كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 81 ـ 90
(81)
ثم لا ينزع العجاجة حتى ليت ما تطلب العداة أتانا إننا إننا الذين إذا الفتح بعد بدر وتلك قاصمة الظهر يوم الأحزاب قد علم الناس تنجلي حوبنا لنا أو علينا أنعم الله بالشهادة عينا شهدنا وخيبرا وحنينا واُحد وبالنضير ثنينا شفينا من قبلكم واشتفينا
    فلما بلغ معاوية شعره دعا عمرو بن العاص فقال : ما ترى في شتم الأنصار ؟ قال : أرى أن توعد ولا تشتم ، ما عسى أن تقول لهم ؟ إذا أردت ذمهم ذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم قال معاوية : إن خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا وهو والله يريد أن يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس القيل ، فما الرأي ؟ قال : الرأي : التوكل والصبر.
    فأرسل معاوية إلى رجال من الأنصار فعاتبهم ، منهم : عقبة بن عمرو. وأبو مسعود. والبراء بن عازب. و عبد الرحمن بن أبي ليلي. وخزيمة بن ثابت. وزيد بن أرقم. وعمرو ابن عمرو. والحجاج بن غزية. وكانوا هؤلاء يلقون في تلك الحرب فبعث معاوية بقوله : لتأتوا قيس بن سعد. فمشوا بأجمعهم إلى قيس قالوا : إن معاوية لا يريد شتمنا فكف عن شتمه فقال : إن مثلي لا يشتم ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله. وتحركت الخيل غدوة فظن قيس بن سعد أن فيها معاوية فحمل على رجل يشبهه فقنعه بالسيف فإذا غير معاوية ، وحمل الثانية يشبهه أيضا فضربه ثم انصرف وهو يقول :
قولوا لهذا الشاتمي معاويه خوفتنا لكلب قوم عاويه ترقل إرقال العجوز الخاويه (1) إن كلما أوعدت ريح هاويه إلي يا بن الخاطئين الماضيه في أثر الساري ليال الشاتيه
    فقال معاوية : يا أهل الشام ؟ إذا لقيتم هذا الرجل فأخبروه بمساويه ( فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا وشتم الأنصار ) (2) فغضب النعمان ومسلمة على معاوية ، فأرضاهما بعد ما هما أن ينصرفا إلى قومهما.
1 ـ أرقل : أسرع. الخاوية : الساقطة.
2 ـ هذه الجملة من لفظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.


(82)
    ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم ، فخرج النعمان حتى وقف بين الصفين فقال يا قيس ؟ أنا النعمان بن بشير. فقال قيس : هيه يا ابن بشير ؟ فما حاجتك ؟ فقال النعمان : يا قيس ؟ إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه ، ألستم معشر الأنصار تعلمون أنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار ؟ وقتلتم أنصاره يوم الجمل ؟ وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين ؟ فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكان واحدة بواحدة ، ولكنكم خذلتم حقا ونصرتم باطلا ، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب ، ودعوتم إلى البراز ، ثم لم ينزل بعلي أمر (1) قط إلا هونتم عليه المصيبة ، ووعدتموه الظفر ، وقد أخذت الحرب منا وعنكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية.
    فضحك قيس ثم قال : ما كنت أراك يا نعمان ؟ تجتري على هذه المقالة ، إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه ، وأنت والله الغاش الضال المضل. أما ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار تكفيك فخذ مني واحدة : قتل عثمان من لست خيرا منه ، وخذله من هو خير منك ، أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما معاوية فوالله لو اجتمعت عليه العرب لقاتلته الأنصار. وأما قولك : إنا لسنا كالناس فنحن في هذا الحرب كما كنا مع رسول الله نتقي السيوف بوجوهنا ، والرماح بنحورنا ، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، ولكن انظر يا نعمان ؟ هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور ؟ انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك ؟ ولستما والله ببدريين ولا أحديين ولا لكما سابقة في الاسلام ، ولا آية في القرآن (2) و لعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك. ثم قال قيس في ذلك :
والراقصات بكل أشعث أغبر ما ابن المخلد ناسيا أسيافنا خوص العيون تحثها الركبان عمن نحاربه ولا النعمان

1 ـ في شرح النهج : خطب.
2 ـ وإلى هنا رواه ابن قتيبة أيضا في الإمامة والسياسية 1 ص 94.


(83)
تركا العيان وفي العيان كفاية لو كان ينفع صاحبيه عيان
    ثم إن عليا عليه السلام دعا قيس بن سعد فأثنى عليه خيرا وسوده على الأنصار (1) وخرج قيس في نهروان إلى الخوارج فقال لهم : عباد الله ؟ أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه ، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فإنكم ركبتم عظيما من الأمر ، تشهدون علينا بالشرك ، والشرك ظلم عظيم ، تسفكون دماء المسلمين ، وتعدونهم مشركين. فقال له عبد الله بن شجرة السلمي : إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم أو تأتونا بمثل عمر. فقال قيس : ما نعلمه فينا غير صاحبنا فهل تعلمونه فيكم ؟ قالوا : لا. قال : نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم (2)
    أما موقفه بعد العهدين فكان مع الإمام السبط المجتبى سلام الله عليه ولما وجه عسكره إلى قتال أهل الشام دعا عليه السلام عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال له : يا بن عم ؟ إني باعث إليك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب ، وقراء مضر ، الرجل منهم يريد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وأبسط لهم وجهك ، وأفرش لهم جناحك ، وادنهم في مجلسك ، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات حتى تسير بمسكن (3) ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين يعني : قيس بن سعد وسعيد بن قيس ، وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله ، وإن أصبت فقيس بن سعد ، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس. فسار عبيد الله ...
    فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها : الحيوضة. ( بمسكن ) وأقبل
1 ـ إلى هنا تنتهى رواية نصر بن مزاحم في كتاب صفين.
2 ـ تاريخ الطبري 6 ص 47 ، كامل ابن الأثير 3 ص 137.
3 ـ بفتح الميم ثم السكون ثم الكسر : موضع قريب من أوانا ناحية دجيل بينه وبين بغداد عدة فراسخ من جهة تكريت.


(84)
عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزاءه فلما كان من غد وجه معاوية بخيل إلى عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم ، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد أرسلني في الصلح ، وهو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، اعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ، فأقبل عبيد الله إليه ليلا فدخل عسكر معاوية ، فوفى له بما وعده ، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه ، فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ، ثم خطبهم فثبتهم وذكر عبيد الله فنال منه ، ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو فأجابوه بالطاعة وقالوا له : انهض بنا إلى عدونا على اسم الله. فنزل فنهض بهم وخرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق : ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع ، وإمامكم الحسن قد صالح ، فعلام تقتلون أنفسكم ؟ فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا إحدى اثنتين : إما القتال مع غير إمام ، وإما أن تبايعوا بيعة ضلال.
    فقالوا : بل نقاتل بلا إمام فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم ، فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه فكتب إليه قيس : لا والله لا تلقاني أبدا إلا بيني وبينك الرمح ( شرح ابن أبي الحديد 4 ص 14 )
    قال اليعقوبي في تاريخه 2 ص 191 : إنه وجه الحسن عليه السلام بعبيد الله بن العباس في اثنى عشر ألفا لقتال معاوية ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس ورأيه فسار إلى ناحية الجزيرة وأقبل معاوية لما انتهى إليه الخبر بقتل علي فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوما ، والتقى العسكران فوجه معاوية إلى قيس بن سعد : يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه ، فأرسل إليه بالمال وقال : تخدعني عن ديني ؟
    فيقال : إنه أرسل إلى عبيد الله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه ، وأقام قيس على محاربته ، وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث : أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجه إلى عسكر قيس من يتحدث : أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه.


(85)
    وفي الاستيعاب 2 ص 225 عن عروة قال : كان قيس مع الحسن بن علي على مقدمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤسهم بعد ما مات علي وتبايعوا على الموت ، فلما دخل الحسن في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل وقال لأصحابه : ما شئتم ؟ إن شئتم جادلت بكم حتى يموت الأعجل منا ، وإن شئتم أخذت لكم أمانا ؟ ؟! فقالوا : خذ لنا أمانا ، فأخذ لهم إن لهم كذا وكذا ، وأن لا يعاقبوا بشئ وأنه رجل منهم ، ولم يأخذ لنفسه خاصة شيئا. ( ثم ارتحل نحو المدينة ومضى بأصحابه ).

    ( حديث جوده )
    لا يسعنا بسط المقال في أخبار ( قيس ) من هذه الناحية لكثرتها ، غير أنا نورد لك شيئا من ذلك الكثير الطيب ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق (1) وكانت هذه الخلة من هذا البيت على عنق الدهر ( أي قديما ) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الجود من شيمة أهل ذلك البيت (2).
    باع قيس مالا من معاوية بتسعين ألفا فأمر مناديا فنادى في المدينة : من أراد القرض فليأت منزل سعد فأقرض أربعين أو خمسين وأجاز الباقي ، وكتب على من أقر له صكا ، فمرض مرضا قل عواده فقال لزوجته قريبة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر : يا قريبة ؟ لم ترين قل عوادي ؟ قالت للذي لك عليهم من الدين. فأرسل إلى كل رجل بصكه المكتوب عليه فوهبه ماله عليهم (3).
    قال جابر : خرجنا في بعث كان عليهم قيس بن سعد ونحر لهم تسع ركائب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله ذكروا له من أمر قيس فقال : إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت ، ولما ارتحل من العراق نحو المدينة ومضى بأصحابه جعل ينحر لهم كل يوم جزورا حتى بلغ (4)
1 ـ مثل يضرب : أي حسبك بالقليل من الكثير.
2 ـ الإصابة 5 ص 254.
3 ـ تاريخ الخطيب البغدادي 1 ص 177 ، تاريخ ابن كثير 8 ص 69.
4 ـ الاستيعاب 2 ص 525 ، تهذيب التهذيب 8 ص 394.


(86)
    روى عبد الله بن المبارك عن جويرة قال : كتب معاوية إلى مروان : أن اشتر دار كثير بن الصلت منه فأبى عليه فكتب معاوية إلى مروان : أن خذه بالمال الذي عليه ، فإن جاء به وإلا بع عليه داره. فأرسل إليه مروان فأخبره قال : إني أؤجلك ثلاثا فإن جئت بالمال وإلا بعت عليك دارك. قال : فجمعها إلا ثلاثين ألفا فقال : من لي بها ؟ ثم ذكر قيس بن سعد فأتاه فطلبها منه فأقرضه فجاء بها إلى مروان فلما رآه قد جاء بها ردها إليه ورد عليه داره ، فرد كثير الثلاثين ألفا على قيس فأبى أن يقبلها. (1)
    روى المبرد في كامله 1 ص 309 : أن عجوزا شكت إلى قيس أن ليس في بيتها جرذ فقال : ما أحسن ما سألت ، أما والله لأكثرن جرذان بيتك. فملأ بيتها طعاما وودكا وإداما ، وقال ابن عبد البر : هذه القصة مشهورة صحيحة.
    في كامل المبرد 1 ص 309 : إنه توفي أبوه عن حمل لم يعلم به ، فلما ولد وقد كان سعد رضي الله عنه قسم ماله في حين خروجه من المدينة بين أولاده فكلم أبو بكر و عمر في ذلك قيسا وسألاه أن ينقض ما صنع سعد من تلك القسمة فقال : نصيبي للمولود ولا أغير ما صنع أبي ولا أنقضه. وذكره ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) 2 ص 525 وقال : صحيح من رواية الثقات.
    ومن مشهور أخبار قيس : إنه كان له مال كثير ديونا على الناس فمرض واستبطأ عواده فقيل له : إنهم يستحيون من أجل دينك. فقال : أخزى الله مالا يمنع الأخوان من العيادة. فأمر مناديا ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو في حل. فأتاه الناس حتى هدموا درجتا كانوا يصعدون عليها إليه ، وفي لفظ : فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد. (2)
    كان قيس في سرية فيها أبو بكر وعمر فكان يستدين ويطعم الناس ، فقال أبو بكر و عمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه فمشيا في الناس فلما سمع سعد قام خلف النبي فقال : من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب يبخلان علي إبني. ( أسد الغابة )
1 ـ الاستيعاب 2 ص 525 ، الإصابة 5 ص 254.
2 ـ ربيع الأبرار للزمخشري ، الاستيعاب 2 ص 526 ، البداية والنهاية 8 ص 100.


(87)
4 ص 415.
    وفي لفظ : كان قيس مع أبي بكر وعمر في سفر في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فكان ينفق عليهما وعلى غيرهما ويفضل فقال له أبو بكر : إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك. فلما قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر : أردت أن تبخل إبني إنا لقوم لا نستطيع البخل. (1)
    حكى ابن كثير في تاريخه 8 ص 99 : إنه كان لقيس صحفة يدار بها حيث داروا كان ينادي له مناد : هلموا اللحم والثريد. وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله.
    قال الهيثم بن عدي : إختلف ثلاثة عن الكعبة في أكرم أهل زمانهم فقال أحدهم : عبد الله بن جعفر : وقال الآخر قيس بن سعد. وقال الآخر : عرابة الأوسي. فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة فقال لهم رجل : فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره ، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان : فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز (2) ليذهب إلى ضيعة له فقال له : يا بن عم رسول الله ؟ ابن سبيل ومنقطع به. قال : فأخرج رجله من الغرز وقال : ضع رجلك واستو عليها ، فهي لك بما عليها ، وخذ ما في الحقيبة (3) ولا تخدعن في السيف فإنه من سيوف علي ، فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار ، ومطارف من خز وغير ذلك وأجل ذلك سيف علي بن أبي طالب. ومضى صاحب قيس إليه فوجده نائما ، فقالت له الجارية : ما حاجتك إليه ؟ قال ابن سبيل ومنقطع به. قالت : فحاجتك أيسر من إيقاظه ، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم ، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ لك ناقة وعبدا ، واذهب راشدا. فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك ، وقال. هلا أيقظتني ؟ حتى أعطيه ما يكفيه أبدا ، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته. وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه فوجده
1 ـ الدرجات الرفيعة نقلا عن كتاب الغارات لإبراهيم بن سعيد الثقفي.
2 ـ الغرز بالفتح ثم السكون : ركاب من جلد.
3 ـ الحقيبة بفتح المهملة : ما يحمل على الفرس خلف الراكب.


(88)
وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له ـ وكان قد كف بصره ـ فقال له : يا عرابة ؟ فقال : قال. فقال : ابن سبيل ومنقطع به. قال : فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه باليمنى على اليسرى ثم قال : أوه أوه والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا ولكن خذ هذين العبدين. قال : ما كنت لأفعل. فقال : إن لم تأخذهما فهما حران ، فإن شئت فأعتق ، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده ، قال : فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه. قال فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم وأن ذلك ليس بمستنكر له ، إلا أن السيف أجله. وإن قيسا أحد الأجواد حكمت مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت. وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي ، لأنه جاد بجميع ما يملكه ، وذلك جهد من مقل. ( البداية و النهاية 8 ص 100 )

    ( حديث خطابته )
    إن تقدم سيد الأنصار في المعالم الدينية ، وتضلعه في علمي الكتاب والسنة ، و عرفانه بمعاريض القول ، ومخاريق القيل ، وسقطات الرأي ، وتحليه بما يحتاج إليه مداره الكلام ومشيخة الخطابة من العلم الكثار ، والأدب الجم ، وربط الجاش ، وقوة العارضة ، وحسن التقرير ، وجودة السرد ، وبلاغة المنطق ، وطلاقة اللسان ، ومعرفة مناهج الحجاج والمناظرة ، وأساليب إلقاء المحاضرة ، كلها براهين واضحة على حظه الوافر وقسطه البالغ من هذه الخلة ، وإنه أعلى الناس ذافوق (1) على أن فيما مر و ما يأتي من كلمه وخطبه خبرا يصدق الخبر ، وشاهد صدق على أنه أحد أمراء الكلام كما كان في مقدم أمراء السيف. فهو خطيب الأنصار المفوه ، واللسن الفذ من الخزرج ، ومتكلم الشيعة الأكبر ، ولسان العترة الطاهرة الناطق ، والمجاهد الوحيد دون مبدءه المقدس بالسيف واللسان ، أخطب من سحبان وائل ، وأنطق من قس الأيادي ، وأصدق في مقاله من قطاة (2).
1 ـ مثل يضرب : أي أعلى الناس سهما.
2 ـ أصدق من قطاة. مثل مشهور.


(89)
    وناهيك بقول معاوية بن أبي سفيان لقومه يوم صفين : إن خطيب الأنصار قيس ابن سعد يقوم كل يوم خطيبا ، وهو والله يريد أن يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس القيل ( مر ص 81 ) وفي قول أمير المؤمنين عليه السلام له عند بعض مقاله كما مر ص 76 : أحسنت والله يا قيس ؟ وأجملت. لغنى وكفاية عن أي إطراء وثناء عليه.

    ( حديث زهده )
    لا نحاول في البحث عن هذه النواحي في أي من التراجم سرد تاريخ أمة غابرة ، أو ذكريات أماثل الأمة أو حثالتها في القرون الخالية فحسب ، بل إنما نخوض فيها بما فيها من عظات دينية ، وفلسفة أخلاقية ، وحكم عملية ، ومعالم روحية ، ومصالح اجتماعية ، ودستور في مناهج السير إلى المولى سبحانه ، وبرنامج في إصلاح النفس ، ودروس في التحلي بمكارم الأخلاق التي بعث لا تمامها نبي الاسلام.
    وهناك نماذج من نفسيات شيعة العترة الطاهرة وما لهم دون مناوئيهم من خلاق من المكارم والفضايل والقداسة والنزاهة يحق بذلك كله أن يكون كل من نظراء قيس قدوة للبشر في السلوك إلى المولى ، وقادة للخلق في تهذيب النفس ، ومؤدبا للأمة بالخلايق الكريمة ، ومصلحا للمجتمع بالنفسيات الراقية ، والروحيات السليمة ، فلن تجد فيهم جرف منهال ، ولا سحاب منجال (1)
    ففي وسع الباحث أن يستخرج من تاريخ تلكم النفوس القدسية من قيس ومن يصافقه في المبدء الديني ، ومن ترجمة من يضادهم في التشيع بآل الله من عمرو بن العاص ومن يشاكله ، حقيقة راهنة دينية أثمن وأغلى من معرفة حقايق الرجال ، و الوقوف على تاريخ الأجيال الماضية ، ويمكنه أن يقف بذلك على غاية كل من الحزبين ( العلوي والأموي ) مهما يكن القارئ شريف النفس ، حرا في تفكيره ، غير مقلد ولا أمعة ، مهما حداه التوفيق إلى اتباع الحق. والحق أحق أن يتبع ، غير ناكب عن الطريقة المثلى في البخوع للحقايق ، والجنوح إليها.
1 ـ مثل يضرب. جرف منهال : أي لا حزم عنده ولا عقل. سحاب منجال : أي لا يطمع في خيره.

(90)
    فخذ قيس بن سعد وعمرو بن العاص مثالا من الفريقين وقس بينهما ، وضع يدك على أي مأثرة تحاوله من طهارة مولد ، وإسلام ، وعقل ، وحزم ، وعفة ، وحناء ، وشمم ، وإباء ، ومنعة ، وبذخ ، وصدق ، ووفاء ، ووقار ، ورزانة ، ومجد ، ونجدة ، و شجاعة ، وكرم ، وقداسة ، وزهد ، وسداد ، ورشد ، وعدل ، وثبات في الدين ، وورع عن محارم الله ، إلى مآثر أخرى لا تحصى ، تجد الأول منهما حامل عب كل منها بحيث لو تجسم أي من تلكم الصفات ليكون هو مثاله وصورته. وهل ترى الثاني كذلك ؟ أللهم ؟ لا. بل كل منها في ذاته محكوم بالسلب ، أضف إلى مخاز في المولد والمحتد والدين والفروسية والأخلاق والنفسيات كلها ، وسنلمسك كل هذه بيديك عن قريب إنشاء الله تعالى.
    عندئذ يعرف المنقب نفسية كل من إمامي الحزبين ( إذ الناس على دين ملوكهم ) ويكون على بصرة من أمرهما ، وحقيقة دعوة أي منهما ، وتكون أمثلتهما نصب عينيه ، إن لم يتبع الهوى ، ولا تضله تعمية من يروقه جهل الأمة الإسلامية بالحقايق بقوله في مقاتلي أمير المؤمنين والخارجين عليه : إنهم كانوا مجتهدين مخطئين ولهم أجر واحد ، أو بقوله : الصحابة كلهم عدول. وإن فعل أحدهم ما فعل وجنت يداه ما جنت ، وخرج عن طاعة الإمام العادل ، وسن لعنه وسبه وحاربه وقاتله وقتله.
    فالناظر إلى هذه التراجم بعين النصفة إذا أمعن فيها بما فيها من المغازي المذكورة يعتقد بأن (1) أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة وإن السنن لنيرة لها أعلام ، وإن البدع لظاهرة لها أعلام ، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به ، فأمات سنة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وصدق بقول النبي الطاهر : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في نار جهنم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثم يرتبط في قعرها.
    لعل الباحث لا يمر على شيء من خطب سيد الخزرج وكتبه وكلمه ومحاضراته إلا ويجده طافحا بقداسة جانبه عن كل ما يلوث ويدنس من إتباع الهوى ، وبزهادته
1 ـ من هنا إلى آخر الكلمة لمولانا أمير المؤمنين إلا كلمتي صدق والطاهر.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس