كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 191 ـ 200
(191)
    وقال السيوطي في ( الشرح ) ص 14 : أخرج ابن عساكر عن محمد بن سهل قال قال الكميت : رأيت في النوم وأنا مختف رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : مم خوفك ؟ قلت : يا رسول الله ؟ من بني أمية وأنشدته :
ألم ترني من حب آل محمد أروح وأغدو خائفا أترقب (1)
    فقال : أظهر فإن الله قد أمنك في الدنيا والآخرة.
    وقال في ص 14 : أخرج ابن عساكر عن الجاحظ قال : ما فتح للشيعة الحجاج إلا الكميت بقول :
فإن هي لم تصلح لحي سواهم يقولون : لم يورث ولولا تراثه فإن ذوي القربى أحق وأوجب لقد شركت فيها بكيل وأرحب
    وذكر كلام الجاحظ الشيخ المفيد كما في ( الفصول المختارة ) 2 ص 84 ، و لعل الجاحظ لم يقف على مواقف احتجاج الشيعة بنفس هذه الحجة وغيرها المتكثرة منذ عهدهم المتقادم المتصل بالعهد النبوي. أو إنه يرمي بكلمته إلى إنكار سلف الشيعة في الصدر الأول ، لكن فضحه تاريخهم المجيد والمأثورات في فضلهم عن صاحب الرسالة وهلم جرا ، وإنك تجد الاحتجاج بما ذكر وغيره في كثير من شعر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وفي كلماتهم المنثورة قبل أن تنعقد نطفة الكميت كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين. وعبد الله بن عباس ، والفضل بن عباس ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري وقيس بن سعد الأنصاري ، وربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ، وعبد الله بن أبي سفيان ابن الحرث بن عبد المطلب ، وزفر بن زيد بن حذيفة ، والنجاشي بن الحرث بن كعب ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وعبد الرحمن بن حنبل حليف بني جمع ، وآخرين كثيرين.
    وقد فتح لهم هذا الباب بمصراعيه أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه في كتبه وخطبه الطافحة بذلك ، المبثوثة في طيات الكتب ومعاجم الخطب والرسائل ، قال شيخنا المفيد كما في ( الفصول ) 2 ص 85 : إنما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين عليه السلام في منثور كلامه في الحجة على معاوية ، فلم يزل آل محمد عليهم السلام بعد أمير المؤمنين يحتجون بذلك ومتكلموا الشيعة قبل الكميت وفى زمانه وبعده وذلك موجود
1 ـ هو البيت الخامس والسبعين من القصيدة.

(192)
في الأخبار المأثورة والروايات المشهورة ، ومن بلغ إلى الحد الذي بلغه الجاحظ في البهت سقط كلامه.

    اللامية من الهاشميات
الأهل عم في رأيه متأمل وهل مدبر بعد الإسائة مقبل؟؟!!
    روى أبو الفرج في ( الأغاني ) 15 ص 126 بالإسناد عن أبي بكر الحضرمي قال : إستأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام في أيام التشريق بمنى فأذن له فقال له الكميت : جعلت فداك إني قلت فيكم شعرا أحب أن أنشدكه فقال : يا كميت ؟ أذكر الله في هذه الأيام المعلومات وفي هذه الأيام المعدودات. فأعاد عليه الكميت القول فرق له أبو جعفر عليه السلام فقال : هات. فأنشده قصيدته حتى بلغ :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخر أسدى له الغي أول
    فرفع أبو جعفر عليه السلام يديه إلى السماء وقال : أللهم اغفر للكميت.
    وعن محمد بن سهل صاحب الكميت قال : دخلت مع الكميت على أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد عليه السلام فقال له : جعلت فداك ألا أنشدك ؟ قال : إنها أيام عظام. قال : إنها فيكم. قال : هات. وبعث أبو عبد الله عليه السلام إلى بعض أهله فقرب فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخر أسدى له الغي أول
    فرفع أبو عبد الله عليه السلام يديه فقال : أللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر ، وما أسر وما أعلن ، واعطه حتى يرضى. ( الأغاني ) 15 ص 123 ( المعاهد ) 2 ص 27.
    ورواه البغدادي في ( خزانة الأدب ) 1 ص 70 وفيه بعد قوله : فكثر البكاء : و ارتفعت الأصوات. فلما مر على قوله في الحسين رضي الله عنه :
كأن حسينا والبهاليل حوله وغاب نبي الله عنهم وفقده فلم أر مخذولا لأجل مصيبة لأسيافهم ما يختلى المتبتل على الناس رزء ما هناك مجلل وأوجب منه نصرة حين يخذل


(193)
    فرفع جعفر الصادق رضي الله عنه يديه وقال : أللهم اغفر للكميت ما قدم وأخر ، وما أسر وأعلن ، واعطه حتى يرضى. ثم أعطاه ألف دينار وكسوة ، فقال له الكميت : والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ، ولكنني أحببتكم للآخرة فأما الثياب التي أصابت أجسادكم فإني أقبلها لبركتها ، وأما المال فلا أقبله.
    روى أبو الفرج في ( الأغاني ) 15 ص 119 عن علي بن محمد بن سليمان عن أبيه قال : كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله وكان يقال : إنه يريد خلعك فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر فدخل بها على هشام فقرئت عليه وهي :
تألق برق عندنا وتقابلت فدونك قدر الحرب وهي مقرة ولن تنتهي أو يبلغ الأمر حده فتجشم منها ما جشمت من التي تلاف أمور الناس قبل تفاقم فما أبرم الأقوام يوما لحيلة وقد تخبر الحرب العوان بسرها أثاف لقدر الحرب أخشى اقتبالها لكفيك واجعل دون قدر جعالها فنلها برسل قبل أن لا تنالها بسور أهرت نحو حالك حالها بعقدة حزم لا يخاف انحلالها من الأمر إلا قلدوك احتيالها وإن لم يبح من لا يريد سؤالها
    فأمر هشام أن يجتمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا فأمر بالأبيات فقرأت عليهم فقال : شعر من تشبه هذه الأبيات ؟ فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي. فقال هشام : نعم : هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله. ثم كتب إلى خالد يخبره وكتب إليه بالأبيات ، وخالد يومئذ بواسط فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه ، وقال لأصحابه : إن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعر هذا بشئ فأتي بقصيدته اللامية التي أولها :
ألا هل عم في رأيه متأمل وهل مدبر بعد الإساءة مقبل؟؟!!
    فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول : هذا شعر الكميت فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك. فلما قرأت على هشام اغتاظ فلما سمع قوله :
فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ففيكم لعمري ذو أفانين مقول


(194)
    اشتد غيظه فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه ويهدم داره ويصلبه على ترابها. فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته و أعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت فقال. كتب إلي أمير المؤمنين وإني لأكره أن أستفسد عشيرته. وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد فأخرج غلاما له مولدا ظريفا فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة وقال : إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك ولك علي بعد ذلك إكرامك والاحسان إليك. فركب البغلة فسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها فدخل الحبس متنكرا فخبر الكميت بالقصة ، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها : أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان. ففعلت فقال : ألبسيني لبسة النساء. ففعلت ، ثم قالت له : أقبل فأقبل وأدبر فأدبر فقالت : ما أدري إلا يبسا في منكبيك إذهب في حفظ الله. فمر بالسجان فظن أنه المرأة فلم يعرض له فنجا وأنشأ يقول :
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل علي ثياب الغانيات وتحتها على الرغم من تلك النوايح والمشلي عزيمة أمر أشبهت سلة النصل
    وورد كتاب خالد إلى والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام ، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد ، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم : أنها في البيت ، وإن الكميت قد خرج. فكتب بذلك إلى خالد فأجابه : حرة كريمة أفدت ابن عمها بنفسها. وأمر بتخليتها فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول :
أسودينا واحمرينا ........
    فهاج الكميت ذلك حتى قال :
ألا حييت عنا يا مدينا ( وهي ثلاثمائة بيت )
    وقال في ص 114 : إن خالد بن عبد الله القسري روى جارية حسناء قصايد الكميت ( الهاشميات ) وأعدها ليهديها إلى هشام وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها :


(195)
فيا رب هل إلا بك النصر يبتغى ويا رب هل إلا عليك المعول
    وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد ويمدح بني هاشم ، فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد : يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده. فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره فأخذ وحبس في المحبس ، وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال له : أنت حر ـ إلى آخر ما يأتي إن شاء الله تعالى.
    وللكميت في حديث الغدير من قصيدة قوله :
علي أمير المؤمنين وحقه وإن رسول الله أوصى بحقه وزوجه صديقة لم يكن لها وردم أبواب الذين بنى لهم وأوجب يوما بالغدير ولاية من الله مفروض على كل مسلم وأشركه في كل حق مقسم معادلة غير البتولة مريم بيوتا سوى أبوابه لم يردم على كل بر من فصيح وأعجم
[ تفسير أبي الفتوح 2 ص 193 ]
( الشاعر )
    أبو المستهل الكميت بن زيد بن خنيس بن مخالد (1) بن وهيب بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
    قال أبو الفرج : شاعر مقدم عالم بلغات العرب ، خبير بأيامها ، من شعراء مضر وألسنتها والمحصبين على القحطانية المقارنين المقارعين لشعراءهم ، العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها ، وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية ومات قبلها ، وكان معروفا بالتشيع لبني هاشم مشهورا بذلك.
    سئل معاذ الهراء : من أشعر الناس ؟ قال : أمن الجاهليين أم من الاسلاميين ؟ ؟ قالوا : بل من الجاهليين. قال : امرؤ القيس ، وزهير ، وعبيد بن الأبرص. قالوا : فمن
1 ـ وقيل : مخالد بن ذويبة بن قيس بن عمرو.

(196)
الاسلاميين قال : الفرزدق ، وجرير ، والأخطل ، والراعي. قال فقيل له : يا أبا محمد ؟ ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت ؟ قال : ذاك أشعر الأولين والآخرين (1).
    وقد مرَّص 168 قول الفرزدق له. أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي. وكان مبلغ شعره حين مات خمسة آلاف ومأتين وتسعة وثمانين بيتا على ما في الأغاني ، و المعاهد 2 ص 31. أو أكثر من خمسة آلاف قصيدة كما في كشف الظنون نقلا عن عيون الأخبار لابن شاكر 1 ص 397. وقد جمع شعره الأصمعي وزاد فيه ابن السكيت ، ورواه جماعة عن أبي محمد عبد الله بن يحيى المعروف بابن كناسة الأسدي المتوفى 207 ، ورواه ابن كناسة عن الجزي ، وأبي الموصل ، وأبي صدقة الأسديين ، وألف كتابا أسماه ( سرقات الكميت من القرآن وغيره ) (2).
    ورواه ابن السكيت عن أستاذه نصران وقال نصران : قرأت شعر الكميت على أبي حفص عمر ابن بكير. وعمل شعره السكري أبو سعيد الحسن بن الحسين المتوفى 275 ، كما في فهرست ابن النديم ص 107 و 225. وصاحب شعره محمد بن أنس كما في تاريخ ابن عساكر 4 ص 429.
    وحكى ياقوت في معجم الأدباء 1 ص 410 عن ابن نجار عن أبي عبد الله أحمد بن الحسن الكوفي النسابة أنه قال : قال ابن عبدة النساب : ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت ( النزاريات ) فأظهر بها علما كثيرا ، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحدا أعلم منه بالعرب وأيامها ، فلما سمعت هذا أجمعت شعره فكان عوني على التصنيف لأيام العرب.
    وقال بعضهم : كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر : كان خطيب أسد ، فقيه الشيعة ، حافظ القرآن العظيم ، ثبت الجنان ، كاتبا حسن الخط ، نسابة جدلا ، وهو أول من ناظر (3) في التشيع ، راميا لم يكن في أسد أرمى منه ، فارسا
1 ـ الأغاني 15 ص 115 و 127.
2 ـ التعبير بالسرقة لا يخلو من مسامحة فإنها ليست إلا أخذا بالمعنى أو تضمينا لكلم من القرآن ، وحسب الكميت ( وأي شاعر ) أن يقتص أثر الكتاب الكريم.
3 ـ مر فساد هذه النسبة إلى المترجم له ص 191.


(197)
شجاعا ، سخيا دينا. خزانة الأدب 2 ص 69 ، شرح الشواهد ص 13.
    ولم تزل عصبيته للعدنانية ومهاجاته شعراء اليمن متصلة ، والمناقضة بينه و بينهم شايعة في حياته ، وفي إثرها ناقض دعبل وابن عيينة قصيدته المذهبة بعد وفاته وأجابهما أبو الزلفاء البصري مولى بني هاشم ، وكان بينه وبين حكيم الأعور الكلبي مفاخرة ومناظرة تامة.
    ( فائدة ) حكيم الأعور المذكور أحد الشعراء المنقطعين إلى بني أمية بدمشق ، ثم انتقل إلى الكوفة ، جاء رجل إلى عبد الله بن جعفر فقال له : يا بن رسول الله ؟ هذا حكيم الأعور ينشد الناس هجاكم بالكوفة. فقال : هل حفظت شيئا ؟ قال : نعم وأنشد.
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة وقستم بعثمان عليا سفاهة ولم نر مهديا على الجزع يصلب وعثمان خير من علي وأطيب
    فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما تنتفضان رعدة فقال : أللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا. فخرج حكيم من الكوفة فأدلج (1) فافترسه الأسد.
معجم الأدباء 4 ص 132.

( الكميت وحياته المذهبية )
    يجد الباحث في خلال السير وزبر الحديث شواهد واضحة على أن الرجل لم يتخذ شاعريته وما كان يتظاهر به من التهالك في ولاء أهل البيت عليهم السلام ، وسيلة لما يقتضيه النهمة ، وموجبات الشره من التلمظ بما يستفيده من الصلات و الجوائز ، أو تحري مسانحات وجرايات ، أو الحصول على رتبة أو راتب ، أنى ؟ و آل رسول الله كما يقول عنهم دعبل الخزاعي :
أرى فيئهم في غيرهم متقسما وأيديهم من فيئهم صفرات
    وهم سلام الله عليهم فضلا عن شيعتهم :
مشردون نفوا عن عقر دارهم كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

1 ـ أدلج القوم : ساروا الليل كله أو في آخره.

(198)
    وقد انهالت الدنيا قضها بقضيضها على أضدادهم يوم ذلك من طغمة الأمويين ولو كان المتطلب يطلب شيئا من حطام الدنيا ، أو حصولا على مرتبة ، أو زلفة تربى به لطلبها من أولئك المتغلبين على عرش الخلافة الإسلامية ، فرجل يلوي بوجهه عنهم إلى أناس مضطهدين مقهورين ، ويقاسي من جراء ذلك الخوف والاختفاء تتقاذف به المفاوز والحزون ، مفترعا ربوة طورا ، ومسفا إلى الأحضة تارة ، وورائه الطلب الحثيث ، وبمطلع الأكمة النطح والسيف ، ليس من الممكن أن يكون ما يتحراه إلا خاصة فيمن يتولاهم ، لا توجد عند غيرهم ، وهذا هو شأن الكميث مع أئمة الدين عليهم السلام فقد كان يعتقد فيهم أنهم وسائله إلى المولى سبحانه ، وواسطة نجاحه في عقباه ، وإن مؤدتهم أجر الرسالة الكبرى.
    روى الشيخ الأكبر الصفار في ( بصاير الدرجات ) بإسناده عن جابر قال : دخلت على الباقر عليه السلام فشكوت إليه الحاجة فقال : ما عندنا درهم. فدخل الكميت فقال : جعلت فداك أنشدك ؟ فقال : انشد فأنشده قصيدة فقال : يا غلام ؟ اخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إلى الكميت. فقال : جعلت فداك أنشدك أخرى ؟ فأنشده فقال : يا غلام ؟ اخرج بدرة فادفعها إليه. فقال : جعلت فداك أنشدك أخرى ؟ فأنشده فقال : يا غلام ؟ اخرج بدرة فادفعها إليه. فقال : جعلت فداك والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. فدعا له الباقر عليه السلام فقال : يا غلام ردها إلى مكانها. فقلت : جعلت فداك قلت لي : ليس عندي درهم وأمرت الكميت بثلاثين ألفا (1) فقال : ادخل ذلك البيت. فدخلت فلم أجد شيئا ، فقال : ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا. الحديث.
    قال صاعد : دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت : هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وسقت الكميت فشربه ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب ، فهملت عيناه وقال : لا والله لا أقبلها إني لم أحبكم للدنيا. ( الأغاني ) 15 ص 123.
    وللكميت في رده الصلات الطايلة على سروات المجد من بني هاشم مكرمة
1 ـ في مناقب ابن شهر آشوب 5 ص 7 : خمسين ألف درهم.

(199)
ومحمدة عظيمة أبقت له ذكرى خالدة وكل من تلكم المواقف شاهد صدق على خالص ولائه و قوة إيمانه ، وصفاء نيته ، وحسن عقيدته ، ورسوخ دينه ، وإباء نفسه ، وعلو همته ، وثباته في مبدئه ( العلوي ) المقدس ، وصدق مقاله للإمام السجاد زين العابدين عليه السلام : إني قد مدحتك أن يكون لي وسيلة عند رسول الله ويعرب عن ذلك كله صريح قوله : للإمام الباقر محمد بن علي عليهما السلام : والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. وقوله الآخر عليه السلام : ألا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافيني. وقوله للإمامين الصادقين عليهما السلام : والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ولكني أحببتكم للآخرة. وقوله لعبد الله بن الحسن بن علي عليه السلام : والله ما قلت فيكم إلا لله وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالا ولا ثمنا. وقوله لعبد الله الجعفري : ما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله ، ولو أك لآخذ لكم ثمنا من الدنيا. وقوله لفاطمة بنت الإمام السبط : والله إني لم أحبكم للدنيا. وهذا شأن الشيعة سلفا وخلفا ، وشيمة كل شيعي صميم ، وأدب كل متضلع بالنزعات العلوية ، وروح كان علوي جعفري ، وهذا شعار التشيع ليس إلا. وبمثل هذا فيعمل العاملون.
    وكان أئمة الدين ورجالات بني هاشم يلحون في أخذ الكميت صلاتهم ، و قبوله عطاياهم ، مع إكبارهم محله من ولائه ، واعتنائهم البالغ بشأنه ، والاحتفاء و التبجيل له ، والاعتذار عنه بمثل قوم الإمام السجاد صلوات الله عليه له : ثوابك نعجز عنه ولكن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك. وهو مع ذلك كله كان على قدم وساق من إباءه واستعفاءه إظهارا لولاءه المحض لآل الله ، وقد مر أنه رد على الإمام السجاد عليه السلام أربعمائة ألف درهم وطلب من ثيابه التي تلي جسده ليتبرك بها. ورد على الإمام الباقر مائة ألف مرة ، وخمسين ألف أخرى وطلب قميصا من قمصه. ورد على الإمام الصادق ألف دينار وكسوة واستدعى منه أن يكرمه بالثوب الذي مس جلده. ورد على عبد الله بن الحسين ضيعته التي أعطى له كتابها وكانت تسوى بأربعة آلاف دينار. ورد على عبد الله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كان يقدر بمائة ألف درهم.


(200)
    فكل من هذه خبر يصدق الخبر بأن مدح الكميت عترة نبيه الطاهر وولائه لهم ، وتهالكه بكله في حبهم ، وبذله النفس والنفيس دونهم ، ونيله من مناوئيهم ، ونصبه العداء لمخالفيهم ، لم يكن إلا لله ولرسوله فحسب ، وما كان له غرض من حطام الدنيا وزخرفها ، ولا مرمى من الثواب العاجل دون الآجل ، وكل واقف على شعره يراه كالباحث بظلفه عن حتفه ، ويجده مستقتلا بلسانه ، قد عرض لبني أمية دمه ، مستقبلا صوارمهم كما نص عليه الإمام زين العابدين عليه السلام وقال : أللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضن الناس ، وأظهر ما كتمه غيره. وقال عبد الله الجعفري لبني هاشم ؟ هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس من فضلكم وعرض دمه لبني أمية. وخالد القسري لما أراد قتله رأى في شعره غنى وكفاية عن أي حيلة وسعاية عليه ، فاشترى جارية وعلمها الهاشميات وبعثها إلى هشام بن عبد الملك وهو لما سمعها منها قال : استقتل المرائي. وكتب إلى خالد بقتله وقطع لسانه ويده.
    فكان الكميت منذ غضاضة من شبيبته التي نظم فيها ( الهاشميات ) خائفا يترقب طيلة عمره مختفيا في زوايا الخمول إلى أن أقام بقريضه الحجة ، وأوضح به المحجة ، و أظهر به الحق ، وأتم به البرهنة ، وبلغ ضالته المنشودة من بث الدعاية إلى العترة الطاهرة ، فلما دوخ صيت شعره الأقطار ، وقرطت به الآذان ، ودارت على الألسن استجاز الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام أن يمدح بني أمية صونا لدمه فأجاز له ، رواه أبو الفرج في ( الأغاني ) 15 ص 126 بإسناده عن ورد بن زيد أخي الكميت قال : أرسلني الكميت إلى أبي جعفر عليه السلام فقلت له : إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع فتأذن له أن يمدح بني أمية ؟ قال : نعم هو في حل فليقل ما شاء. فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها :
فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير
    ودخل على أبي جعفر عليه السلام فقال له : يا كميت ؟ أنت القائل :
فالآن صرت إلى أمي ة والأمور إلى المصاير
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس