الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: 31 ـ 40
(31)
لا يثمر العنب ، وقد صدق النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وآله في السبطين ووالديهما : لا يحبهم إلا سعيد الجد طيب المولد ، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردي المولد.
    وكان السلف يبور أولادهم بحب علي عليه السلام فمن كان لا يحبه علموا أنه لغير رشدة (1).
    فلا تعجب من الدعي ومن كتابه القارص إلى الإمام السبط الحسن الزكي عليه السلام قد شفع إليه في رجل من شيعته.
    قال ابن عساكر : كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب ، فلما قدم زياد الكوفة واليا عليها أخافه وطلبه زياد فأتي الحسن بن علي فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره ، فكتب الحسن إلى زياد : من الحسن بن علي إلى زياد.
    أما بعد : فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره ، وأخذت ماله وعياله فحبستهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره ، واردد عليه عياله وماله ، فإني قد أجرته فشفعني فيه.
    فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة : أما بعد : فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة كتبت إلي في فاسق لا يؤبه به ، وشر من ذلك توليه أباك وإياك ، وقد علمت أنك أدنيته إقامة منك على سوء الرأي ورضي منك بذلك ، وأيم الله لا تسبقني به ، ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك ، فإن أحب لحم إلي أن آكل منه اللحم الذي أنت منه ، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق ، والسلام (2) ، ولما بلغ موته ابن عمر قال : يا ابن سمية ! لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.
    كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي عليه السلام ـ وفي لفظ البيهقي : يحرضهم على البرائة من علي كرم الله وجهه ، فملأ منهم المسجد و
1 ـ مرت تلكم الأحاديث وستأتي في مسند المناقب ومرسلها.
2 ـ تاريخ ابن عساكر 5 : 418 ، شرح ابن الحديد 4 : 7 ، 72.


(32)
الرحبة ـ فمن أبي ذلك عرضه على السيف. وعن المنتظم لابن الجوزي : إن زيادا لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهم أن يخرب دورهم ، ويحمر نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البرائة من علي عليه السلام وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم.
    فذكر عبد الرحمن بن السائب قال : أحضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار ، فرأيت شيئا في منامي وأنا جالس في الجماعة وقد خفقت ، وهو إني رأيت شيئا طويلا قد أقبل فقلت : ما هذا ؟ فقال : أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر ، فانتبهت فزعا فما كان إلا مقدار ساعة حتى خرج خارج من القصر فقال : انصرفوا فإن الأمير عنكم مشغول ، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء ، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب :
ما كان منتهيا عما أراد بنا فاسقط الشق منه ضربة ثبتت حتى تأتى له النقاد ذو الرقبة لما تناول ظلما صاحب الرحبة (1)
    قال الأميني : هلم معي نقرأ هذه الصحائف السوداء المحشوة بالمخازي وشية العار ، المملوة بالموبقات والبوائق ، فننظر هل في الشريعة البيضاء ، أو في نواميس البشرية ، أو في طقوس العدل مساغ لشيء منها ؟ دع ذلك كله هل تجد في عادات الجاهلية مبررا لشيء من تلكم الهمجية ؟ وهل فعل أولئك الأشقياء الأشداء في أيامهم المظلمة فعلا يربو مخاريق ابن هند ؟ لا.
    وإنك لا تسمع عن أحد ممن يحمل عاطفة إنسانية ولا أقول ممن يعتنق الدين الحنيف فحسب يستبيح شيئا من ذلك ، أو يحبذ مخزاتا من تلكم المخازي ، وهل تجد معاوية وهذه جناياته من مصاديق قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. الآية ؟ (2). فهل ترى ابن أبي سفيان خارجا عنهم ؟ فليس هو من رسول الله صلى الله عليه وآله ولا ممن معه ، ولا رحيما بهم ، أو أن من ناواه وعاداه وسبه وآذاه وقتله وهتكه خارجون عن ربقة الاسلام ؟
1 ـ مروج الذهب 2 : 69 ، المحاسن والمساوي للبيهقي 1 : 39 ، قال المسعودي والبيهقي : صاحب الرحبة هو علي بن أبي طالب ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 286 نقلا عن ابن الجوزي.
2 ـ سورة الفتح 29.


(33)
فهو شديد عليهم وهم خيرة أمة محمد المسلمة ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
    فالحكم للنصفة لا غيرها.
    كأن هاهنا نسيت ثارات عثمان وعادت تبعة أولئك المضطهدين محض ولاء علي أمير المؤمنين عليه السلام وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله ، وحبهم لمن يحبه الله ورسوله ، وطاعتهم لمن فرض الله طاعته ، وودهم من جعل الله وده أجر الرسالة.
    فلم يقصد معاوية وعماله أحدا بسوء إلا هؤلاء ، فطفق يرتكب منهم ما لا يرتكب إلا من أهل الردة والمحادة لله ولرسوله.
    فكان الطريد اللعين ابن الطريد اللعين مروان ، وأزني ثقيف مغيرة بن شعبة ، وأغيلمة قريش الفسقة في أمن ودعة ، وكان يولي لأعماله الزعانفة الفجرة أعداء أهل بيت الوحي : بسر بن أرطاة ، ومروان بن الحكم ، ومغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، وعبد الله الفزاري ، وسفيان بن عوف ، والنعمان بن بشير ، والضحاك بن قيس ، وسمرة بن جندب ، ونظرائهم ، يستعملهم على عباد الله وهو يعرفهم حق المعرفة ولا يبالي بقول رسول الله صلى الله عليه وآله : من تولى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين (1).
    فكانوا يقترفون السيئات ، ويجترحون المآثم بأمر منه ورغبة ، ولم تكن عنده حريجة من الدين تزعه عن تلكم الجرائم ، فأمر بالإغارة على مكة المكرمة وقد جعلها الله بلدا آمنا يأمن من حل بها وإن كان كافرا ، ولأهلها وطيرها ووحشها ونباتها حرمات عند الله ، وهي التي حقنت دم أبي سفيان ومن على شاكلته من حامل ألوية الكفر والالحاد ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يرعاها كل الرعاية يوم الفتح وغيره ، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلا بكل جميل ، وكان صلى الله عليه وآله يقول : إن هذا بلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها (2).
1 ـ مجمع الزوائد 5 : 211.
2 ـ صحيح البخاري : باب لا يحل القتال بمكة 3 : 168 ، صحيح مسلم 4 : 109.


(34)
    وقال صلى الله عليه وآله وسلم إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله فقولوا له : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب (1).
    وأمر ابن هند بالاستحواذ على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وإخافة أهلها والوقيعة فيهم واستقراء من يوجد فيها من شيعة علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وللمدينة المنورة في الاسلام حرمتها الثابتة ، ولنبيه صلى الله عليه وآله فيها قوله الصادق : المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا ، من أحدث فيها حدثا (2) أو آوى حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ذمة المسلمين واحدة ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل (3).
    وقوله صلى الله عليه وآله : لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء (4).
    وقوله صلى الله عليه وآله : لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء (5).
    وقوله صلى الله عليه وآله : اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها ، أن لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف (6).
    وقوله صلى الله عليه وآله : من أراد أهل هذه البلدة بسوء ( يعني المدينة ) أذابه الله كما
1 ـ صحيح البخاري : باب لا يعضد شجر الحرم 3 : 167.
2 ـ قال القاضي عياض : معنى قوله : من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا.. الخ. من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه.
3 ـ صحيح البخاري 3 : 179 ، صحيح مسلم 4 : 114 ، 115 ، 116 ، مسند أحمد 1 : 81 ، 126 ، 151 ، ج 2 : 450 ، سنن البيهقي 5 : 196 ، سنن أبي داود 1 : 318.
4 ـ صحيح البخاري 3 : 181.
5 ـ صحيح مسلم 4 : 113.
6 ـ صحيح مسلم 4 : 117 ، سنن أبي داود 1 : 318 ، واللفظ لمسلم.


(35)
يذوب الملح في الماء. وفي لفظ سعد : من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله.. الخ (1).
    وقوله صلى الله عليه وآله : المدينة حرم من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (2).
    وقوله صلى الله عليه وآله : أيما جبار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء.
    وفي لفظ : من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء (3).
    وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه الطبراني برجال الصحيح : اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل (4).
    وقوله صلى الله عليه وآله : من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة ، وغضب عليه ، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا (5).
    وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه النسائي : من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله ، وكانت عليه لعنة الله (6).
    وفي لفظ ابن النجار : من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
    وقوله صلى الله عليه وآله : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي.
    أخرجه أحمد في مسنده 3 : 354 بالإسناد عن جابر بن عبد الله : إن أميرا من أمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر : لو تنحيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال : تعس من أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابناه أو أحدهما : يا أبت ! وكيف أخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخاف. الحديث.
1 ـ صحيح مسلم 4 : 121 ، 122.
2 ـ صحيح البخاري 3 : 178 ، سنن البيهقي 5 : 197.
3 ـ وفاء الوفاء للسمهودي 1 : 31.
4 ـ وفاء الوفاء 1 : 31 وصححه.
5 ـ وفاء الوفاء 1 : 31 ، فيض القدير 6 : 40.
6 ـ وفاء الوفاء 1 : 31.


(36)
    قلت : الأمير المشار إليه هو بسر بن أرطاة كما في وفاء الوفاء للسمهودي 1 : 31 وصحح الحديث.
    وقوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه الطبراني في الكبير : من آذى أهل المدينة آذاه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل. وفاء الوفاء 1 : 32.
    نعم : إن بسرا لم يلو إلى شيء من ذلك وإنما أوتمر بما سول له معاوية من هتك الحرمات بقتل الرجال ، وسبي النساء ، وذبح الأطفال ، وهدم الديار ، وشتم الأعراض ، وما رعي لرسول الله صلى الله عليه وآله إلا ولا ذمة في مجاوري حرم أمنه ، وساكني حماه المنيع فخفر ذمته كما هتك حرمته ، واستخف بجواره ، وآذاه بإباحة حرمه حرم الله تعالى ، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (1) وإن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة (2) فيالها من جرأة تقحم صاحبها في المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله ودينه القويم.
    كما أن يزيد كان يحذو حذو أبيه في جرائمه الوبيلة وشن الغارة على أهل المدينة المشرفة ، وبعث مسلم بن عقبة الهاتك الفاتك إلى هتك ذلك الجوار المقدس بوصية من والده الآثم قال السمهودي في وفاء الوفاء 1 : 91.
    وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء : سمعت أشياخ المدينة يتحدثون : إن معاوية رضي الله عنه لما احتضر دعا يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوما فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته.
    فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم فرجع فحرض الناس على يزيد وعابه و دعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه فبلغ ذلك يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة.. الخ.
    وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف 5 : 43 بلفظ أبسط من لفظ السمهودي.
1 ـ سورة التوبة : 61.
2 ـ سورة الأحزاب : 57.


(37)
معاوية
وحجر بن عدي وأصحابه
    إن معاوية استعمل مغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين فلما أمره عليها دعاه وقال له : أما بعد : فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الانسان إلا ليعلما
    وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ، ويسعد سلطاني ، ويصلح رعيتي ، ولست تارك إيصاءك بخصلة : لا تقهم عن شتم علي وذمه.
    والترحم على عثمان والاستغفار له ، و العيب على أصحاب علي والإقصاء لهم ، وترك الاستماع منهم ، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم ، والاستماع منهم.
     فقال المغيرة : قد جربت وجربت و عملت قبلك لغيرك ، فلم يذمم بي رفع ولا وضع ، فستبلو فتحمد أو تذم.
    ثم قال : بل نحمد إن شاء الله.
    فأقام المغيرة عاملا على الكوفة سبع سنين وأشهرا وهو من أحسن شيء سيرة وأشده حبا للعافية ، غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه ، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال : بل إياكم فذم الله ولعن ثم قام وقال : إن الله عزوجل يقول : كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل ، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم.
    فيقول له المغيرة : يا حجر ! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك ، يا حجر ! ويحك اتق السلطان ، اتق غضبه وسطوته ، فإن غضب السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ، ثم يكف عنه ويصفح ، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته.
     اللهم ارحم عثمان بن عفان ، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله ، فإنه عمل بكتابك واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، وجمع كلمتنا ، وحقن دمائنا ، وقتل مظلوما (1) ، اللهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبيه والطالبين
1 ـ هذه كلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان كما فصلنا القول فيها في الجزء الثامن والتاسع.

(38)
بدمه. ونال من علي بن أبي طالب عليه السلام ولعنه ولعن شيعته ، فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه وقال : إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الانسان ! مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك قد حبستها عنا ولم يكن ذلك لك ، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك ، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين ، وتقريظ المجرمين.
    فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون : صدق والله حجر وبر ، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئا.
    وأكثروا في مثل هذا القول ، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا : علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة و يجتري عليك في سلطانك هذه الجرأة ؟ فيوهن سلطانك ، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية ، وكان أشدهم له قولا في أمر حجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، فقال لهم المغيرة : إني قد قتلته إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي ، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة ، إنه قد اقترب أجلي ، وضعف عملي ، ولا أحب أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم ، فيسعدوا بذلك و أشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ، ويذل يوم القيامة المغيرة.
    ثم هلك المغيرة سنة 51 فجمعت الكوفة والبصرة لزياد ( ابن سمية ) فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة ووجه إلى حجر فجاءه ، وكان له قبل ذلك صديقا فقال له : قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا ، أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده ، فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة ، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومؤدة ، وإني أخوك الذي تعهد ، إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي ، وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك ، ولك عندي في كل يوم حاجتان : حاجة غدوة ، وحاجة عشية ، إنك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك ، وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك ، وتشط عندي دمك ، إني لا أحب التنكيل قبل التقدمة ، ولا آخذ بغير حجة ، اللهم اشهد.
    فقال حجر : لن يرى الأمير مني إلا ما يحب وقد نصح وأنا قابل نصيحته. ثم خرج من عنده.


(39)
    ولما ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي (1) فقام في الناس وخطبهم ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه ، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة ، وكان زياد يقيم ستة أشهر في الكوفة وستة أشهر في البصرة فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه ، وإنهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتى القصر فدخله ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر قد فرق شعره وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فصعد المنبر وخطب وحذر الناس وقال : أما بعد : فإن غب البغي والغي وخيم ، إن هؤلاء جموا فأشروا ، وامنوني فاجترؤا على الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم ، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حجر ، وأدعه نكالا لمن بعده ، ويل أمك يا حجر ! سقط العشاء بك على سرحان.
    ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط : اذهب فأتني بحجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه : لا يأتيه ولا كرامة فسبوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه ، فقال : يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى ؟ أبدانكم عندي وأهواءكم مع هذا الهجاجة المذبوب (2).
    وفي الكامل : أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق.
    و الله ليظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم.
    فقالوا : معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك.
    قال : فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه ، وقال زياد لصاحب شرطته : انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به.
    فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر : إنه ليس معك رجل معه سيف غيري فما يغني سيفي ؟ قم فألحق بأهلك يمنعك قومك.
    فقام وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجل من
1 ـ تاريخ ابن عساكره : 421.
2 ـ في لفظ الطبري : الهجهاجة الأحمق المذبوب.


(40)
الحمراء يقال له : بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له : عبيد الله بن موعد الأزدي ، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه ، وأخذ عمودا من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة.
    مضى حجر وأبو العمرطة إلى دار حجر واجتمع إليهما ناس كثير ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان إلى جبانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحجر ، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حجر فيأتوه به ، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبانة كندة فأخذوا كل من وجدوا ، فأثنى عليهم زياد فلما رأى حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم ؟ لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وما أحب أن تهلكوا ، فخرجوا فأدركهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حجر طريقا إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال : له سليم بن يزيد ، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبكى بناته فقال حجر : بئسما أدخلت على بناتك إذا قال : والله لا تؤخذ من داري أسيرا ولا قتيلا وأنا حي ، فخرج حجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحرث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له : إن الشرط تسأل عنك في النخع.
    وسبب ذلك أن أمة سوداء لقيتهم فقالت : من تطلبون ؟ فقالوا : حجر بن عدي.
    فقالت : هو في النخع.
    فخرج حجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث وقال له : والله لتأتيني به أو لأقطعن كل نخلة لك وأهدم دورك ، ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربا إربا.
    فاستمهله فأمهله ثلاثا واحضر قيس بن يزيد أسيرا فقال له زياد : لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفين وإنك إنما قاتلت مع حجر حمية وقد غفرتها لك ولكني ائتني بأخيك عمير.
    فاستأمن له منه على ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريح فأثقله حديدا وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلك مرارا فقال قيس بن يزيد لزياد : ألم تؤمنه ؟ قال : بلى قد أمنته على دمه ولست أهريق له دما ، ثم ضمنه وخلى سبيله.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: فهرس