كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 201 ـ 210
(201)
    قال : نعم ، قد قلت ولا والله ما أردت به (1) إلا الدنيا ولقد عرفت فضلكم قال : أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل.
    وروى الكشي في رجاله ص 135 بإسناده عن درست بن أبي منصور قال : كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام وعنده الكميت بن زيد فقال للكميت : أنت الذي تقول :
فالآن صرت إلى أميـ ـة والأمور إلى المصاير
    قال : قد قلت ذلك فوالله ما رجعت عن إيماني ، وإني لكم لموال ، ولعدوكم لقال ، ولكني قلته على التقية. قال : أما لأن قلت ذلك إن التقية تجوز في شرب الخمر.
    ( لفت نظر ) أحسب أن الإمام المذكور في حديث الكشي هو أبو عبد الله الصادق عليه السلام ولا يتم ما فيه من أبي الحسن موسى عليه السلام ، إذ الكميت توفي بلا اختلاف أجده سنة 126 قبل ولادة أبي الحسن موسى بسنتين أو ثلاث. كما لا يتم القول باتحاده مع حديث أبي الفرج المروي عن الإمام أبي جعفر إذ درست بن أبي منصور لا يروي عنه عليه السلام وليس من تلك الطبقة.

    الكميت ودعاء الأئمة له
    من الواضح أن أدعية ذوي النفوس القدسية ، والألسنة الناطقة بالمشيئة الإلهية المعبرة عن الله ، من الذين يوحي إليهم ربهم ، ولا يتكلمون إلا بإذنه ، وما ينطقون عن الهوى ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ليست مجرد شفاعة لأي أحد ، و مسألة خير من المولى لكل إنسان كائنا من كان ، بل فيها إيعاز بأن المدعو له من رجال الدين ، وحلفاء الخير والصلاح ، ودعاة الأمة إليهما ، وممن قيضه المولى للدعوة إليه ، والأخذ بناصر الهدى ، رغما على أباطيل الحياة وأهوائها الضالة ، إلى فضايل لا تحصى على اختلاف المدعوين لهم فيها.
    وقل ما دعي لأحد مثل ما دعي للكميت وقد أكثر النبي الأعظم والأئمة من أولاده صلوات الله عليه وعليهم دعائهم له ، فاسترحم له النبي صلى الله عليه وآله مرة كما مر
1 ـ أي أراد بقوله : صرت. مصير الدنيا إليهم لا الخلافة.

(202)
في حديث البياضي ، واستجزى له بالخير وأثنى عليه أخرى كما في منام نصر بن مزاحم ، وقال له ثالثة : بوركت وبورك قومك. كما في حديث السيوطي ، ودعا له الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام بقوله : أللهم أحيه سعيدا وأمته شهيدا ، وأره الجزاء عاجلا ، وأجزل له جزيل المثوبة آجلا ، ودعا له أبو جعفر الباقر عليه السلام في مواقف شتى في مثل أيام التشريق بمنى وغيرها ، متوجها إلى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرة ، وبقوله : لا تزال مؤيدا بروح القدس تارة أخرى ، ومن دعائه عليه السلام له في أيام البيض ما رواه الشيخ الأقدم أبو القاسم الخزاز القمي في [ كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثنى عشر ] بإسناده عن الكميت أنه قال : دخلت علي سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر فقلت : يا بن رسول الله ؟ إني قد قلت فيكم أبياتا أفتأذن لي في إنشادها ؟ فقال : أيام البيض. قلت : فهو فيكم خاصة. قال : هات فأنشأت أقول :
أضحكني الدهر وأبكاني لتسعة بالطف قد غودروا والدهر ذو صرف وألوان صاروا جميعا رهن أكفان
    فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله عليه السلام وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء فلما بلغت إلى قولي :
وستة لا يتجارى بهم ثم علي الخير مولاهم بنو عقيل خير فرسان ذكرهم هيج أحزاني
    فبكى ثم قال عليه السلام : ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة ، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار. فلما بلغت إلى قولي :
من كان مسرورا بما مسكم فقد ذللتم بعد عز فما أو شامتاً يوماً من الآن أدفع ضيما حين يغشاني
    أخذ بيدي ثم قال : أللهم ؟ اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلما بلغت إلى قولي :
متى يقوم الحق فيكم متى يقوم مهديكم الثاني؟؟!!
    قال : سريعا إن شاء الله سريعا. ثم قال : يا أبا المستهل ؟ إن قائمنا هو التاسع من


(203)
ولد الحسين لأن الأئمة بعد رسول الله اثنى عشر ، الثاني عشر هو القائم. قلت : يا سيدي ؟ فمن هؤلاء الاثنى عشر ؟ قال : أولهم علي بن أبي طالب وبعده الحسن والحسين و بعد الحسين علي بن الحسين وبعده أنا ثم بعدي هذا ووضع يده على كتف جعفر قلت : فمن بعد هذا ؟ قال : ابنه موسى وبعد موسى ابنه علي وبعد علي ابنه محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وهو أبو القاسم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا ويشفي صدور شيعتنا. قلت : فمتى يخرج ؟ يا بن رسول الله قال : لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال : إنما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة.
    وناهيك به فضلا دعاء الإمام الصادق عليه السلام له في مواقفه المشهودة في أشرف الأيام رافعا يديه قائلا : أللهم ؟ اغفر للكميت ما قدم وأخر ، وما أسر و أعلن ، واعطه حتى يرضى. وينم عن إجابة تلك الأدعية الصالحة الصادرة من النفوس الطاهرة بالألسنة الصادقة أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا إبراهيم سعد الأسدي في منامه بقراءة سلامه عليه ، وأنبأه بأن الله قد غفر له. وكذلك نهيه صلى الله عليه وآله دعبل الخزاعي في الطيف عن معارضة الكميت وقوله له : إن الله قد غفر له. وكان بنو أسد ( قبيلة الكميت ) يحسون بركة دعاء النبي له ولهم بقوله : بوركت و بورك قومك. ويشاهدون آثار الاجابة فيهم ، يجدون في أنفسهم نفحاتها ، وكانوا يقولون : إن فينا فضيلة ليست في العالم ، ليس منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت (1)
    ومن تلك الأدعية المستجابة التي شوهدت آثارها ، وأبقت للكميت فضيلة مع الأبد ما رواه شيخنا قطب الدين الراوندي في [ الخرايج والجرايح ] أن محمد بن علي الباقر عليه السلام دعا للكميت لما أراد أعداء آل محمد أخذه وهلاكه وكان متواريا فخرج في ظلمة الليل هاربا وقد أقعدوا على كل طريق جماعة ليأخذوه إذا ما خرج في خفية ، فلما وصل الكميت إلى الفضاء وأراد أن يسلك طريقا فجاء أسد يمنعه من أن يسري منها فسلك جانبا آخر فمنعه منه أيضا ، كأنه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه ومضى الأسد في جانب الكميت إلى أن أمن وتخلص من الأعداء.
1 ـ مر الحديث ص 190.

(204)
    وفي ( معاهد التنصيص ) 2 ص 28 قال المستهل : أقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد على خوف ووجل وفيمن معه ( صاعد ) غلامه وأخذ الطريق على ( القطقطانة ) وكان عالما بالنجوم مهتديا بها فلما صار سحيرا صاح بنا هوموا (1) يا فتيان فهو منا وقام فصلى ، قال المستهل : فرأينا شخصا فتضعضعت له فقال : مالك ؟ قلت : أرى شخصا مقبلا فنظر إليه فقال : هذا ذئب قد جاء يستطعمكم فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه فارتحلنا وجعل الذئب يعوي ، فقال الكميت : ماله ويله ألم نطعمه ونسقه ؟ ؟ وما أعرفني بما يريد هو يدلنا إنا لسنا على الطريق تيامنوا يا فتيان ؟ فتيامنا فسكن عواءه فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم.
    وهذا جانب عظيم من نواحي مكرمات الكميت وفضايله لو أضيف إلى ما يظهر من كلماته المعربة عن نفسياته ، ومواقفه الكاشفة عن خلايقه الكريمة ، وما قيل فيه وفي مآثره الجمة يمثله بين يدي القارئ بمظاهر روحياته ، ونصب عينيه مجالي نفسياته ، وأمثلة مكارم أخلاقه وما كان يحمله بين جنبيه من العلم ، والفقه ، والأدب ، والإباء ، والشمم ، والحماسة ، والهمة ، واللباقة ، والفصاحة ، والبلاغة ، والخلق الكامل ، وقوة القلب ، والدين الخالص ، والتشيع الصحيح ، والصلاح المحض ، والرشد والسداد ، إلى فضايل تكسبه فوز النشأتين لا تحصى.

    الكميت وهشام بن عبد الملك
    كان خالد بن عبد الله القسري قد أنشد قصيدة الكميت التي يهجو فيها اليمن و هي التي أولها :
ألا حييت عنا يا مدينا وهل ناس تقول مسلمينا
    فقال : والله لأقتلنه ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن وتخيرهن نهاية في الحسن والكمال والأدب فرواهن ( الهاشميات ) ودسهن مع ( نخاس ) إلى هشام بن
1 ـ هموم تهويما : نام قليلا.

(205)
عبد الملك فاشتراهن جميعا فلما أنس به واستنطقهن رأى منهن فصاحة وأدبا فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر فأنشدن قصائد الكميت ( الهاشميات ) فقال هشام : ويلكن من قائل هذا الشعر ؟ قلن : الكميت بن زيد الأسدي. قال : في أي بلد هو ؟ قلن بالعراق ثم بالكوفة فكتب إلى خالد عامله في العراق إبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره فأخذ وحبس في الحبس وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال : له أنت حر إن لحقته والبغل لك. وكتب له : أما بعد. فقد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز وجل ، وأرى لك أن تبعث إلي حبي ـ يعني زوجة الكميت وكانت ممن تتشيع أيضا ـ فإذا دخلت عليك تنقبت نقابها ولبثت ثيابها وخرجت فإني أرجو الأوبة لك. قال : فركب الغلام البغل وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها فدخل الحبس متنكرا وأخبر الكميت بالقصة فبعث إلى امرأته وقص عليها القصة وقال لها : أي ابنة عم ؟ إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك ولو خفت عليك ما عرضتك له. فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له : أقبل وأدبر ففعل فقالت : ما أنكر منك شيئا إلا يبسا في كتفيك ، فاخرج على اسم الله تعالى. و أخرجت معه جاريتين لها فخرج وعلى باب السجن أبو الوضاح حبيب بن بدير ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له ، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناس فمر بمجلس من مجالس بني تميم فقال بعضهم : رجل ورب الكعبة وأمر غلامه فأتبعه فصاح به أبو الوضاح يا كذا وكذا ؟ أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم ، وأومى إليه بنعله فولى العبد مدبرا وأدخله أبو الوضاح منزله ، ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه ، فدخل ليعرف خبره ، فصاحت به المرأة : وراءك لا أم لك. فشق ثوبه ومضى صارخا إلى باب خالد فأخبر الخبر فأحضر المرأة فقال لها : يا عدوة الله ؟ احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدو أمير المؤمنين لأنكلن بك ولأصنعن ولأفعلن. فاجتمعت بنو أسد عليه وقالوا له : ما سبيلك على امرأة منا خدعت. فخافهم فخلى سبيلها وسقط غراب على الحايط ونعب فقال الكميت لأبي الوضاح : إني لمأخوذ وإن حائطك لساقط. فقال : سبحان الله هذا ما لا يكون إنشاء الله تعالى ، وكان الكميت خبيرا بالزجر


(206)
( الكهانة ) فقال له : لا بد أن تحولني. فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيعون فأقام فيهم ، ولم يصبح حتى سقط الحايط الذي سقط عليه الغراب.
    قال المستهل : وأقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد وبني تميم وأرسل إلى أشرف قريش وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا : يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك بها الله تعالى ، هذا : الكميت بن زيد لسان مضر ، وكان أمير المؤمنين قد كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال : فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء. فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره ، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال : يا أبا شاكر ؟ مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها. قال : وما هي ؟ فأخبره الخبر وقال : إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله. فقال : علي خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول فقال له هشام : أجئت لحاجة ؟ قال : نعم. قال : هي مقضية إلا أن تكون الكميت. فقال : ما أحب أن تستثني علي في حاجتي وما أنا والكميت. فقالت أمه : والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت قال : قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها. قال : يا أمير المؤمنين ؟ وهو آمن بأمان الله عز وجل أماني وهو شاعر مضر وقد قال فينا قولا لم يقل مثله. قال : قد أمنته وأجزت أمانك له ، فأجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد مجلسا وعنده الأبرش الكلبي فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط ، وامتدحه بقصيدته الرائية ويقال : إنه قالها ارتجالا وهي قوله :
قف بالديار وقوف زائر ... ...
    فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله :
ماذا عليك من الوقو درجت عليك الغاديات ف بها إنك غير صاغر ؟ الرابحات من الأعاصر
    ويقول فيها :
فالآن صرت إلى أميـ ـة والأمور إلى المصائر


(207)
    فجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول : اسمع اسمع. ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فيها فأنشده قوله :
سأبكيك للدنيا وللدين إنني أدامت عليكم بالسلام تحية رأيت يد المعروف بعدك شلت ملائكة الله الكرام وصلت
    فبكى هشام بكاء شديدا فوثب الحاجب فسكته ، ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا فحشدت له المضرية بالهدايا ، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم ، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم ، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته وإنه لا سلطان له عليهم. قال : وجمعت له بنو أمية فيما بينها مالا كثيرا ، ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلا ما حفظه الناس منها فألف وسئل عنها فقال : ما أحفظ منها شيئا إنما هو كلام ارتجلته.
    وفي رواية : إنه لما أجاره مسلمة بن هشام وبلغ بذلك هشاما دعا به وقال له : أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره ؟ فقال : كلا ولكنني انتظرت سكون غضبه. قال : أحضرنيه الساعة فإنه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت : يا أبا المستهل ؟ إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك. قال أتسلمني يا أبا شاكر ؟ قال : كلا ولكني أحتال لك. ثم قال له : إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق ، فإذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولون : هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق بإجارته. فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال : ما هذا ؟ فقالوا : لعله مستجير بالقبر. فقال : يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له. فقيل : فإنه الكميت. فقال : يحضر أعنف إحضار. فلما دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه ، فلما نظر هشام إليهم إغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون : يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات وما حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا ولا تفضحنا في من استجار به. فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له : يا كميت ؟ أنت القائل :
وإلا فقولوا غيرها تتعرفوا نواصيها تروى بنا وهي شزب (1)

1 ـ تروى : أي ترمى. تشازب القوم على الأمر. أي كان لكل واحد منهم حظ ينتظره يقال : هم متشازبون.

(208)
    فقال : لا والله أتان من أتن الحجاز وحشية. فقال الكميت : الحمد لله. قال هشام : نعم الحمد لله. ما هذا ؟ قال الكميت : مبتدئ الحمد ومبتدعه ، الذي خص بالحمد نفسه ، وأمر به ملائكته ، وجعله فاتحة كتابه ، ومنتهى شكره ، وكلام أهل جنته ، أحمد حمد من علم يقينا ، وأبصر مستبينا ، وأشهد له بما شهد به لنفسه ، قائما بالقسط وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده العربي ، ورسوله الأمي ، أرسله و الناس في هفوات حيرة ، ومدلهمات ظلمة ، عند استمرار أبهة الضلال ، فبلغ عن الله ما أمر به ، ونصح لأمته ، وجاهد في سبيله ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه وسلم. ثم تكلم واعتذر عن هجاؤه بني أمية وأنشد أبياتا من رائيته في مدحهم فقال له هشام : ويلك يا كميت من زين لك الغواية ودلاك في العماية ؟ قال : الذي أخرج أبانا من الجنة وأنساه العهد فلم يجد له عزما. فقال له : إيه يا كميت ؟ ألست القائل ؟ :
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
    فقال : بل أنا القائل :
إلى آل بيت أبي مالك نمت بأرحامنا الداخلات بمرة والنضر والمالكين وجدنا قريشا قريش البطاح الأول بهم صلح الله بعد الفساد مناخ هو الأرحب الأسهل من حيث لا ينكر المدخل رهـط هم الأنبل الأنبل على ما بنى الأول وحيص من الفتق ما رعبلوا (1)
    قال له : وأنت القائل :
لا كعبد المليك أو كوليد من يمت لا يمت فقيدا ومن يحـ أو سليمان بعد أو كهشام ـي فلا ذو إل ولا ذو ذمام
    ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة. فقال : بل أنا القائل يا أمير المؤمنين :
فالآن صرت إلى أميـ والآن صرت بها إلى المصيـ ـة والأمور إلى المصائر ـب كمهتد بالأمس حائر

1 ـ حاص حيصا : عدل وحاد. رعبلوا : مزقوا.

(209)
فقل لبني أمية حيث حلوا أجاع الله من أشبعتموه بمرضي السياسة هاشمي وإن خفت المهند والقطيعا وأشبع من بجوركم أجيعا يكون حيا لأمته ربيعا
    فقال : لا تثريب يا أمير المؤمنين ؟ إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب. قال : بما ذا قال بقولي الصادق :
أورثـته الحصان أم هشام وتعاطى به ابن عايشة البدر وكساه أبو الخلايف مروان لم تجهم (1) له البطاح ولكن حسبا ثاقبا ووجها نضيرا فأمسى له رقيبا نظيرا سناء المكارم المأثورا وجدتها له معانا (2) ودورا
    وكان هشام متكئا فاستوى جالسا وقال : هكذا فليكن الشعر. يقولها لسالم ابن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه ثم قال : قد رضيت عنك يا كميت ؟ فقبل يده و قال : يا أمير المؤمنين ؟ إن رأيت أن تزيد في تشريفي فلا تجعل لخالد علي إمارة. قال : قد فعلت. وكتب بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوبا هشامية وكتب إلى خالد : أن يخلي سبيل امرأته ويعطيها عشرين ألف درهم وثلاثين ثوبا. ففعل ذلك.
الأغاني 15 ص 115 - 119 ، العقد الفريد 1 ص 189.
    كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال : لها ( صدوف ) مدنية اشتريت له بمال جزيل عتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها وحلف أن لا يبدأها بكلام ، فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك فقال : مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين ؟ لا غمك الله.
    فأخبره هشام بالقصة فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول :
أعتبت أم عتبت عليك ( صدوف ) لا تعقدن تلوم نفسك دائبا إن الصريمة لا يقوم بثقلها وعتاب مثلك مثلها تشريف فيها وأنت بحبها مشغوف إلا القوي بها وأنـت ضعيف
    فقال هشام : صدقت والله ونهض من مجلسه فدخل إليها ونهضت إليه فاعتنقته ،
1 ـ تجهم له : استقبله بوجه عبوس كريه.
2 ـ المعان بفتح الميم : المنزل. يقال : هم منك بمعان. أي : بحيث تراهم بعينك.


(210)
وانصرف الكميت فبعث إليه هشام بألف دينار وبعثت إليه بمثلها.
[ الأغاني 15 ص 122 ]

    الكميت ويزيد بن عبد الملك
    حدث حبيش بن الكميت قال : وفد الكميت على يزيد بن عبد الملك فدخل عليه يوما وقد اشتريت له سلامة القس فأدخلت إليه والكميت حاضر فقال له : يا أبا المستهل ؟ هذه جارية تباع أفترى أن نبتاعها ؟ أي والله يا أمير المؤمنين ؟ وما أرى أن لها مثيلا فلا تفوتنك. قال فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك. فقال الكميت :
هي شمس النهار في الحسن إلا غضة بضة رخيم لعوب زانها دلها وثغر نقي خلقت فوق منية المتمني أنها فـُضّـلت بفتك الطراف وعثة المتن ثخنة الأطراف (1) وحديث مرتل غير جاف فاقبل النصح يا بن عبد مناف
    قال : فضحك يزيد وقال : قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل. فأمر له بجائزة سنية.
[ الأغاني 15 ص 122 ]
    ( وللكميت مع خالد ) بن عبد الله القسري أخبار عند قدومه الكوفة منها : إنه مر يوما وقد تحدث الناس بعزله عن العراق فلما جاز تمثل الكميت وقال :
أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قليل يقشع
    فسمعه خالد فرجع وقال : أما والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد ، ثم أمر به فجرد وضرب مائة سوط ، ثم خلى عنه ومضى ( رواه ابن حبيب )
[ الأغاني 15 ص 119 ].
    ( ومن ملح الكميت ) : إن الفرزدق مر به وهو ينشد والكميت يومئذ صبي فقال له الفرزدق أيسرك أني أبوك فقال : لا ، ولكن يسرني أن تكون أمي فحصر الفرزدق فأقبل على جلسائه وقال. ما مر بي مثل هذا قط.
[ الأغاني 15 ص 123 ]

م (1) الغض : الطري الناعم. يقال : شباب غض. أي : ناضر. البضة : رقيق الجلد ناعمة في اليمن. الرخيم من رخمت الجارية : صارت سهلة المنطق فهي رخيمة ورخيم. الوعث : الهزال. ثخن : غلظ.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس