فليتق الله ولينظر في أمرنا. فقال له نحوا من هذا الكلام فأعاد عليه حجر مرارا. فدخل عامر على معاوية فأخبره بأمر الرجلين فقام يزيد بن أسد البجلي فاستوهب
الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: فهرس