كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 1 ـ 10
الغدير
في الكتاب والسنة والأدب
كتاب ديني ، علمي ، فني ، تاريخي ، أدبى ، أخلاقي
مبتكر في موضوعه فريد في بابه يبحث فيه عن حديث الغدير
كتابا وسنة وأدباً ويتضمن تراجم أمة كبيرة من رجالات لعلم
والدين والأدب من الذين نظموا هذه الأثارة من العلم
وغيرهم
تأليف
الحبر العلم الحجة المجاهد شيخنا الأكبر
الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
الجزء الثاني


(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
    نجز الجزء الأول ( ولله الحمد ) من هذا الكتاب بعد أن ألمسك باليد حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقايق الدينية. ألا ؟ وهي : مغزى نص الغدير ومفاده ، ذلك النص الجلي على إمامة مولانا أمير المؤمنين ، بحيث لم يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة في تلك الدلالة ، وقد أوعزنا في تضاعيف ذلك البحث الضافي إلى أن هذا المعنى من الحديث هو الذي عرفته منه العرب منذ عهد الصحابة الوعاة له وفي الأجيال من بعدهم وإلى عصرنا الحاضر ، فهو معنى اللفظ اللغوي المراد لا محالة قبل القراين المؤكدة له وبعدها ، وقد أسلفنا نزرا من شواهد هذا المدعى ، غير أنه يروقنا هيهنا التبسط في ذلك بإيراد الشعر المقول فيه ، مع يسير من مكانة الشاعر وتوغله في العربية ، ليزداد القارئ بصيرة على بصيرته.
    ألا ؟ إن كلا من أولئك الشعراء الفطاحل ( وقل في أكثرهم : العلماء ) معدود من رواة هذا الحديث ، فإن نظمهم إياه في شعرهم القصصي ليس من الصور الخيالية الفارغة ، كما هو المطرد في كثير من المعاني الشعرية ، ولدى سواد عظيم من الشعراء ، ألم ترهم في كل واد يهيمون ؟ لكن هؤلاء نظموا قصة لها خارج ، وأفرغوا ما فيها من كلم منثورة أو معان مقصودة ، من غير أي تدخل للخيال فيه ، فجاء قولهم كأحد الأحاديث المأثورة ، فتكون تلكم القوافي المنضدة في عقودها الذهبية من جملة المؤكدات لتواتر الحديث.
    ومن هنا لم نعتبر في بعض ما أوردناه أن يكون من علية الشعر ، ولا لاحظنا تناسبه لأوقات نبوغ الشاعر في القوة ، لما ذكرناه من أن الغاية هي روايته للحديث وفهمه المعنى المقصود منه ، ولن تجد أي فصيح من الشعراء والكتاب تشابهت ولائد فكرته في القوة والضعف في جميع أدواره وحالاته.


(2)
( الشعر والشعراء )
    ونحن لا نرى شعر السلف الصالح مجرد ألفاظ مسبوكة في بوتقة النظم ، أو كلمات منضدة على أسلاك القريض فحسب ، بل نحن نتلقاه بما هناك من الأبحاث الراقية في المعارف من علمي الكتاب والسنة ، إلى دروس عالية من الفلسفة والعبر والموعظة الحسنة والأخلاق ، أضف إليها ما فيه من فنون الأدب ، ومواد اللغة ، و مباني التاريخ ، فالشعر الحافل لهذه النواحي بغية العالم ، ومقصد الحكيم ، ومأرب الأخلاقي ، وطلبة الأديب ، وأمنية المؤرخ وقل : مرمى المجتمع البشري أجمع.
    وهناك للشعر المذهبي مآرب أخرى هي من أهل ما نجده في شعر السلف. ألا ؟ وهي الحجاج في المذهب ، والدعوة إلى الحق ، وبث فضايل آل الله ، ونشر روحيات العترة الطاهرة في المجتمع ، بصورة خلابة ، وأسلوب بديع ، يمازج الأرواح ، و ويخالط الأدمغة ، فيبلغ هتافه القاصي والداني ، وتلوكه أشداق الموالي والمناوئ مهما علت في الكون عقيرته ، ودوخت الارجاء شهرته ، وشاع وذاع وطار صيته في الأقطار ، وقرطت به الآذان.
    مهما صار أحدوة تحدو بها الحداة ، وأغاني تغني بها الجواري في أندية الملوك والخلفاء والأمراء ، وتناغي بها الأمهات الرضع في المهود ، ويرقصنها بها بعد الفطام في الحجور ، ويلقنها الآباء أولادهم على حين نعومة الأظفار ، فينمو ويشب وفي صفحة قلبه أسطر نورية من الولاء المحض بسبب تلك الأهازيج ، وهذه الناحية ( الفارغة اليوم ) لا تسدها خطابة أي مفوه لسن ، ولا تلحقه دعاية أي متكلم ، كما يقصر دون إدراكها السيف والقلم.
    وأنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيتك فوق أي دعاية وتبليغ ، فأي أحد يتلو ميمية الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقا إلى الممدوح وحبا له ؟ أو ينشد هاشميات الكميت فلا يمتلئ حجاجا للحق ؟ أو يترنم بعينية الحميري فلا يعلم أن الحق يدور علي الممدوح بها ؟ أو تلقى عليه تائية دعبل فلا يستاء لاضطهاد أهل الحق ؟ أو تصك سمعه ميمية الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جلدته ؟ ثم لا يجد كل عضو من يخاطب


(3)
    القوم بقوله :
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم لعصبة بيعهم يوم الهياج دم
    وكم وكم لهذه من أشباه ونظاير في شعراء أكابر الشيعة ، وسوف تقف عليها في طيات أجزاء كتابنا هذا إنشاء الله تعالى.
    وبهذه الغاية المهمة كان الشعر في القرون الأولى مدحا وهجاءا ورثاءا كالصارم المسلول بيد موالي أئمة الدين ، وسهما مغرقا في أكباد أعداء الله ، ومجلة دعاية إلى ولاء آل الله في كل صقع وناحية ، وكانوا صلوات الله عليهم يضحون دونه ثروة طايلة ويبذلون من مال الله للشعراء ما يغنيهم عن التكسب والاشتغال بغير هذه المهمة ، وكانوا يوجهون الشعراء إلى هذه الناحية ، ويحتفظون بها بكل حول وطول ، ويحرضون الناس عليها ، ويبشرونهم عن الله و ( هم أمناء وحيه ) بمثل قولهم : من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتا في الجنة. ويحثونهم على تعلم ما قيل فيهم وحفظه بمثل قول الصادق الأمين عليه السلام. علموا أولادكم بشعر العبدي. وقوله : ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس (1). وروى الكشي في رجاله ص 160 عن أبي طالب القمي قال : كتبت إلى أبي جعفر بأبيات شعر وذكرت فيها أباه وسألته أن يأذن لي في أن أقول فيه ، فقطع الشعر وحبسه وكتب في صدر ما بقي من القرطاس : قد أحسنت فجزاك الله خيرا. وعنه في لفظ آخر : فأذن لي أن أرثي أبا الحسن أعني أباه وكتب إلي : أن اندبه واندب لي.

( الشعر والشعراء في السنة والكتاب )
    كل ما ذكرنا عنهم صلوات الله عليهم كان تأسيا بقدوتهم النبي الطاهر صلى الله عليه وآله فإنه أول فاتح لهذا الباب بمصراعيه مدحا وهجاءا بإصاخته للشعراء المادحين له ولأسرته الكريمة ، وكان ينشد الشعر ويستنشده ويجيز عليه ويرتاح له ويكرم الشاعر مهما وجد في شعره هذه الغاية الوحيدة كارتياحه لشعر عمه شيخ الأباطح أبي طالب سلام الله عليه لما استسقى فسقي قال : لله در أبي طالب
1 ـ عيون أخبار الرضا ، رجال الكشي ص 254.

(4)
لو كان حيا لقرت عيناه ، من ينشدنا قوله ؟ فقام عمر بن الخطاب فقال : عسى أردت يا رسول الله ؟.
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ليس هذا من قول أبي طالب هذا من قول حسان بن ثابت. فقام علي بن أبي طالب عليه السلام وقال : كأنك أردت يا رسول الله ؟
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تلوذ به الهلاك من آل هاشم ربيع اليتامى عصمة للأرامل فهل عنده في نعمة وفواضل
    فقال رسول الله : أجل فقام رجل من بني كنانة فقال :
لك الحمد والحمد ممن شكر دعا الله خالقه دعوة فلم يك إلا كإلقا الردا دفاق العزالي جم البعاق (1) فكان كما قاله عمه به الله يسقي صيوب الغمام سقينا بوجه النبي المطر وأشخص منه إليه البصر وأسرع حتى أتانا الدرر أغاث به الله عليا مضر أبو طالب ذا رواء غزر فهذا العيان وذاك الخبر
    فقال رسول الله : يا كناني ؟ بوأك الله بكل بيت قلته بيتا في الجنة (2).
    ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر إلى القتلى مصرعين قال لأبي بكر : لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا أخذت بالأماثل وذلك لقول أبي طالب :
وإنما لعمر الله إن جد ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
    وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر عمه العباس بن عبد المطلب لما قال : يا رسول الله ؟ أريد أن أمتدحك. فقال رسول الله : قل لا يفضض الله فاك. فأنشأ يقول :
من قبلها طبت في الظلال وفي ثم هبطت البلاد لا بشر مستودع حيث يخصف الورق أنت ولا مضغة ولا علق

1 ـ العزالي جمع العزلاء : مصب الماء. والبعاق بالضم : السحاب الممطر بشدة.
2 ـ أمالي شيخ الطايفة ص 46.


(5)
بل نطفة تركب السفين وقد تنقل من صالب إلى رحم حتى احتوى بيتك المهيمن من وأنت لما ولدت أشرقت الأرض فنحن في ذلك الضياء وفي ألجم نسرا وأهله الغرق إذا مضى عالم بدا طبق خندف علياء تحتها النطق وضاءت بنورك الأفق النور وسبل الرشاد نخترق (1)
    وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر عمرو بن سالم وقوله له : نصرت يا عمرو بن سالم لما قدمه وأنشده أبياتا أولها (2) :
لا هم إني ناشد محمدا كنت لنا أبا وكنا ولدا فانصر رسول الله نصرا عتدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا وادع عباد الله يأتوا مددا    إلخ
        وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر النابغة الجعدي ودعائه له بقوله : لا يفضض فاك ، لما أنشده أبياتا من قصيدته مائتي بيت أولها :
خليلي غضا ساعة وتهجرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
    ومما أنشده رسول الله صلى الله عليه وآله :
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى وجاهدت حتى ما أحس ومن معي أقيم على التقوى وأرضى بفعلها ويتلو كتابا كالمجرة نيرا سهيلا إذا ما لاح ثم تحورا وكنت من النار المخوفة أحذرا
    ولما بلغ إلى قوله :
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
    فقال النبي صلى الله عليه وآله : أين المظهر يا أبا ليلى ؟ قال : الجنة. قال : أجل إن شاء الله تعالى. ثم قال :
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ولا خير في جهل إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

1 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 327 ، أسد الغابة 1 ص 119.
2 ـ تاريخ الطبري 3 ص 111 أسد الغابة 4 ص 104.


(6)
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أجدت لا يفضض الله فاك.
    مرتين فكانت أسنانه كالبرد المنهل ما انفصمت له سن ولا انفلتت وكان معمرا (1) وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر كعب بن زهير لما أنشده في مسجده الشريف لاميته التي أولها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم أثرها لم يفد مكبول
    فكساه النبي صلى الله وآله بردة إشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم وهي التي يلبسها الخلفاء في العيدين (2) وفي مستدرك الحاكم 3 ص 582 : لما أنشد كعب قصيدته هذه رسول الله وبلغ قوله :
إن الرسول لسيف يستضاء به وصارم من سيوف الله مسلول
    أشار صلى الله عليه وآله بكمه إلى الخلق ليسمعوا منه. ويروى أن كعبا أنشد ( من سيوف الهند ) فقال النبي صلى الله عليه وآله : من سيوف الله (3).
    وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر عبد الله بن رواحة ، قال البراء بن عازب : رأيت النبي صلى الله عليه وآله ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلد بطنه وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة.
لاهم لولا أنت ما اهتدينا فأنزلن سكينة علينا إن أولاء قد بغوا علينا ولا تصدقنا ولا صلينا وثبت الأقدام إن لاقينا وإن أرادوا فتنة أبينا (4)
    ويظهر من رواية ابن سعد في طبقاته وابن الأثير إن الأبيات لعامر بن الأكوع روى الثاني في أسد الغابة 3 ص 72 إن النبي صلى الله عليه وآله قال لعامر في مسيره إلى خيبر : انزل يا بن الأكوع واحد لنا من هناتك (5) قال : نزل يرتجز رسول الله صلى الله عليه وآله :
لا هم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا    إلخ

1 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 96 ، الاستيعاب 1 ص 311 ، الإصابة 3 ص 539.
2 ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 62 ، الامتاع للمقريزي 494 ، الإصابة 5 ص 296.
3 ـ شرح قصيدة : بانت سعاد. لجمال الدين الأنصاري ص 98.
4 ـ مسند أحمد 4 ص 302.
5 ـ أي كلماتك وأراجيزك وفي رواية : هنيأتك. على التصغير ، وفي أخرى : هنيهاتك.


(7)
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يرحمك ربك. وفي لفظ : رحمك الله. وفي الطبقات لابن سعد 3 ص 619 : غفر لك ربك.
    وكارتياحه صلى الله عليه وآله لشعر حسان بن ثابت يوم غدير خم ودعائه له بقوله : لا تزال يا حسان ؟ مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وكان صلى الله عليه وآله يضع لحسان منبرا في مسجده الشريف يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله ، ويقول رسول الله : إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله (1)
    وكارتياحه لشعر أبي كبير الهذلي. قالت عايشة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخصف نعله وكنت جالسة أغزل فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وعرقه يتولد نورا قالت : فبهت فنظر إلي فقال : مالك بهت ؟ فقلت يا رسول الله ؟ نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وعرقك يتولد نورا ، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره ، قال : وما يقول أبو كبير ؟ قلت : يقول :
ومبرئ من كل غبر حيضة وإذا نظرت إلى أسرة وجهه وفساد مرضعة وداء معضل برقت كبرق العارض المتهلل
    قالت : فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان بيده وقام وقبل ما بين عيني وقال : جزاك الله خيرا يا عايشة ؟ ما سررت مني كسروري منك (2).
    وكان صلى الله عليه وآله يحث الشعراء إلى هذه الناحية ، ويأمرهم بالاحتفاظ بها ، ويرشدهم إلى أخذ حديث المخالفين له وأحسابهم وتأريخ نشئاتهم ممن يعرفها وهجاءهم كما كان يأمرهم بتعلم القرآن العزيز ، وكان يراه نصرة للاسلام ، وجهادا دون الدين الحنيف ، وكان يصور للشاعر جهاده وينص به ويقول : اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله ، والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحونهم بالنبل. وفي لفظ آخر : فكأن ما ترمونهم به نضح النبل. وفي ثالث : والذي نفس محمد بيده فكأنما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر (3).
1 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 477 وصححه هو والذهبي في تلخيصه.
2 ـ حلية الأولياء لأبي نعيم 2 ص 45 ، تاريخ الخطيب البغدادي 13 ص 253.
3 ـ مسند أحمد 3 ص 460 ، 456 ، ج 6 ص 387.


(8)
    وكان صلى الله عليه وآله يثور شعراءه إلى الجدال بنبال النظم وحسام القريض ويحرضهم إلى الحماسة في مجابهة الكفار في قولهم المضاد لمبدءه القدسي ، ويبث فيهم روحا دينيا قويا ، ويؤكد فيهم حمية تجاه الحمية الجاهلية ، وكان يوجد فيهم هياجا ونشاطا في النشر والدعاية ، وشوقا مؤكدا إلى الدفاع عن حامية الاسلام المقدس ، ورغبة في المجاهدة بالنظم بمثل قوله صلى الله عليه وآله للشاعر : اهج المشركين فإن روح القدس معك ما هاجيتهم (1) وقوله : اهجهم فإن جبريل معك (2) قال البراء بن عازب : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قيل له : إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ؟ إئذن لي فيه فقال : أنت الذي تقول : ثبت الله ؟ قال : نعم يا رسول الله ؟ :
فثبت الله ما أعطاك من حسن تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصروا
    قال صلى الله عليه وآله : وأنت يفعل الله بك خيرا مثل ذلك. قال : ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله ؟ إئذن لي فيه. قال : أنت الذي تقول : همت ؟ قال : نعم ، قلت يا رسول الله ؟ :
همت سخينة أن تغالب ربها فليغلبن مغالب الغلاب
    قال صلى الله عليه وآله : إن الله لم ينس ذلك لك. قال ثم قام حسان فقال : يا رسول الله ؟ إئذن لي فيه وأخرج لسانا له أسود فقال : يا رسول الله ؟ إئذن لي إن شئت أفريت به المزاد (3) فقال : إذهب إلى أبي بكر ليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم ثم اهجهم وجبريل معك (2).
    وهذه الطائفة من الشعراء هم المعنيون بقوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثير وانتصروا من بعد ما ظلموا. وهم المستثنون في صريح القرآن من قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون. الآية سورة الشعراء. ولما نزلت
1 ـ مسند أحمد 4 ص 298 ، مستدرك الحاكم 3 ص 487.
2 ـ مسند أحمد 4 ص 299 ، 302 ، 303.
3 ـ أي شفقته. كناية عن إسقاطه بالفضيحة.
4 ـ مستدرك الحاكم 3 ص 488.


(9)
هذه الآية جاءت عدة من الشعراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهم يبكون قائلين إنا شعراء والله أنزل هذه الآية فتلا النبي صلى الله عليه وآله : وسلم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قال : أنتم. وذكروا الله كثيرا ، قال : أنتم. وانتصروا من بعد ما ظلموا ، قال : أنتم (1).
    وإن كعب بن مالك أحد شعراء النبي الأعظم حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال : إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت وكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه (2)
    على أن في وسع الباحث أن يقول : إن المراد بالشعراء في الآية الكريمة كل من يأتي بكلا شعري منظوما أو منثورا فتكون مصاديقها أحزاب الباطل وقوالة الزور ، فعن مولانا الصادق عليه السلام : إنهم القصاصون. رواه شيخنا الصدوق في عقايده ، وفي تفسير علي بن إبراهيم ص 474 أنه قال : نزلت في الذين غيروا دين الله وخالفوا أمر الله ، هل رأيتم شاعرا قط تبعه أحد ؟ إنما عني بذلك الذين وضعوا دينا بآرائهم فتبعهم على ذلك الناس ، ويؤكد ذلك قوله : ألم ترهم في كل واد يهيمون. يعني يناظرون بالأباطيل ويجادلون بالحجج وفي كل مذهب يذهبون. وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : هم قوم تعلموا وتفقهوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
    فليس في الآية حط لمقام الشعر بما هو شعر وإنما الحط على الباطل منه و من المنثور ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله عند فريقي الاسلام قوله : إن من الشعر لحكمة. م ـ وإن من البيان لسحرا (3) ].

( الهواتف بالشعر )
    وهناك هتافات غيبية شعرية في الدعاية الدينية ، خوطب بها أناس في بدء
1 ـ تفسير ابن كثير 3 ص 354.
2 ـ مسند أحمد 3 ص 456.
3 ـ مسند أحمد 1 ص 269 ، 273 ، 303 ، 332 ، سنن الدارمي 2 ص 296 ، صحيح البخاري كتاب الطب ، باب : إن من البيان سحرا ، المجني لابن دريد ص 22 ، تاريخ بغداد للخطيب 3 ص 98 ، 258 ، و ج 4 ص 254 ، و ج 8 ص 18 ، 314 ، البيان والتبيين للجاحظ 1 ص 212 ، 275 ، رسائل الجاحظ ص 235 ، مصابيح السنة للبغوي 2 ص 149 ، الروض الأنف 2 ص 337 ، تاريخ ابن كثير 9 ص 45 ، تاريخ ابن عساكر 1 ص 348 ، و ج 6 ص 423 ، الإصابة 1 ص 453 ، و ج 4 ص 183 ، تهذيب التهذيب 9 ص 453 ).


(10)
الاسلام فاهتدوا بها ، وهي معدودة من معاجز النبي صلى الله عليه وآله وتنم عن أهمية الشعر في باب الالقاء والحجاج وإفهام المستمع ، وإن أخذه بمجامع القلوب والأفئدة آكد من الكلام المنثور ، فليتخذ دستورا في إصلاح المجتمع ، وبث الدعاية الروحية. ومنها :
    1 ـ سمعت آمنة بنت وهب في ولادة النبي صلى الله عليه وآله هاتفا يقول :
صلى الإله وكل عبد صالح المصطفى خير الأنام محمد زين الأنام المصطفى علم الهدى صلى عليه الله ما هبت الصبا والطيبون على السراج الواضح الطاهر العلم الضياء اللايح الصادق البر التقي الناصح وتجاوبت ورق الحمام النايح (1)
    2 ـ هتف هاتف من صنم بصوم جهير ليلة مولد النبي صلى الله عليه وآله وقد خرت فيها الأصنام وهو يقول :
تردى لمولود أنارت بنوره وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ونار جميع الفرس باخت وأظلمت وصدت عن الكهان بالغيب جنها فيال قصي ارجعوا عن ضلالكم جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب ق لوب ملوك الأرض طرا من الرعب وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب فلا مخبر منهم بحق ولا كذب وهبوا إلى الاسلام والمنزل الرحب (2)
    3 ـ قال ورقة : بت ليلة مولد النبي صلى الله عليه وآله عند صنم لنا إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول :
ولد النبي فذلت الأملاك ونأى الضلال وأدبر الاشراك
ثم انتكس الصنم على رأسه (3).
    4 ـ قال العوام بن جهيل ( مصغرا ) الهمداني سادن ( يغوث ) : بت ليلا في بيت الصنم : وسمعت هاتفا من الصنم يقول : يا ابن جهيل ؟ حل بالأصنام الويل ، هذا
1 ـ بحار الأنوار 6 ص 73.
2 ـ تاريخ ابن كثير 2 ص 341 ، الخصايص الكبرى للسيوطي 1 ص 52.
3 ـ الخصايص الكبرى 1 ص 52.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس