كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 161 ـ 170
(161)
    ( وفي رواية سبط ابن الجوزي ) : ثم التفت الوليد إلى عمرو بن العاص وقال : إن لم تصدقوني وإلا فسلوا. أراد تبكيت عمرو ، قال هشام بن محمد : ومعنى هذا الكلام : إن عليا خرج يوما من أيام صفين فرأى عمرو بن العاص في جانب العسكر ولم يعرفه فطعنه ، فوقع ، فبدت عورته ، فاستقبل عليا فأعرض عنه ثم عرفه فقال : يا بن النابغة ؟ أنت طليق دبرك أيام عمرك ، وكان قد تكرر منه هذا الفعل.

    رواية ابن عباس :
    روى نصر بإسناده عن ابن عباس قال : تعرض عمرو بن العاص لعلي يوما من أيام صفين ، وظن أنه يطمع منه في غرة ( أي : في غفلة ) فيصيبه ، فحمل عليه علي عليه السلام فلما كاد أن يخالطه أذرى ( أي : ألقى ) نفسه عن فرسه ، ورفع ثوبه ، و شغر 2 (1) برجله فبدت عورته ، فصرف عليه السلام وجهه عنه ، وقام معفرا بالتراب ، هاربا على رجليه ، معتصما بصفوفه ، فقال أهل العراق : يا أمير المؤمنين ؟ أفلت الرجل. فقال : أتدرون من هو ؟ قالوا : لا. قال : إنه عمرو بن العاص تلقاني بسوأته فذكرني بالرحم ( لفظ ابن كثير ) فصرفت وجهي عنه ، ورجع عمرو إلى معاوية فقال : ما صنعت يا أبا عبد الله ؟ فقال : لقيني علي فصرعني. قال : احمد الله وعورتك ـ وفي لفظ ابن كثير : احمد الله واحمد أستك ـ والله إني لأظنك لو عرفته لما اقتحمت عليه. وقال معاوية في ذلك :
ألا لله من هفوات عمـرو فقد لاقى أبا حسن عليا فلو لم يبد عورته للاقى له كف كأن براحتيها فإن تكن المنية أخطأته يعاتبني على تركي برازي فآب الوائلي مآب خازي به ليثا يذلل كل غازي منايا القوم يخطف خطف باز فقد غنى بها أهل الحجاز
    فغضب عمرو وقال : ما أشد تعظيمك عليا في كسري هذا ـ وفي لفظ ابن أبي الحديد : ما أشد تغليطك أبا تراب في أمري ـ هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه ؟. أفترى السماء قاطرة لذلك دما ؟! قال : لا ولكنها معقبة لك خزيا. كتاب صفين ص
1 ـ شغر الكلب : رفع إحدى رجليه فبال.

(162)
216 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 287 ، تاريخ ابن كثير 7 ص 263.

    معاوية وعمرو :
    إستأذن عمرو بن العاص على معاوية بن أبي سفيان فلما دخل عليه استضحك معاوية فقال عمرو : ما أضحكك يا أمير المؤمنين ؟ أدام الله سرورك. قال : ذكرت ابن أبي طالب وقد غشيك بسيفه فاتقيته ووليت. فقال : أتشمت بي يا معاوية ؟ وأعجب من هذا يوم دعاك إلى البراز فالتمع لونك ، وأطت (1) أضالعك ، وانتفخ منخرك ، والله لو بارزته لأوجع قذالك (2) وأيتم عيالك ، وبزك سلطانك ، وأنشأ عمرو يقول :
معاوي لا تشمت بفارس بهمة معاوي إن أبصرت في الخيل مقبلا وأيقنت أن الموت حق وإنه فإنك لو لاقيته كنت بومة (3) وما ذا بقاء القوم بعد اختباطه ؟ دعاك فصمت دونه الأذن هاربا وأيقنت أن الموت أقرب موعـد وتشمت بي إن نالني حد رمحه أبى الله إلا أنه ليث غابة وأي امرؤ لاقاه لم يلف شلوه لقي فارسا لا تـعتريه الفوارس أبا حسن يهوي دهتك الوساوس لنفسك إن لم تمض في الركض حابس أتيح لها صقر من الجو رايس (4) وإن امرؤ يلقى عليا لآيس فنفسك قد ضاقت عليها الأمالس (5) وأن الذي ناداك فيها الدهارس (6) وعضضني ناب من الحرب ناهس (7) أبو أشبل تهدى إليه الفرايس بمعترك تسفي عليه الروامس (8)

1 ـ أط : صوت. الإبل : حنت.
2 ـ القذال : بين الأذنين من مؤخر الرأس ج قذل وأقذلة.
3 ـ البوم والبومة. طائر يسكن الخراب. يضرب به المثل في الشوم.
4 ـ من رأس يريس. مشى متبخترا. يقال رأس القوم. اعتلى عليهم وغلبهم.
5 ـ الأمالس والاماليس ج امليس : الفلاة التى ليس فيها نبات.
6 ـ الدهرس : الشدة والبلية.
7 ـ نهس اللحم نهسا بفتح العين وكسره : أخذه ونتفه ومده بالفم.
8 ـ الرمس : الستر والتغطية. ويقال لما يحثى على القبر من التراب : رمس.


(163)
فإن كنت في شك فارهج عجاجه وإلا فتلـك الترهات البسابس (1)
    فقال معاوية : مهلا يا أبا عبد الله ؟ ولا كل هذا.
    قال : أنت استدعيته.
    وفي لفظ ابن قتيبة في ( عيون الأخبار ) 1 ص 169 : رأى عمرو بن العاص معاوية يوما يضحك فقال له : مم تضحك يا أمير المؤمنين ؟ أضحك الله سنك. قال : أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوأتك يوم ابن أبي طالب ، أما والله لقد وافقته منانا كريما ولو شاء أن يقتلك لقتلك. قال عمرو : يا أمير المؤمنين ؟ أما والله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فأحولت عيناك ، وربا سحرك (2) وبدا منك ما أكره ذكره ذلك ، فمن نفسك فاضحك أو دع.
    وفي لفظ البيهقي في [ المحاسن والمساوي ] 1 ص 38 : دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ناس فلما رآه مقبلا استضحك فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أضحك الله سنك وأدام سرورك وأقر عينك ما كل ما أرى يوجب الضحك. فقال معاوية ؟ خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق فحمل عليك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وأبديت عورتك ، كيف حضرك ذهنك في تلك الحال ؟ أما والله لقد واقفت هاشميا منافيا ولو شاء أن يقتلك لقتلك. فقال عمرو : يا معاوية إن كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضحك ، أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لأوجع قذلك ، وأيتم عيالك ، وأنهب مالك ، وعزل سلطانك ، غير أنك تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي ، أما إني قد رأيتك يوم دعاك إلى البراز فاحولت عيناك ، وأربد شدقاك ، وتنشر منخراك ، وعرق جبينك ، وبدا من أسفلك ما أكره ذكره. فقال معاوية : حسبك حيث بلغت لم نرد كل هذا.
    وفي لفظ الواقدي : قال معاوية يوما لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله ؟ لا أراك إلا ويغلبني الضحك قال : بماذا ؟ قال : أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين فأذريت نفسك فرقا من شبا سنانه ، وكشفت سوأتك له. فقال عمرو : أنا منك أشد ضحكا إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك ، وربا لسانك في فمك ، وعصب
1 ـ كتاب صفين 253 ، أمالي الشيخ ص 84 ، تذكرة السبط ص 52.
2 ـ ربا ربوا : انتفخ. السحر بفتح السين وضمه : الرئة.


(164)
ريقك ، وارتدت فرائصك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك. فقال معاوية : لم يكن هذا كله ، وكيف يكون ؟ ودوني عك والأشعريون. قال : إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك ، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون ، فكيف كانت حالك. لو جمعكما مأقط الحرب. قال : يا أبا عبد الله ؟ خض بنا الهزل إلى الجد : إن الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما. شرح ابن أبي الحديد 2 ص 111.
    قال نصر في كتابه ص 229 : وكان معاوية لم يزل يشمت عمرا ويذكر يومه المعهود ويضحك ، وعمرو يعتذر بشدة موقفه بين يدي أمير المؤمنين ، فشمت به معاوية يوما و قال : لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس وفررتم وإنك لجبان ، فغضب عمرو ثم قال : والله لو كان عليا ما قحمت عليه يا معاوية ؟ فهلا برزت إلى علي إذا دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم ؟ وقال عمرو في ذلك :
تسير إلى ابن ذي يزن سعيد فهل لك في أبي حسن علي ؟ دعاك إلى النزال فلم تجبه وكنت أصم إذ ناداك عنه فآب الكبش قد طحنت رحاه فما أنصفت صحبك يا بن هند فلا والله ما أضمرت خيرا وتترك في العجاجة من دعاكا لعل الله يمكن من قفاكا ولو نازلته تربت يداكا وكان سكوته عنه مناكا بنجدته ولم تطحن رحاكا أتفرقه وتغضب من كفاكا؟؟!! ولا أظهرت لي إلا هواكا
    أشار عمرو بن العاص في هذه الأبيات إلى ما رواه نصر في كتاب صفين ص 140 وغيره من المؤرخين من : أن عليا عليه السلام قام يوم صفين بين الصفين ثم نادى يا معاوية ؟ يكررها فقال معاوية : إسألوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية : ويحك على م يقتتل الناس بيني وبينك ، ويضرب بعضهم بعضا ؟؟!! أبرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له. فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ فيما هيهنا ، أبارزه ؟؟!! فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل واعلم أنه إن نكلت عنه لم تزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي. فقال معاوية : يا عمرو ؟ ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله


(165)
ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلا سقى الأرض من دمه. ثم انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه.
    خرج علي عليه السلام ذات يوم في صفين منقطعا من خيله ومعه الأشتر يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه وعلي يقول :
إني علي فسلوا لتخبروا سيفي حسام وسناني أزهر وحمزة الخير ومنا جعفر ذا أسد الله وفيه مفخر ثم ابرزوا إلى الوغا أو أدبروا منا النبي الطيب المطهـر له جناح في الجنان أخضر هذا بهذا وابن هند محجر
مذبذب مطرد مؤخر
    إذ برز له بسر بن أرطاة مقنعا في الحديد لا يعرف فناداه : أبرز إلي أبا حسن ؟ فانحدر إليه على تؤدة (1) غير مكترث به حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه على الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتقاه بسر بعورته وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه عليه السلام مستدبرا له فعرفه الأشتر حين سقط فقال : يا أمير المؤمنين ؟ هذا بسر بن أرطاة هذا عدو الله وعدوك ، فقال : دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها ؟ فحمل ابن عم لبسر شاب على علي وهو يقول:
أرديت بسرا والغلام ثايره أرديت شيخا غاب عنه ناصره
وكلنا حام لبسر واتره
    فحمل عليه الأشتر وهو يقول :
أكل يوم رجل شيخ شاغره تبرزها طعنة كف واتره وعورة تحت العجاج ظاهره عمرو وبسر رميا بالفاقره
    فطعنه الأشتر فكسر صلبه ، وقام بسر من طعنة علي وولت خيله ، وناداه علي يا بسر ؟ معاوية كان أحق بهذا منك. فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية : إرفع طرفك قد أدال (2) الله عمرا منك. فقال في ذلك الحارث بن نضر السهمي :
1 ـ أي تأنى وتمهل.
2 ـ أدال الشئ. جعله متداولا. يقال أدال الله زيدا من عمرو ، أي نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد.


(166)
أفي كل يوم فارس تندبونه يكف بها عن علي سنانه بدت أمس من عمرو فقنع رأسه فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما فلولاهما لم تنجوا من سنانره متى تلقيا الخيل المشيجة صيحة وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا وإن كان منه بعد في النفس حاجة له عورة تحت العجاجة باديه ويضحك منها في الخلاء معاوية وعورة بسر مثلها حذو حاذيه سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه هما كانتا للنفس والله واقيه وتلك بما فيها عن العود ناهيه وفيها علي فاتركا الخيل ناحيه ونار الوغى إن التجارب كافيه فعودوا إلى ما شئتما هي ماهيه
    كتاب صفين ص 246 ، الاستيعاب 1 ص 67 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 300 ، مطالب السئول ص 43 ، تاريخ ابن كثير 4 ص 30 ، نور الأبصار ص 95.
    ينبأنا التاريخ أن عمرو ليس بأول رجل كشف عن سوءته من بأس أمير المؤمنين وإنما قلد طلحة بن أبي طلحة فإنه لما حمل عليه أمير المؤمنين يوم أحد ورأى أنه مقتول لا محالة ، فاستقبله بعورته وكشف عنها. م ـ راجع تاريخ ابن كثير 4 ص 20 و ] ذكره الحلبي في سيرته 2 ص 247 ثم قال : وقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين : الأولى : حمل على بسر بن أرطاة. والثانية : حمل على عمرو بن العاص فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته ، فانصرف عنه علي كرم الله وجهه.

الأشتر وعمرو بن العاص
في معترك القتال بصفين
    إن معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم فقال : إن الأشتر قد غمني وأقلقني ، فاخرج بهذه الخيل في يحصب والكلاعيين فالقه فقاتل بها. فقال مروان : ادع لها عمرا فإنه شعارك دون دثارك. قال : وأنت نفسي دون وريدي. قال : لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء ، أو ألحقته بي في الحرمان ، ولكنك أعطيته ما في يدك ، ومنيته ما في يد غيرك ، فإن غلبت طاب له المقام ، وإن غلبت خف عليه الهرب. فقال معاوية :


(167)
سيغني الله عنك. قال : أما إلى اليوم فلن يغن ، فدعا معاوية عمرا وأمره بالخروج إلى الأشتر. فقال : أما إني لا أقول لك ما قال مروان. قال : فكيف تقول ؟! وقد قدمتك وأخرته ، وأدخلتك وأخرجته. قال : أما والله إن كنت فعلت لقد قدمتني كافيا ، وأدخلتني ناصحا ، وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر وإن كان لا يرضيهم إلا أخذها فخذها ، ثم قام فخرج في تلك الخيل فلقيه الأشتر أمام القوم وهو يقول :
يا ليت شعري كيف لي بعمرو ؟ ذاك الذي أطلبه بوتري ذاك الذي إن ألقه بعمري أجعله فيه طعام النسر ذاك الذي أوجبت فيه نذري ذاك الذي فيه شفاء صدري تغلي به عند اللقاء قدري أولا فربي عاذري بعذري
    فلما سمع عمرو هذا الرجز وعرف أنه الأشتر فشل وجبن واستحى أن يرجع وأقبل نحو الصوت وقال :
يا ليت شعري كيف لي بمالك وفارس قتلته وفاتك كم جاهل خيبته وحارك (1) ومقدم آب بوجهه حالك (2)
ما زلت دهري عرضة المهالك
    فغشيه الأشتر بالرمح فزاغ عنه عمرو فلم يصنع الرمح شيئا ، ولوى عمرو عنان فرسه وجعل يده على وجهه وجعل يرجع راكضا نحو عسكره ، فنادى غلام من يحصب : يا عمرو ؟ عليك العفا ما هبت الصبا.
كتاب صفين ص 233 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 295.
    ينبأك صدر هذا الحديث عن نفسيات أولئك المناضلين عن معاوية الدعاة إلى إمامته ، ويعرب عن غايات تلك الفئة الباغية بنص النبي الأطهر إماما ومأموما في تلك الحرب الزبون ، فما ينبغي لي أن أكتب عن إمام يكون مثل عمرو بن العاص شعاره ، ومثل مروان بن الحكم نفسه ؟؟!! وما يحق لك أن تعتقد في مأموم هذه محاوراته في معترك القتال مع إمامه المفترضة عليه طاعته ـ إن صحت الأحلام ـ ومشاغبته دون
1 ـ حرك. امتنع من الحق الذي عليه. غلام حرك. خفيف ذكي.
2 ـ حلك. اشتد سواده فهو حالك وحلك.


(168)
الرتبة والراتب ؟؟!!

    ابن عباس وعمرو
    حج عمرو بن العاص وقام بالموسم فأطرى معاوية وبني أمية وتناول بني هاشم ثم ذكر مشاهده بصفين ، فقال ابن عباس : يا عمرو ؟ إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك ومناك ما في يد غيره ، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك ، و كان الذي أخذت منه دون ما أعطيته ، وكل راض بما أخذ وأعطى ، فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقص ، حتى لو أن نفسك في يدك لألقيتها إليه ، وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ، ولا منيت إلا بالفجور والغش ، و ذكرت مشاهدك بصفين فوالله ما ثقلت علينا وطأتك ، ولقد كشفت فيها عورتك ، ولا نكتنا فيها حربك ، ولقد كنت فيها طويل اللسان ، قصير السنان ، آخر الحرب إذا أقبلت ، وأولها إذا أدبرت ، لك يدان : يد لا تبسطها إلى خير ، ويد لا تقبضها عن شر ، ووجهان : وجه مؤنس ووجه موحش ، ولعمري أن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى ، لك بيان وفيك خطل ، ولك رأي وفيك نكد ولك قدر وفيك حسد ، فأصغر عيب فيك أعظم عيب غيرك. فقال عمرو : أما والله ما في قريش أحد أثقل وطأة علي منك ، ولا لأحد من قريش قدر عندي مثل قدرك.
    البيان والتبيين 2 ص 239 ، العقد الفريد 2 ص 136 ، شرح ابن أبي الحديد 1 ص 196 نقلا عن البلاذري.

ابن عباس وعمرو في
حفلة أخرى
    روى المدايني قال : وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة وعنده ابنه يزيد ، وزياد بن سمية ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة ابن شعبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن أم الحكم فقال عمرو بن العاص : هذا والله يا أمير المؤمنين ؟ نجوم أول الشر ، وأفول آخر الخير ، وفي حسمه قطع مادته فبادره بالحملة ، وانتهز منه الفرصة ، واردع بالتنكيل به غيره ، وشرد به من خلفه ،


(169)
فقال ابن عباس : يا بن النابغة ؟ ضل والله عقلك ، وسفه حلمك ، ونطق الشيطان على لسانك ، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال (1) وتكافح الأبطال ، وكثرت الجراح ، وتقصفت (2) الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولا ، فانكفأ نحوك بالسيف حاملا ، فلما رأيت الكواثر من الموت ، أعددت حيلة السلامة قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك ، وكشفت له خوف بأسه سوأتك ، حذرا أن يصطلمك بسطوته ، أو يلتهمك (3) بحملته ، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته ، وحسنت له التعرض لمكافحته ، رجاء أن تكتفي مؤنته ، وتعدم صورته ، فعلم غل صدرك ، وما انحنت عليه من النفاق أضلعك ، وعرف مقر سهمك في غرضك ، فاكفف غرب لسانك ، واقمع عوراء لفظك ، فإنك بين أسد خادر ، وبحر زاجر ، إن تبرزت للأسد افترسك ، وإن عمت في البحر قمسك ـ أي : غمسك و أغرقك ـ . شرح ابن أبي الحديد 2 ص 105 ، جمهرة الخطب 2 ص 93.

    عبد الله المرقال وعمرو
    كان في نفس معاوية من يوم صفين إحن على هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال وولده عبد الله ، فلما استعمل معاوية زيادا على العراق كتب إليه : أما بعد : فانظر عبد الله بن هاشم فشد يده إلى عنقه ثم ابعث به إلي ، فحمله زياد من البصرة مقيدا مغلولا إلى دمشق ، وقد كان زياد طرقه بالليل في منزله بالبصرة فادخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص فقال معاوية لعمرو بن العاص : هل تعرف هذا ؟ قال : لا. قال : هذا الذي يقول أبوه يوم صفين :
إني شريت النفس لما اعتلا أعور يبغي أهله محـلا لا بد أن يفل أو يفلا وأكثر اللوم وما أقلا قد عالج الحياة حتى ملا أسلهم بذي الكعوب سلا
لا خير عندي في كريم ولى

1 ـ نزال : اسم فعل بمعنى : انزل. أي حين قال الأبطال بعضهم لبعض : انزل.
2 ـ تقصفت : تكسرت.
3 ـ التهم الشئ : ابتلعه بمرة.


(170)
فقال عمرو متمثلا :
وقد نبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
    وإنه لهو ، دونك يا أمير المؤمنين ؟ الضب المضب (1) فأشخب أوداجه على أسباجه ( أثباجه ) ولا ترجعه إلى أهل العراق فإنهم أهل فتنة ونفاق ، وله مع ذلك هوى يرديه وبطانة تغويه ، فوالذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك ، فقال عبد الله وهو المقيد : يا ابن الأبتر ؟ هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين ؟ ونحن ندعوك إلى البراز ، وأنت تلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء ، أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة ، حميد المقدرة ، ليس بالحبس المنكوس ، ولا الثلب (2) المركوس (3). فقال عمرو : دع كيت وكيت ، فقد وقعت بين لحيي لهذم (4) فروس للأعداء ، يسعطك إسعاط (5) الكودن (6) الملجم. قال عبد الله : أكثر إكثارك ، فإني أعلمك بطرا في الرخاء جبانا في اللقاء ، عيابة عند كفاح الأعداء ، ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوأتك ، أنسيت صفين وأنت تدعى إلى النزال ؟ فتحيد عن القتال خوفا أن ، يغمرك رجال لهم أبدان شداد ، وأسنة حداد ، ينهبون السرح ، ويذلون العزيز. فقال عمرو : لقد علم معاوية أني شهدت تلك المواطن ، فكنت فيها كمدرة الشوك ، و لقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن ، تخفق أحشاؤه ، وتنق أمعاؤه. قال : أما والله لو لقيك أبي في ذلك المقام لارتعدت منه فرائصك ولم تسلم منه مهجتك ، ولكنه قاتل غيرك ، فقتل دونك. فقال معاوية : ألا تسكت ؟ لا أم لك. فقال : يا بن هند ؟ أتقول لي هذا ؟ والله لئن شئت لأغرقن جبينك ، ولأقيمنك وبين عينيك وسم يلين له خدعاك ، أبأكثر من الموت تخوفني ؟. فقال معاوية : أو تكف يا بن أخي ؟ وأمر بإطلاق عبد الله ، فقال عمرو لمعاوية :
1 ـ من أضب يضب : أي صاح وتكلم وغاض وحقد.
2 ـ الثلب : المعيب المهان.
3 ـ المركوس : الضعيف.
4 ـ اللهذم : الحاد القاطع من السيوف والأسنة والأنياب.
5 ـ الاسعاط : إدخال الدواء في الأنف. يقال : أسعطه الرمح أي طعنه به في أنفه.
6 ـ الكودن : البرذون الهجين. الفيل ج كوادن.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس