كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 71 ـ 80
(71)
حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ، ووثب محمد بن مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه. فأرسل إليه قيس : ويحك أعلي تثب ؟ والله ما أحب أن لي ملك الشام ومصر وإني قتلتك فأحقن دمك. فأرسل إليه مسلمة : إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر ، وكان قيس له حزم ورأي (1).
    خرج أمير المؤمنين عليه السلام إلى الجمل وقيس على مصر ، ورجع من البصرة إلى الكوفة وهو بمكانه ووليها أربعة أشهر وخمسة أيام ، دخلها كما مر في مستهل ربيع الأول وصرف منها لخمس خلون من رجب كما في الخطط للمقريزي ، فما في الاستيعاب وغيره : إنه شهد الجمل الواقع في جمادى الآخرة سنة 36 في غير محله ، نعم يظهر من التاريخ شهوده في مقدمات الجمل.
    وولاه على أمير المؤمنين آذربيجان كما في تاريخ اليعقوبي 2 ص 178 وكتب إليه وهو عليها : أما بعد : فأقبل على خراجك بالحق ، وأحسن إلى جندك بالإنصاف ، وعلم من قبلك مما علمك الله ، ثم إن عبد الله بن شبيل الأحمسي سألني الكتاب إليك فيه بوصايتك به خيرا ، فقد رأيته وادعا متواضعا ، فألن حجابك ، وافتح بابك ، واعمد إلى الحق ، فإن من وافق الحق ما يحبو أسره ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
    قال غياث : ولما أجمع علي على القتال لمعاوية كتب أيضا إلى قيس : أما بعد : فاستعمل عبد الله بن شبيل الأحمسي خليفة لك وأقبل إلي ، فإن المسلمين قد أجمع ملأهم وانقادت جماعتهم ، فعجل الاقبال فأنا سأحضرن إلى المحلين عند غرة الهلال إنشاء الله ، وما تأخري إلا لك ، قضى الله لنا ولك بالاحسان في أمرنا كله.
    وروى الطبري في تاريخه 6 ص 91 ، وابن كثير في تاريخه 8 ص 14 عن الزهري : أنه قال : جعل علي عليه السلام قيس بن سعد على مقدمة من أهل العراق إلى قبل آذربيجان وعلى أرضها وشرطة الخميس التي ابتدعتها العرب وكانوا أربعين ألفا بايعوا عليه السلام على الموت ، ولم يزل قيس يداري ذلك البعث حتى قتل علي عليه السلام واستخلف
1 ـ تاريخ الطبري 5 ص 227 ، كامل ابن الأثير 3 ص 106 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ؟ ص 23 نقلا عن كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي.

(72)
أهل العراق الحسن بن علي عليها السلام على الخلافة.

    ( حديث دهاءه )
    يجد القارئ شواهد قوية على ذلك من مواقفه العظيمة في المغازي ، ونظراته العميقة في الحروب ، وآرائه المتبعة في مهمات القضايا ، وأفكاره العالية في إمارته ، وإعظام الإمام أمير المؤمنين محله من الدهاء ، وإكباره رأيه في حكومته ، فإنه لما قدم قيس من ولاية مصر على علي ، وأخبره الخبر الجاري بينه وبين رجال مصر ومعاوية علم أنه كان يقاسي أمورا عظاما من المكايدة ، فعظم محل قيس عنده ، وأطاعه في الأمر كله ( تاريخ الطبري 5 ص 231 ).
    فعندها تجد سيد الخزرج ( قيس ) في الطبقة العليا من أصحاب الرأي ومن مقدمي رجالات النهى والحجا ، وتشاهد هناك آيات عقله المطبوع والمكتسب ، وتعده أعظم دهاة العرب حين ثارت الفتن ، وسعرت نار الحرب ، إن لم نقل : أعظم دهاة العالم ، ونرى له التقدم في الفضيلة على الخمسة (1) الذين عدوه منهم ، وأولاهم بالعقلية الناضجة ، وتجد دون محله الشامخ ما في الاستيعاب 2 ص 538 وغيره (2) من : إنه أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب من أهل الرأي والمكيدة في الحرب ، مع النجدة والسخاء والشجاعة. قال الحلبي في سيرته : من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لرأى العجب من وفور عقله. وقال ابن كثير في البداية 8 ص 99 : ولاه علي نيابة مصر وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص.
    وكان الإمام السبط الحسن يوصي أمير عسكره عبد الله بن العباس وهو أمير اثنى عشر ألفا من فرسان العرب ، وقراء مصر بمشاورة قيس بن سعد والمراجعة إليه في مهام الحرب مع معاوية والأخذ برأيه في سياسة الجيش ، كما يأتي حديثه.
    وكان ثقيلا جدا على معاوية وأصحابه ، ولما قدم قيس إلى المدينة من مصر
1 ـ هم : معاوية. عمرو بن العاص. قيس بن سعد. المغيرة بن شعبة. عبد الله بن بديل : راجع تاريخ الطبري 6 ص 94 ، كامل ابن الأثير 3 ص 143 ، أسد الغابة 4 ص 215.
2 ـ أسد الغابة 4 ص 215 ، الإصابة 3 ص 249 ، تهذيب التهذيب 8 ص 395 ، السيرة الحلبية 3 ص 93.


(73)
أخافه مروان والأسود بن أبي البختري فظهر قيس إلى علي عليه السلام فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول : أمددتما عليا بقيس بن سعد ورأيه و مكايدته ، فوالله لو أنكما أمددتماه بمأة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ إلي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي ( تاريخ الطبري 6 ص 53 ) وعالج معاوية قلوب أصحابه وأمنهم من ناحية قيس بافتعال كتاب عليه وقرائته على أهل الشام كما يأتي تفصيله.
    وكان قيس يرى نفسه في المكيدة والدهاء فوق الكل وأولى الجميع ويقول : لولا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : المكر والخديعة في النار. لكنت من أمكر هذه الأمة (1) ويقول : لولا الاسلام لمكرت مكرا لا تطيقه العرب (2)
    فشهرته بالدهاء مع تقيد المعروف بالدين ، وكلاءته حمى الشريعة ، والتزامه البالغ في إعمال الرأي بما يوافق رضى مولاه سبحانه ، وكفه نفسه عما يخالف ربه ، تثبت له الأولوية والتقدم والبروز بين دهاة العرب ، ولا يعادله من الدهاة الخمسة الشهيرة أحد إلا عبد الله بن بديل وذلك لاشتراكهما في المبدء ، والتزامهما بالدين الحنيف ، والكف عن الهوى ، والوقوف عند مضلات الفتن.
    وكلامه لمالك الأشتر ( مالك وما مالك ؟ ) ينم عن غزارة عقله ، وحسن تدبيره ، واستقامة رأيه ، وقوة إيمانه ، وهو من غرر الكلم ، ودرر الحكم ، رواه شيخ الطايفة في أماليه ص 86 في حديث طويل فقال : قال الأشتر لعلي عليه السلام : دعني يا أمير المؤمنين ؟ أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك. فقال له : كف عني. فانصرف الأشتر وهو مغضب ، ثم إن قيس بن سعد لقي مالكا في نفر من المهاجرين والأنصار فقال : يا مالك ؟ كلما ضاق صدرك بشئ أخرجته ، وكلما استبطأت أمرا استعجلته ، إن أدب الصبر : التسليم ، وأدب العجلة : الأناة ، وإن شر القول : ما ضاهى العيب ، وشر الرأي : ما ضاهى التهمة ، فإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أمرت فأطع ، ولا تسأل قبل البلاء ، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر ، فإن في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشق على صاحبك.
1 ـ أسد الغابة 4 ص 215 ، تاريخ ابن كثير 8 ص 101.
2 ـ الدرجات الرفيعة ، الإصابة 3 ص 249.


(74)
    ولما بويع أمير المؤمنين بلغه : أن معاوية قد وقف من إظهار البيعة له وقال : إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان بايعته. فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين فقال له : يا أمير المؤمنين ؟ إن معاوية من قد عرفت وقد ولاه الشام من كان قبلك فوله أنت كيما تتسق عرى الأمور ثم اعزله إن بدا لك فقال أمير المؤمنين : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا قال : لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبدا ، وما كنت متخذ المضلين عضدا ، لكن أبعث إليه وادعوه إلى ما في يدي من الحق ، فإن أجاب فرجل من المسلمين ، له ما لهم ، و عليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى الله ، فولى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذا ، فحاكمه إذا ، فأنشأ يقول :
نصحت عليا في ابن حرب نصيحة ولم يقبل النصح الذي جئته به وقالوا له : ما أخلص النصح كله فرد فما مني له الدهر ثانيه وكانت له تلك النصيحة كافيه فقلت له : إن النصيحة غاليه
    فقام قيس بن سعد فقال : يا أمير المؤمنين ؟ إن المغيرة أشار عليك بأمر لم يرد الله به ، فقدم فيه رجلا وأخر فيه أخرى ، فإن كان لك الغلبة يقرب إليك بالنصيحة ، و إن كانت لمعاوية يقرب إليه بالمشورة. ثم أنشأ يقول :
يكاد ومن أرسى بثيرا مكانه (1) وكنت بحمد الله فينا موفقا فسبحان من علا السماء مكانها مغيرة أن يقوى عليك معاويه وتلك التي أرءاكها غير كافيه وأرضا دحاها فاستقرت كما هيه
    فكان هو صاحب الرأي الوحيد بعين الإمام الطاهر تجاه تلك الآراء التعسة الفارغة عن النزعات الروحية في كل منحسة ومتعسة بين حاذف وقاذف (2).

    ( فروسيته )
    إن الباحث لا يقف على أي معجم يذكر فيه قيس إلا ويجد في طيه جمل الثناء
1 ـ الواو : للقسم. بثير مصغرا. جبل معروف بمنى.
2 ـ مثل يضرب لمن هو بين شرين : الحاذف بالعصا ، القاذف بالحصا.


(75)
متواصلة على حماسته وشجاعته ، ويقرأ له دروسا وافية حول فروسيته ، وبأسه في الحروب وشدته في المواقف الهائلة ، فما عساني أن أكتب عن فارس سجل له التأريخ : إنه كان سياف النبي الأعظم ، وأشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين ؟ (1) وما عساني أن أقول في باسل كان أثقل خلق الله على معاوية ؟ جبن أصحابه الشجاع والجبان ، وكان أشد عليه من جيش عرام ، وكتائب تحشد مائة ألف مقاتل ، وكان يوم صفين يقول والله إن قيسا يريد أن يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس القيل (2).
    تعرب عن هذه الناحية مواقفه في العهدين : النبوي والعلوي. أما مواقفه على العهد النبوي فتجد نبأها العظيم في صحايف بدر وفتح وحنين واحد وخيبر ونضير وأحزاب ، وهو يعد مواقفه هذه كلها في شعره ويقول :
إننا إننا الذين إذا الفتح بعد بدر وتلك قاصمة الظهر شهدنا وخيبرا وحنينا واحد وبالنضير ثنينا
    وقال سيدنا صاحب ( الدرجات الرفيعة ) : إنه شهد مع النبي المشاهد كلها ، وكان حامل راية الأنصار مع رسول الله ، أخذ النبي صلى الله عليه وآله يوم الفتح الراية من أبيه ـ سعد ـ و دفعها إليه. وقال الخطيب في تاريخه 1 ص 177 : إنه حمل لواء رسول الله في بعض مغازيه. وفي تاريخي الطبري وابن الأثير 3 ص 106 : إنه كان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وكان من ذوي الرأي والبأس. وفي الاستيعاب (3) : إنه كان حامل راية النبي في فتح مكة إذا نزعها من أبيه ، وأرسل عليا رضي الله عنه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس ففعل.
    وأما مواقفه على العهد العلوي فكان يحض أمير المؤمنين على قتال معاوية ويحثه على محاربة مناوئيه ويقول : يا أمير المؤمنين ؟ ما على الأرض أحد أحب إلينا أن يقيم فينا منك. لأنك نجمنا الذي نهتدي به ، ومفزعنا الذي نصير إليه ، وإن فقدناك لتظلمن أرضنا وسماؤنا ، ولكن والله لو خليت معاوية للمكر ليرومن مصر ، وليفسدن اليمن ، وليطعمن في العراق ، ومعه قوم يمانيون قد اشربوا قتل عثمان ، وقد اكتفوا بالظن
1 ـ إرشاد القلوب للديلمي 2 ص 201.
2 ـ يأتي ذكر مصادر هذه كلها إنشاء الله تعالى.
3 ـ 2 ص 537 ، والسيرة الحلبية 3 ص 93 ، وهامشها سيرة زيني دحلان 2 ص 265.


(76)
عن العلم ، وبالشك عن اليقين ، وبالهوى عن الخير ، فسر بأهل الحجاز وأهل العراق ثم ارمه بأمر يضيق فيه خناقه ، ويقصر له من نفسه. فقال : أحسنت والله يا قيس ؟ وأجملت (1).
    فأرسله علي عليه السلام مع ولده الحسن الزكي وعمار بن ياسر إلى الكوفة ودعوة أهلها إلى نصرته فخطب الحسن عليه السلام هناك وعمار وبعدهما قام قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ؟ إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى ، لكان علي أحق الناس به في سابقته وهجرته وعلمه وكان قتل من أبى ذلك حلالا وكيف ؟ والحجة قامت على طلحة والزبير وقد بايعاه خلعاه حسدا. فقام خطباؤهم وأسرعوا إلى الرد بالإجابة فقال النجاشي :
رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا وقلنا له : أهلا وسهلا ومرحبا فمرنا بما ترضى نجبك إلى الرضا وتسويد من سودت غير مدافع فإن نلت ما تهوى فذاك نريده عليا وأبناء النبي محمد نقبل يديه من هوى وتودد بصم العوالي والصفيح المهند (2) وإن كان من سودت غير مسود وإن تخط ما تهوى فغير تعمد
    وقال قيس بن سعد حين أجاب أهل الكوفة :
جزى الله أهل الكوفة اليوم نصرة وقالوا : علي خير حاف وناعل هما أبرزا زوج النبي تعمدا فما هكذا كانت وصاة نبيكم فهل بعد هذا من مقال لقائل ؟ أجابوا ولم يأبوا بخذلان من خذل رضينا به من ناقضي العهد من بدل يسوق بها الحادي المنيخ على جمل وما هكذا الانصاف أعظم بذا المثل ألا قبح الله الأماني والعلل
    هذا لفظ شيخ الطائفة في أمالي ولده ص 87 و 94 ، ورواه شيخنا المفيد فيالنصرة
1 ـ أمالي شيخ الطايفة ص 85.
2 ـ صم الرجل بحجر : ضربه به. السيف المصمم : الماضي. العوالي إلى ج العالية : ما يلي السنان من القناة. ويطلق على الرمح. الصفيح ج الصفيحة : السيف العريض. هند السيف : أحد.


(77)
لسيد العترة ـ ونسب الأبيات الدالية إلى قيس بن سعد بتغيير وزيادة وهذا لفظه : فلما قدم الحسن عليه السلام وعمار وقيس الكوفة مستنفرين لأهلها ( إلى أن قال ) : ثم قام قيس بن سعد رحمه الله فقال : أيها الناس إن هذا الأمر لو استقبلناه فيه شورى لكان أمير المؤمنين أحق الناس به لمكانه من رسول الله ، وكان قتال من أبى ذلك حلالا ، فكيف في الحجة على طلحة والزبير ؟ وقد بايعاه طوعا ثم خلعاه حسدا وبغيا ، وقد جاءكم علي في المهاجرين والأنصار ، ثم أنشأ يقول :
رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا وقلنا لهم : أهلا وسهلا ومرحبا فما للزبير الناقض العهد حرمة أتاكم سليل المصطفى ووصيه فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغا يسود من أدناه غير مدافع فإن يأتي ما نهوى فذاك نريده عليا وأبناء الرسول محمد نمد يدينا من هوى وتودد ولا لأخيه طلحة اليوم من يد وأنتم بحمد الله عار من الهد (1) وصم العوالي والصفيح المهند وإن كان ما نقضيه غير مسود وإن نخط ما نهوى فغير تعمد
    وكان يسير في تلك المواقف بكل عظمة وجلال بهيئة فخمة ، ترهب القلوب ، وترعب الفوارس ، وترعد الفرائص ، قال المنذر بن الجارود يصف مواكب المجاهدين مع أمير المؤمنين وقد رآهم في الزاوية (2) : ثم مر بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض ، وقلنسوة بيضاء ، وعمامة صفراء ، متنكب قوسا ، متقلد سيفا ، تخط رجلاه في الأرض ، في ألف من الناس ، الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض ، معه راية صفراء ، قلت : من هذا ؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار وأبناءهم وغيرهم من قحطان. ( مروج الذهب 2 ص 8 ).
    ولما أراد أمير المؤمنين المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد : فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركوا الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم.
1 ـ الهد : الضعيف والجبان.
2 ـ موضع قرب البصرة ، وقرية بين واسط والبصرة على شاطئ دجلة.


(78)
    فقام قيس بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ؟ انكمش (1) بنا إلى عدونا ، ولا تعرج (2) فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم لإدهانهم في دين الله ، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله من المهاجرين و الأنصار ، والتابعين بالاحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه ، وفيأنا لهم في أنفسهم حلال ، ونحن لهم فيما يزعمون قطين. قال : يعني رقيق. ( كتاب صفين ص 50 )
    قال صعصعة بن صوحان : لما عقد علي بن أبي طالب الألوية لأجل حرب صفين أخرج لواء رسول الله صلى الله عليه وآله ولم ير ذلك اللواء منذ قبض رسول الله ، فعقده علي ودعا قيس بن سعد بن عبادة فدفع إليه واجتمعت الأنصار وأهل بد فلما نظروا إلى لواء رسول الله صلى الله عليه وآله بكوا فأنشأ قيس بن سعد يقول :
هذا اللواء الذي كنا نحف به ما ضر من كانت الأنصار عيبته قوم إذا حاربوا طالت أكفهم مع النبي وجبريل لنا مدد أن لا يكون له من غيرهم أحد بالمشرفية حتى يفتح البلد
    ابن عساكر في تاريخه 3 ص 245 ، وابن عبد البر في ( الاستيعاب ) 2 ص 539 ، وابن الأثير في ( أسد الغابة ) 4 ص 216 ، والخوارزمي في ( المناقب ) ص 122 (3).
    ولما تعاظمت الأمور على معاوية دعا عمر بن العاص ، وبسر بن أرطاة ، و عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فقال لهم : إنه قد غمني رجال من أصحاب علي منهم : سعيد بن قيس في همدان ، والأشتر في قومه ، والمرقال ( هاشم بن عتبة ) ، وعدي بن حاتم ، وقيس بن سعد في الأنصار ، وقد وقتكم يمانيكم بأنفسها حتى لقد إستحييت لكم وأنتم عددتم من قريش ، وقد أردت أن يعلم الناس أنكم أهل غنا ، وقد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم فاجعلوا ذلك إلي. فقالوا : ذلك إليك. قال : فأنا أكفيكم سعيد بن قيس وقومه غدا. وأنت يا عمرو ؟ لأعور بني
1 ـ انكمش الرجل : أسرع.
2 ـ من عرج : وقف ولبث.
3 ـ ذكر الأبيات له شيخنا المفيد في يوم الجمل وهو في غير محله.


(79)
زهرة : المرقال. وأنت يا بسر ؟ لقيس بن سعد. وأنت يا عبيد الله ؟ للأشتر النخعي. وأنت يا عبد الرحمن بن خالد ؟ لأعور طي يعني : عدي بن حاتم. ثم ليرد كل رجل منكم عن حماة الخيل فجعلها نوايب في خمسة أيام لكل رجل منهم يوما.
    وإن بسر بن أرطاة غدا في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقي قيس بن سعد في كماة الأنصار فاشتدت الحرب بينهما وبرز قيس كأنه فنيق (1) مقرم (2) وهو يقول :
أنا ابن سعد زانه عباده ليس فراري بالوغا بعاده يا رب أنت لقني الشهادة (3) والخزرجيون رجال ساده إن الفرار للفتى قلاده والقتل خير من عناق غاده
حتى متى تثنى لي الوسادة
    فطعن خيل بسر وبرز له بعد ملي وهو يقول :
أنا ابن أرطاة عظيم القدر ليس الفرار من طباع بسر وقد قضيت في عدوي نذري مراود في غالب بن فهر إن يرجع اليوم بغير وتر يا ليت شعري ما بقي من عمري
    وجعل يطعن بسر قيسا فيضربه قيس بالسيف فيرده على عقبيه ، ورجع القوم جميعا ولقيس الفضل ( كتاب صفين ص 226 ).
    وروى نصر في كتابه ص 227 ـ 240 : إن معاوية دعا النعمان بن بشر بن سعد الأنصاري ، ومسلمة بن مخلد الأنصاري ولم يكن معه من الأنصار غيرهما فقال : يا هاذان ؟ لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج ، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى والله جبنوا أصحابي الشجاع والجبان ، وحتى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قالوا : قتله الأنصار ، أما والله لألقينهم بحدي وحديدي ، ولأعيبن لكل فارس منهم فارسا ينشب (4) في حلقه ، ثم لأرمينهم بأعدادهم من قريش
1 ـ فنيق كشريف : الفحل المكرم لا يؤذى ولا يركب لكرامته.
2 ـ أقرم الفحل : ترك عن الركوب والعمل للفحلة.
3 ـ في مناقب ابن شهر آشوب : يا ذا الجلال لقني الشهادة.
4 ـ نشب الشيئ في الشيئ : علق فيه.


(80)
رجالا لم يغذهم التمر والطفيشل (1) يقولون : نحن الأنصار قد والله آووا ونصروا ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم.
    فغضب النعمان فقال : يا معاوية ؟ لا تلومن الأنصار بسرعتهم في الحرب فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية ، فأما دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا ؟ فافعل ، وأما التمر والطفيشل فإن التمر كان لنا فلما أن ذقتموه شاركتمونا فيه ، وأما الطفيشل فكان لليهود فلما أكلناه غلبنا هم عليه كما غلب قريش على سخينة (2) ثم تكلم مسلمة بن مخلد ( إلى أن قال ) :
    وانتهى الكلام إلى الأنصار فجمع قيس بن سعد الأنصاري الأنصار ثم قام خطيبا فيهم فقال : إن معاوية قد قال ما بلغكم وأجاب عنكم صاحبكم ، فلعمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس ، وإن وترتموه في الاسلام لقد وترتموه في الشرك ، وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين الذي أنتم عليه ، فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس ، وجدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم ، وأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل ، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب ، وأما التمر فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه ، وأما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت : قريش السخينة. ثم قال قيس بن سعد في ذلك :
يا بن هند : دع التوثب في الحرب نحن من قد رأيت فادن إذا إن برزنا بالجمع نلقك في الجمع فالقنا في اللفيف نلقك في الخزرج أي هذين ما أردت فخذه ؟ إذا نحن في البلاد نأينا (3) شئت بمن شئت في العجاج إلينا وإن شئت محضة أسرينا تدعو في حربنا أبوينا ليس منا وليس منك الهوينا

1 ـ كسميدع : نوع من المرق.
2 ـ طعام يتخذ من دقيق وسمن كانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها وسميت : قريش السخينة.
3 ـ ذكر ابن أبي الحديد في شرحه 2 ص 297 ستة من هذه الأبيات مع اختلاف فيها.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس