الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 211 ـ 220
(211)
    قتالا كان أحب إلى الله ، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا ، فعلي عليه السلام إذا هو أحب المسلمين إلى الله لأنهم أثبتهم قدما في الصف المرصوص ، لم يفر قط بإجماع الأمة ، ولا بارزه قرن إلا قتله ، أو تراه لم يسمع.
    قول الله تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) ؟ وقوله ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ثم قال سبحانه : مؤكدا لهذا البيع والشراء ( ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) وقال الله تعالى : ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظلما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) فمواقف الناس في الجهاد على أحوال ، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض ، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكابته فيهم ممن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم ، وكذلك من وقف في المعركة وأعان ولم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب وإن ذلك يشاكل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت ، وإن بطل فضل علي في الجهاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقلهم قتالا ـ كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الانفاق ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقلهم مالا ، وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الأخبار عرفت أنها تطلب محمدا صلى الله عليه وسلم وتقصد قصده وتروم قتله ، فإن أعجزها وفاتها طلبت عليا وأرادت قتله ، لأنه كان أشبهم بالرسول حالا ، وأقربهم منه قربا ، وأشدهم عنه دفعا ، وإنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكسروا شوكته ، إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوة والشجاعة والنجدة والاقدام والبسالة.
    ألا ترى إلى قوله عتبة ربيعة يوم بدر ـ وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفرا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا : ارجعوا إلى قومكم ، ثم نادوا : يا محمد ! ـ أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأهله الأدنين : قوموا يا بني هاشم ! فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل


(212)
هؤلاء ، قم يا علي ! قم يا حمزة ! قم يا عبيدة ! ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر ؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها :
ما كان لي من عتبة من صبر أخي الذي كان كضوء البدر أبي وعمي وشقيق صدري بهم كسرت يا علي ! ظهري
    وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة ، وأما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله.
    وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد : إن قتلت محمدا فأنت حر ، وإن قتلت عليا فأنت حر ، وإن قتلت حمزة فأنت حر ، فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه ، وأما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب ، ولكني سأقتل حمزة.
    فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
    ولما قلنا من مقاربة حال علي في هذا الباب لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناسبتها إياه ما وجدناه في السيرة والأخبار من إشفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذره على ودعائه له بالحفظ والسلامة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وقد برز علي إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه : اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد ، و عبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم علي عليا ، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
    و لذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون ويقدم علي فيسأل الأذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه عمرو فقال : وأنا علي.
    فأدناه وقبله وعممه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودع له ، القلق لحاله ، المنتظر لما يكون منه.
    ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم رافعا يده إلى السماء مستقبلا لها بوجهه و المسلمون صموت حوله كأنما على رؤسهم الطير حتى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا.
    فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين.
    ولذلك قال حذيفة بن اليمان : لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم.
    وقال ابن عباس : في قوله تعالى ( وكفى الله المؤمنين القتال ) قال : بعلي بن أبي طالب.


(213)
الغريق يتشبث بكل حشيش
    أعيت القوم شجاعة الخليفة ، وأضلتهم عن المذاهب ، وجعلتهم في الرونة ، وأركبتهم على الزحلوقة تسف بهم تارة وتعليهم أخرى ، فلم يجدو مهيعا يوصلهم إلى ما يرومون من إثباتها له مهما وجدوا غضون التاريخ خالية عن كل عين وأثر يسمعهم الركون إليه في الحجاج لها ، فتشبثوا بالتفلسف فيها فهذا يبني فلسفة العريش ، والآخر ينسج نسج العناكيب ويعد ثباته في موت رسول الله صلى الله عليه وآله وعدم تضعضعه في تلك الهائلة دليل على كمال شجاعته ، قال القرطبي في تفسيره 4 : 222 في سورة آل عمران 144 عند قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبه فلن يضر الله شيئا ) هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجرأته فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم فظهرت عنده شجاعته وعلمه و قال الناس : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى علي ، و اضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح (1).
    وهذا الاستدلال أقره الحلبي في سيرته 3 : 35 وقال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم طاشت العقول فمنهم من خبل ، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام ، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام ، ومنهم من أضنى ، وكان عمر رضي الله عنه ممن خبل ، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس ، فكان لا يستطيع أن يتكلم ، وكان علي رضي الله عنه ممن أقعد فلم يستطع أن يتحرك ، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدا ، وكان أثبتهم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ إلى أن قال : قال القرطبي : و هذا أدل دليل على كمال شجاعة الصديق. الخ.
    قال الأميني : يوهم القرطبي أن في كتاب الله العزيز ما يدل على شجاعة الخليفة وعلمه ، وليس فيما جاء به أكثر من أنه استدل بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي صلة بها إلى شجاعة الرجل ؟! وأي قسم فيها من أنحاء الدلالة الثلاثة فضلا عن أن تكون أدل دليل ؟ فإن يكن هناك شيء من الدلالة ـ وأين وأنى
1 ـ بضم أوله وسكون النون وقد تضم : موضع خارج المدينة بينها وبين منزل النبي ميل.

(214)
فهو في ثبات جأشه وتمسكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.
    ثم كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق ين ملكتي الشجاعة والقسوة ؟ وأن هذا النسج الذي أوهن من بيت العنكبوت إنما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك ، فخبلوا عمر بن الخطاب ( وحاشة الخبل ) تصحيحا لإنكاره موت رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان من ذلك القلق كما مر في ص 184 ، وأقعدوا عليا لإيهام العذر في تخلفه عن البيعة ، وأخرسوا عثمان لأنه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.
    على أن ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا إذ لم يرو عن أبي بكر في رزية النبي الأعظم أكثر من أنه كشف عن وجه النبي وقبله وهو يبكي وقال : طبت حيا وميتا (1) وقد فعل صلى الله عليه وآله أكثر وأكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون فإنه صلى الله عليه وآله إنكب عليه ثلاث مرات مرة بعد أخرى وقبله باكيا عليه وعيناه تذرفان والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيق (2) ، وشتان بين عثمان بن مظعون وبين سيد البشر روح الخليقة وعلة العوالم كلها ، وشتان بين المصيبتين.
    كما يستدعي مقياس الرجل كون عمر بن الخطاب أشجع من النبي الأقدس لحزنه العظيم في موت زينب وبكائه عليها ، وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط كما مر في الجزء السادس ص 159 ط 2 فضلا عن عدم تأثره بتلك الرزية.
    وعلى هذا الميزان يغدو عثمان بن عفان أشجع من رسول الله صلى الله عليه وآله لوجده صلى الله عليه وآله لموت إحدى بنتيه : رقية أو أم كلثوم زوجة عثمان.
    وبكائه عليها ، وعثمان غير متأثر به ولا بانقطاع صهره من رسول الله صلى الله عليه وآله غير مشغول بذلك من مقارفة بعض نساءه في ليلة وفاتها كما في صحيحة أنس (3).
    وقبل هذه كلها ما ذكره أعلام القوم في موت أبي بكر من طريق ابن عمر من قوله : كان سبب موت أبي بكر موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جسمه يجري حتى مات. وقوله :
1 ـ صحيح البخاري 6 : 281 كتاب المغازي ، سيرة ابن هشام 4 : 334 ، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 785 ، تاريخ الطبري 3 : 198.
2 ـ سنن البيهقي 3 : 406 ، حلية الأولياء 1 : 105 ، الاستيعاب 2 : 495 ، أسد الغابة ، الغدير 3 387 ، الإصابة 2 : 464.
3 ـ مستدرك الحاكم 4 : 47 ، الاستيعاب 2 : 748 وصححه ، الإصابة 4 : 304 ، 489 الغدير 3 : 24.


(215)
كان سبب موته كمدا لحقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يذيبه حتى مات.
    وفي لفظ القرماني : ما زال جسمه ينقص حتى مات.
    راجع المستدرك الحاكم 3 : 63 ، أسد الغابة 3 : 224 ، صفة الصفوة 1 : 100 ، الرياض النضرة 1 : 180 ، تاريخ الخميس ج 2 : 263 ، حياة الحيوان للدميري 1 : 49.
    الصواعق ص 53 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 55 ، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل 1 : 198 ، نزهة المجالس للصفوري 2 : 197 ، مصباح الظلام للجرداني 2 : 25.
    كأن هذا الحديث عزب عن القرطبي والحلبي ، فأخذا بهذا مشفوعا بكلامهما المذكور في شجاعة أبي بكر يكون هو شاكلة عبد الله بن أنيس في موتهما كمدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينبأ قط خبير بموت أحد من الصحابة غيرهما بموته صلى الله عليه وآله وسلم ، و هذا دليل على ضعف قلبهما عند حلول المصائب ، فهما أجبنا الصحابة على الإطلاق إذا وزنا بميزان القرطبي وفيها عين.
    ووراء هذ ، المغالاة في شجاعة الخليفة وعده أشجع الصحابة ما عزاه القوم إلى ابن مسعود من أنه قال : أول من أظهر الاسلام بسيفه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
    والزبير بن العوام رضي الله عنهم (1) وما يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أنه قال : لولا أبو بكر الصديق لذهب الاسلام (2).
    قال الأميني : لقد كانت على الأبصار غشاوة عن رؤية هذا السيف الذي كان بيد الخليفة ، فلم يؤثر أنه تقلده يوما ، أو سله في كريهة ، أو هابه إنسان في معمعة ، حتى يقرن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان منذ بعث سيفا الله تعالى مجردا.
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول (3)
    أو يقرن بمثل الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزبون فشكرته ، وقد سجل التاريخ مواقفه المشهودة وسجل للخليفة يوم خيبر وأمثاله.
    وأنا لا أدري بأي خصلة في الخليفة نيط بقاء الاسلام ، أبشجاعته هذه ؟ أم بعلمه الذي عرفت كميته ؟ أم بماذا ؟ ( فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ).
1 ـ نزهة المجالس للصفوري 2 ، 182.
2 ـ نور الأبصار للشبلنجي ص 54.
3 ـ البيت من قصيدة لكعب بن زهير المشهورة ببانت سعاد.


(216)
ـ 3 ـ
ثبات الخليفة على المبدء
    عن أبي سعيد الخدري : إن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذهب إليه فاقتله. قال : فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : إذهب إليه فاقتله. قال فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال : يا رسول الله ! إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله قال : يا علي إذهب فاقتله. فذهب علي فلم يره فرجع فقال : يا رسول الله ! إني لم أره.
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية (1).
    وعن أنس بن مالك قال : كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده و اجتهاده وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فلم يعرفه فوصفناه بصفته فلم يعرفه فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا : هو هذا.
    قال : إنكم لتخبروني عن رجل إن في وجهه لسفعة من الشيطان فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني ؟ قال : أللهم نعم.
    ثم دخل يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يقتل الرجل ؟ فقال أبو بكر أنا ، فدخل عليه فوجده يصلي فقال : سبحان الله ! أقتل رجلا يصلي : وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المصلين ، فخرج.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعلت ؟ قال : كرهت أن أقتله وهو يصلي وأنت قد نهيت عن قتل المصلين.
    قال : من يقتل الرجل ؟ قال عمر : أنا.
    فدخل فوجده واضعا جبهته فقال عمر : أبو بكر أفضل مني فخرج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مه ؟ قال : وجدته واضعا وجهه لله فكرهت أن أقتله.
    فقال : من يقتل الرجل ؟ فقال علي : أنا. فقال : أنت
1 ـ مسند أحمد 3 : 15 ، تاريخ ابن كثير 7 : 298.

(217)
إن أدركته. فدخل عليه فوجده قد خرج فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : مه ؟ قال : وجدته قد خرج قال : لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أولهم وآخرهم (1).
    صاحب القصة هو ذو الثدية رأس الفتنة يوم النهروان قتله أمير المؤمنين الإمام علي يوم ذاك كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود ، قال الثعالبي في ثمار القلوب ص 233 : ذو الثدية شيخ الخوارج وكبيرهم الذي علمهم الضلال ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وهو في الصلاة فكع عنه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلما قصده علي رضي الله عنه لم يره ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : أما إنك لو قتلته لكان أول فتنة وآخرها ، ولما كان يوم النهروان وجد بين القتلى فقال علي رضي الله عنه : ائتوني بيده المخدجة. فأتي بها فأمر بنصبها.
    قال الأميني : هلم معي نسائل الرجلين ممن أخذا أن الصلاة تحقن دم صاحبها ؟ هل أخذاها عن شريعة غاب الصادع بها ، فارتبكا بين قوليه ؟ أليست هي الشريعة المحمدية وصاحبها هو الذي أمر بقتل الرجل ؟ وهو ينظر إليه من كثب ، ويعلم أنه يصلي ، و قد أخبرته الصحابة وفيهم الرجلان بخضوعه وخشوعه في صلاته ، وإعجابهم بتعبده و اجتهاده ، وفي المخبرين أبو بكر نفسه ، غير أن رسول الله صلى الله عليه وآله عرف بواسع علمه النبوي أن كل ذلك عن دهاء وتصنع يريد بن إغراء الدهماء للحصول على أمنيته الفاسدة التي لم يتمكن منها إلا على عهد الخوارج فأراد صلى الله عليه وآله قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله ، ولقد أراد صلى الله عليه وآله تعريف الناس بالرجل إيقافهم على ما انطوت عليه أضالعه فاستحفاه عما دار في خلده حين وقف على القوم وفيهم النبي صلى الله عليه وآله وأراد أن يعلموا أنه يجد نفسه خيرا أو أفضل منهم ومنه صلى الله عليه وآله.
    أي كافر هذا يجب قتله لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في وجهه لسفعة من الشيطان ؟ وأي شقي هذا يقف على المنتدى وقد ضم صدره نبي العظمة ولم يسلم ؟ وأي صفيق يعرب عن سوء ما هجس في ضميره بكل صراحة ، غير محتشم عن موقفه ، ولا مكترث لمقاله ؟
1 ـ حلية الأولياء 2 : 317 ، ج 3 : 227 ، مسند البزار من طريق الأعمش ، وأبو يعلى مسنده كما في تأريخ ابن كثير 7 ص 298 ، الإصابة 1 : 484.

(218)
    نعم لذلك كله أمر صلى الله عليه وآله بقتله وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، لكن الشيخين رؤفا به حين وجداه يصلي تثبتا على المبدء ، وتحفظا على كرامة الصلاة ومن أتى بها ، وزاد عمر : إن أبا بكر خير مني ولم يقتله.
    أو لم يكن النبي الآمر بقتله خيرا منهما ؟ أولم يكن هو مشرع الصلاة والآتي بحرمتها ؟ أو لم يكن مصدقا لدى الصديق وصاحبه في قوله حول الرجل وإعرابه عن نواياه ؟ كان خيرا للشيخين أن يتركا هذا التعلل الواضح فساده ويتعللا بما في لفظ أبي نعيم في الحلية من أنهما هابا أن يقتلاه ، وبما أسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من أنهما كعا عن الرجل.
    أي جبنا وضعفا وتهيبهما الرجل وإن كان مصليا غير شاك السلاح ، فلعله يكون معذرا لهما عن ترك الامتثال ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لكنهما يوم عرفا نفسهما كذلك والانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لماذا أقدما على قتل الرجل ، ففوتا على النبي صلى الله عليه وآله طلبته وعلى الأمة السلام والأمن ولو بعد لأي من عمر الدهر عند ثورات الخوارج ؟ وأبو بكر هذا هو الذي يحسبه ابن حزم والمحب الطبري والقرطبي والسيوطي أشجع الناس كما مر ص 200 وقد يهابه ظل الرجال في مصلاهم.
    وللرجل ( ذي الثدية ) سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسم رسول الله صلى الله عليه وآله غنيمة هوازن قال ذو الثدية للنبي صلى الله عليه وآله لم أرك عدلت.
    أو : لم تعدل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
    فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر : يا رسول الله ألا أقتله ؟ قال : لا ، سيخرج من ضيضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم تراقيهم. تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 148 ، الامتاع للمقريزي ص 425.


(219)
ـ 4 ـ
تهالك الخليفة في العبادة
    لم يؤثر عن الخليفة دؤب على العبادة على العهد النبوي أو بعده غير أشياء لا تنجع من أثبتها له إلا بعد تحمل متطاول ، أو تفلسف في القول لو أجدت الفلسفة على لا شيء.
    روى المحب الطبري في الرياض النضرة 1 ص 133 : إن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ثم قالت : ألا إنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ و يصلي ثم يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه فإذا كان وقت السحر رفع رأسه و تنفس الصعداء فيشم في البيت روائح كبد مشوي.
    فبكا عمر وقال : أنى لابن الخطاب بكبد مشوي.
    وفي مرآة الجنان 1 ص 68 : جاء إن أبا بكر كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوية.
    وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي ص 135 : لما مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف عمر رضي الله عنه كان يتبع آثار الصديق رضي الله عنه ويتشبه بفعله فكان يتردد كل قليل إلى عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما ويقول لهما : ما كان يفعل الصديق إذا خلا بيته ليلا ؟ فيقال له : ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام إنما كان إذا جنه الليل يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء ويضع رأسه على ركبتيه ثم يرفعها إلى السماء ويتنفس الصعداء ويقول : أخ. فيطلع الدخان من فيه. فيبكي عمر ويقول : كل شيء يقدر عليه عمر إلا الدخان. فقال :
    وأصل ذلك أن شدة خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه ، فكان جليسه يشم منه رائحة الكبد المشوي ، وسببه أن الصديق لم يتحمل أسرار النبوة الملقاة إليه وفي الحديث : أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه. فالمعرفة التامة تكشف عن جلال


(220)
المعروف وجماله وكلاهما أمر عظيم جدا تتقطع دونه الغايات ولولا أن الله تعالى ثبت من أراد ثباته وقواه على ذلك ما استطاع أحد الوقوف ذرة على كليهما وجلالا و جمالا ، والغاية في الطرفين قد نالها الصديق رضي الله عنه.
    فقد ورد : ما صب في صدري شيء إلا صببته في صدر أبي بكر.
    ولو صبه جبريل عليه السلام في صدر أبي بكر ما أطاقه لعدم مجراه من المماثل ، لكن لما صب في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو من جنس البشرية فجرى في قناة مماثلة للصديق ، فبواسطتها أطاق حمله ، ومع ذلك احترق قلبه. الخ.
    وروى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ص 31 و 261 ، عن بكر بن عبد الله المزني قال : لم يفضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة إنما فضلهم بشيء كان في قلبه. وذكر أبو محمد الأزدي في شرح مختصر صحيح البخاري 2 : 41 ، 105. و ج 3 : 98. و ج 4 : 63 ، والشعراني في اليواقيت والجواهر 2 : 221 ، واليافعي في مرآة الجنان 1 : 68 ، والصفوري في نزهة المجالس 2 ص 183 : إن في الحديث ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولن بشيء وقر في صدره.
    قال الأميني : لو صح حديث الكبد المشوي لوجب اطراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيين أخوفهم ، ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشد وأنشر ، فإن الخوف فرع الهيبة المسببة عن إحاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة ، وينبأنا عن ذلك قوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء (1) قال ابن عباس : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.
    وقيل : عظموه وقدروا قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علما ازداد به خشية. ( تفسير الخازن 3 : 525 ) وفي الحديث : أعلمكم بالله أشدكم له خشية.
    ( تفسير ابن جزي 3 : 158 ) وفي خطبة له صلى الله عليه وآله : فوالله إني لأعلمهم بالله وأشد هم له خشية (2).
    وفي خطبة أخرى له صلى الله عليه وآله : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا (3).
1 ـ سورة فاطر آية 28.
2 ـ صحيح مسلم كتاب المناقب. باب علمه بالله وشدة خشيته ، تفسير الخازن 3 : 525.
3 ـ صحيح البخاري كتاب الرقاق. باب لو تعلمون ما أعلم ، مسند أحمد 6 : 164 ، تيسير الوصول 2 ، 26 ، تفسير الخازن 3 : 525.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس