الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 201 ـ 210
(201)
وما أنس لا أنـس اللذين تقدما وللراية العظمى وقد ذهبا بها يشلهما من آل مـوسى شمردل يمج منونا سيفه وسنانه أحضرهما أم حـضر أخرج خاضب عذرتكما إن الحمام لمبغض ليكره طعم الموت والموت طالب وفرهما والفر قد علما حوب (1) ملابس ذل فوقها وجلابيب طويل نجاد السيف أجيد يعبوب (2) ويلهب نارا غمده والأنابيب وذان هما أم ناعم الخد مخضوب (3) وإن بقاء النفس للنفس محبوب فكيف يلـذ الموت والموت مطلوب
    ومما ينبأنا عن هذا الجانب حديث كع الخليفة عن ذي الثدية لما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله بقتله وهو في صلاته غير شاك السلاح ، فرأى مخالفة الأمر النبوي أهون من قتل الرجل ، فآب إليه صلى الله عليه وآله وسلم معتذرا بما سيوافيك تفصيله إنشاء الله.
    نعم يراه ابن حزم في كتاب ( المفاضلة بين الصحابة ) ومن لف لفه أشجع الصحابة على الإطلاق ونحتوا له حديثا على أمير المؤمنين أنه قال : أخبروني من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت ، قال : أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا : لا نعلم : فمن ؟ قال : أبو بكر ، أنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشا فقلنا : من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين ؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبا بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه ، فهو أشجع الناس. الحديث (4).
    ليت القوم لم يحذفوا سند هذه الأثارة المفتعلة وكانوا يروونها بالإسناد حتى نعرف الملأ العلمي بالذي اختلقها ، وحسبنا أن الحافظ الهيثمي ذكرها بلا إسناد في
1 ـ الحوب : الإثم.
2 ـ شمردل مر في ص 52 ، يريد من طول النجاد طول القامة. الأجيد : الطويل الجيد و هو العنق. اليعبوب ، الفرس الكثير الجرى أطلق على مرحب هذه اللفظة لشدته وسرعة حركته.
3 ـ الحضر : العدو. الأخرج : ذكر النعام الذي فيه بياض وسواد. الخاضب : الذي أكل الربيع فاحمر طنبوباه أو اصفر. ناعم الخد مخضوب : كناية عن المرأة. يعني : هما رجلان أم أمرأتان في ضعفهما ورقة قلوبهما ؟.
4 ـ الرياض النضرة 1 : 92 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 25.


(202)
مجمع الزوايد 9 : 461 وضعفه وقال : فيه من لم أعرفه.
    وتكذبها صحيحة ابن إسحاق قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يوم بدر ) في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون على كرة العدو (1).
    ثم إن حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن تنحصر بيوم بدر ولا بأبي بكر بل في كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وآله كان يتعهد أحد من الصحابة بحراسته ، فكانت الحراسة لسعد بن معاذ ليلة البدر وفي يومه لأبي بكر على ما ذكره الحلبي في السيرة 3 : 353 ، ولمحمد بن مسلمة يوم أحد ، وللزبير بن العوام يوم الخندق ، وللمغيرة بن شعبة يوم الحديبية ، ولأبي أيوب الأنصاري ليلة بنى بصفية ببعض طرق خيبر ، ولبلال وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس بوادي القرى ، ولابن أبي مرثد الغنوي ليلة وقعة حنين (2).
    وكانت هذه السيرة في الحراسة مستمرة إلى أن نزل قوله تعالى في حجة الوداع والله يعصمك من الناس.
    فترك الحرس (3) فأبو بكر رديف أولئك الحرسة بعد تسليم ما جاء في حراسته.
    ولو صدق النبأ وكانت يوم بدر لأبي بكر تلك الأهمية الكبرى لكان هو أولى وأحق بنزول القرآن فيه يوم ذاك دون علي وحمزة وعبيدة لما نزل فيهم ذلك اليوم : هذان خصمان اختصموا في ربهم.
    سورة الحج : 19 (4) ولو صحت المزعمة لما خص علي وحمزة وعبيدة بقوله تعالى : من المؤمنين رجال
1 ـ عيون الأثر لابن سيد الناس 1 : 258.
2 ـ عيون الأثر 2 : 316 ، المواهب اللدنية 1 : 283 ، السيرة الحلبية 3 : 354 ، شرح المواهب للزرقاني 3 : 204.
3 ـ مستدرك الحاكم 2 : 313 ، تفسير القرطبي 6 : 244 ، تفسير ابن جزى الكلبي 1 : 173 ، تفسير ابن كثير 2 : 78 ، الخصايص الكبرى 1 : 126 عن الترمذي والحاكم البيهقي وأبي نعيم.
4 ـ صحيح البخاري 6 : 98 كتاب التفسير صحيح مسلم 2 : 550 ، طبقات ابن سعد ص 518 ، مستدرك الحاكم 2 : 386 وصححه هو والذهبي ، تفسير القرطبي 12 : 25 ، 26 ، تفسير ابن كثير 3 : 212 ، تفسير ابن جزى 3 : 38 تفسير الخازن 3 : 298.


(203)
صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية.
    الأحزاب : 23 (1) ولما نزل في علي أمير المؤمنين قوله تعالى : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( سورة الأنفال : 62 ) ولما ورد فيها ما ورد عن النبي الأعظم مما أسلفناه في الجزء الثاني ص 46 ـ 51.
    ولما خص لمولانا علي قوله : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ( سورة البقرة : 207 ) كما ذكره القرطبي في تفسيره 3 : 21 وفصلنا القول فيه في الجزء الثاني ص 47 ـ 49 ط 2.
    وكان حقا على رضوان منادي الله يوم بدر بقوله :
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي
    أن ينوه باسم أبي بكر وبسيفه المشهور على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله ثم هل تنحصر مغازي النبي الأعظم وحروبه الدامية ببدر ؟ وهل العريش كان في البدر فحسب دون ساير الغزوات ؟ وهل سيد العريش النبي الأعظم كان يلازم عريشه ولم يحضر قط في ميادين القتال ؟ أو كان ينزل بالمعارك ويستخلف صاحبه على العريش ؟ ما أعوز النبي الأعظم يوم خيبر مجاهد كرار غير فرار لا يولي الدبر ، و كان معه الخليفة الأشجع ؟ أكان فرارا غير كرار ؟ ومن المعني في قول المؤرخين من أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا ؟ (3) أهذا الرجل وصاحبه نكرتان لا يعرفان ؟ لا ها الله.
    وأين كان الأشجع ؟ يوم خرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في موقفه ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أمسى مهموما (4).
    ولماذا بعث صلى الله عليه وآله يوم ذاك ـ وكان الأشجع معه ـ سلمة بن الأكوع إلى علي ؟
1 ـ راجع ما مر في الجزء الثاني ص 51 ط 2.
2 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني صفحة 59 ـ 61 ط 2.
3 ـ الامتاع للمقريزي ص 313 ، السيرة الحلبية 3 ص 39.
4 ـ الامتاع للمقريزي ص 314 ، السيرة الحلبية 3 ص 39.


(204)
وكان قد تخلف بالمدينة لرمد عينيه ، وكان لا يبصر موضع قدمه فذهب إليه سلمة وأخذ بيده يقوده (1) وملأ المسامع قوله صلى الله عليه وآله لأعطين الراية إلى رجل كرار غير فرار.
    أكان الأشجع في العريش يوم خيبر ؟ لما قاتل المصطفى بنفسه يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة مغفر ، وهو على فرس يقال له : الظرب (2) وفي يده قناة وترس كما في السيرة الحلبية 3 ص 39.
    أكان الأشجع في العريش يوم أحد يوم بلاء وتمحيص ؟ حتى خلص العدو إلى رسول الله فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم (3).
    أكان الأشجع في العريش ؟ يوم قال فيه علي : لما تخلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت : والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ، ولكن الله غضب علينا بما صنعنا ، فرفع نبيه ، فما في خير من أن أقاتل حتى أقتل ، فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم.
    وقد أصابت عليا يوم ذاك ستة عشر ضربة كل ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلا جبريل. ( أسد الغابة 4 : 20 ).
    أكان الأشجع في العريش يوم وقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ؟ فأخذ علي بن أبي طالب بيده صلى الله عليه وآله واحتضنه ورفعه طلحة حتى استوى قائما (4).
1 ـ صحيح مسلم 2 : 102 ، سنن البيهقي 9 : 131 ، الرياض النضرة 2 : 186 ، السيرة الحلبية 3 : 41 ، شرح المواهب للزرقاني 2 : 223.
2 ـ من أشهر خيله صلى الله عليه وآله وأعرفها ، سمي بذلك لكبره أو لسمنه أو لقوته وصلابته تشبيها له بالجبل. قالوا : أهداه له صلى الله عليه وآله وسلم فروة ابن عمرو الجذامي. أو : ربيعة بن أبي البراء. أو : جنادة بن المعلى.
3 ـ سيرة ابن هشام 3 : 27 ، طبقات ابن سعد رقم التسلسل 549 ، تاريخ ابن كثير 4 : 23 ، 29 ، امتاع المقريزي ص 135 ، شرح المواهب للزرقاني 2 : 37.
4 ـ سيرة ابن هشام 3 : 27 ، الامتاع المقريزي ص 135 ، تاريخ ابن كثير 4 ص 24 ، عيون الأثر 2 : 12.


(205)
    أكان الأشجع في العريش يوم رأي رسول الله في ميدان النزال وهو لابس درعين : درعه ذات الفضول ودرعه فضة ، أو يوم حنين وله درعان : درعه ذات الفضول والسعدية.
    " شرح المواهب للزرقاني 2 : 24 " أكان الأشجع في العريش يوم ضرب وجه النبي بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها كلها ؟ ( المواهب اللدنية 1 : 124 ) أكان الأشجع في العريش يوم بايع رسول الله على الموت ثمانية ؟ هم : علي ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، والحارث بن الصمة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، ورسول الله يدعوهم في أخراهم.
    ( الامتاع للمقريزي ص 132 ) أكان الأشجع في العريش يوم كان علي يذب عن رسول الله من ناحية ، وأبو دجانة مالك بن خرشة من ناحية ، وسعد بن أبي وقاص يذب طائفة ، والحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تحاش الغنم ؟ ( الامتاع للمقريزي ص 143 ) أكان الأشجع في العريش يوم حمى الوطيس ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله تحت راية الأنصار ؟ وأرسل إلى علي أن قدم فقدم علي وهو يقول : أنا أبو القصم (2).
    أكان الأشجع في العريش يوم انتهى رسول الله إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية فوالله صدقني اليوم ؟ يوم ملأ علي درقته ماء من المهراس فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه ، و أخذت فاطمة ( سلام الله عليها ) قطعة حصير فأحرقته فألصقته عليه فاستمسك الدم (3).
    أكان الأشجع في العريش لما ملأ الفضاء نداء جبرئيل ؟
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي
    أكان الأشجع في العريش يوم نظم حسان بن ثابت :
جبريل نادى معلنا والنقع ليس بمنجلي

2 ـ سيرة ابن هشام 3 : 19 ، شرح المواهب للزرقاني 2 : 31.
3 ـ طبقات ابن سعد 3 : 90 رقم التسلسل 252 ، سيرة ابن هشام 3 : 34 ، 51 ، الامتاع ص 138 ، تاريخ ابن كثير 4 : 35 ، عيون الأثر 2 : 15 ، المواهب اللدنية 1 : 125 ، شرح الزرقاني 2 : 56.


(206)
والمسلمون قد أحدقوا لا سيف إلا ذو الفقار حول النبي المرسل ولا فتى إلا علي (1)
    أكان الأشجع في العريش يوم حمراء الأسد ؟ وقد خرج صلى الله عليه وآله وهو مجروح في وجهه ، مشجوج في جبهته ، ورباعيته قد شظيت ، وشفته السفلى قد كلمت في باطنها ، وهو متوهن منكبه الأيمن من ضربة ابن قميئة ، وركبتاه مجحوشتان. ( طبقات ابن سعد رقم التسلسل 553 ).
    أكان الأشجع في العريش يوم حنين ؟ لما حمى الوطيس وفر الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق معه إلا أربعة : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم : علي ابن أبي طالب والعباس وهما بين يديه ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان ، وابن مسعود من جانبه الأيسر ، ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلى الله عليه وآله وسلم إلا قتل.
    ( السيرة الحلبية 3 : 123 ).
    أكان الأشجع في العريش يوم الأحزاب ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينقل مع صحبه من تراب الخندق وقد وارى التراب بياض بطنه ويقول :
لاهم لولا أنت ما اهتدينا فأنزلن سكينة علينا إن الأولى لقد بغوا علينا ولا تصدقنا ولا صلينا وثبت الأقدام إن لاقينا إذا أرادوا فتنة أبينا
    ( طبقات ابن سعد رقم التسلسل 575 ، تاريخ ابن كثير 4 : 96 ).
    أكان الأشجع في العريش يوم قال صلى الله عليه وآله وسلم : لضربة علي خير من عبادة الثقلين وفي لفظ : قتل علي لعمرو أفضل من عبادة الثقلين.
    وفي لفظ : لمبارزة علي لعمرو بن ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة ؟ (2).
    نعم : للرجل موقف يوم أحد لما طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر ( وكان من المشركين ) فقال : من يبارز وارتجز يقول :
1 ـ راجع ما مر في الجزء الثاني صفحة 59 ـ 61 ط 2.
2 ـ مستدرك الحاكم 3 : 32 ، المواقف للقاضي الإيجي 3 : 276 ، كنز العمال 6 : 158 ، السيرة الحلبية 2 : 349 وهناك كلمة ردا على ابن تيمية في رده على هذا الحديث ، هداية المرتاب في فضايل الأصحاب ص 148.


(207)
لم يبق إلا شـكة ويعبوب وصارم يقتل ضلال الشيب
    فنهض إليه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول : أنا ذلك الأشيب ثم ارتجز فقال :
لم يبق إلا حسبي وديني وصارم تقضي به يميني
    فقال له عبد الرحمن : لولا أنك أبي لم أنصرف. الامتاع ص 144.

حجاج بالعريش
    قال المحاملي : كنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يكتب لبدر ، وعند جمع فيهم أبو بكر الداودي وأحمد بن خالد المادرائي ـ فذكر قصة مناظرته مع الداودي في التفصيل إلى أن قال ـ : فقال الداودي : والله ما نقدر نذكر مقامات علي مع هذه العامة.
    قلت : أنا والله أعرفها مقامه ببدر ، وأحد ، الخندق ، ويوم حنين ، ويوم خيبر.
    قال : فإن عرفتها ينفعني أن تقدمه علي أبي بكر وعمر ، قلت : قد عرفتها ومنه قدمت أبا بكر وعمر عليه.
    قال : من أين ؟ قلت : أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس ، والرئيس ينهزم به الجيش ، وعلي مقامه مقام مبارز ، والمبارز لا ينهزم به الجيش.
    ذكره الخطيب في تاريخه 8 : 21 ، وابن الجوزي في المنتظم 6 : 327 ، وأحسب أن مبتدع هذه الباكورة ، ومؤسس فكرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ قال في خلاصة كتاب العثمانية ص 10 : والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي قتله الاقران وخوضه الحروب ، وليس له في ذلك كبير فضيلة ، لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلا على الرياسة والتقدم ، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! لأنه لم يقتل إلا رجلا واحدا ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف ، وإنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر.
    وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الاقران ، ويجندل الأبطال ، وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس ، أو ذو الرأي والمستشاري في الحرب ، لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وسعل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم ، ولأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور ، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر ، وباسمه ينهزم العدو ، ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله وكانت الدبرة


(208)
عليه ، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له ، ولهذا لا يضاف النصر ، والهزيمة إلا إليه.
    ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ذلك اليوم وقتله أبطال قريش.
    قال الأميني : نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة ببنت شفه ، وإنما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر الاسكافي المعتزلي البغدادي المتوفى 240 قال في الرد عليها (1) : لقد اعطي أبو عثمان مقولا وحرم معقولا ، إن كان يقول هذا على اعتقاد و جد ، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو ، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم.
    ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشجع البشر وأنه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب ، وبلغت القلوب الحناجر ؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة : علي. والزبير. وطلحة. وأبو دجانة ، فقاتل ورمي بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره ، فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : أو تر ما بلغ.
    قال عكاشة : فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبرا على سية القوس ، ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت ، وبارز أبي بن خلف فقال له أصحابه : إن شئت عطف عليه بعضنا ؟ فأبي وتناول الحربة من الحارث بن السمت ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير قالوا : فتطايرنا عنه تطاير الشعارين فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور ، ولو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله : ( إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ) فكونه صلى الله عليه وسلم في أخراهم وهم يصعدون ولا يلون هاربين دليل على أنه ثبت ولم يفر.
    وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين ، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به ، العباس آخذ بحكمة بغلته ، وعلي بين يديه مصلت سيفه ، والباقون حول بغلته يمنة ويسرة ، وقد انهزم المهاجرون والأنصار ، وكلما فروا أقدم هو صلى الله عليه وسلم وصمم مستقدما يلقي السيوف والنبال بنحره
1 ـ رسائل الجاحظ ص 54 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ص 275.

(209)
وصدره ، ثم أخذ كفا من البطحاء وحصب المشركين وقال : شاهت الوجوه.
    والخبر المشهور عن علي وهو أشجع البشر : كنا إذا اشتد البأس وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولذنا به.
    فيكف يقول الجاحظ : إنه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف ؟ وأي فرية أعظم ومن فرية من نسب رسول الله صلى الله وسلم إلى الإحجام والاعتزال الحرب ؟ ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى ؟ ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الاسلام والملة ، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة ، وإليه الإيماء والإشارة ، وهو الذي أحنق قريشا والعرب ، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم وتضليل أسلافهم ، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم ، وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى ويعتزل ، لأن ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطا بهم وببقائهم ، فمتى هلك الملك هلك الجيش ، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه ، وإن عطب جيشه بأن يستجد جيشا آخر ، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه ، وخطأوا الاسكندر لما بارز فور ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم ، فليقل لنا الجاحظ : أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى ؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الاسلام ليقصده بالقتل ؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما ؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتا ، وأشرف منه مركبا ، والعيون إليه طمح ، والعدو عليه أحنق وأكلب.
    ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الاسلام ضعفا ؟ أو يحدث وهنا ؟ أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس و تعفى آثارها وتنطمس منارها ؟ ليقول الجاحظ : إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها.
    نعوذ بالله من الخذلان.
    وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت ، وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان ، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب ، و جلوسه في العريش يوم جلس ، وأن وقوفه صلى الله عليه وسلم وقوف رئاسة وتدبير ، ووقوف ظهر وسند ، يتعرف أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلفه عن التقدم في أوائلهم ، لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم ولم تتعلق


(210)
بأمره نفوسهم ، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم ، ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهرا يرجعون إليه ، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند النازلة في الكر والحملة ، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم ، وأحمي وأحرس لبيضتهم ، ولأنه المطلوب من بينهم ، إذ هو مدبر أمورهم ووالي جماعتهم ، ألا ترون أم موقف صاحب اللواء موقف شريف ؟ وأن صلاح الحرب في وقوفه ، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته ، فللرئيس حالات : الأولى حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة ورداءا وعدة ، وليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل.
    والحالة الثانية : يتقدم فيها في وسط الصف ليقوى الضعيف ويشجع الناكس : وحالة ثالثة : وهي إذا اصطدم الفيلقان ، وتكافح السيفان ، اعتمد ما يقتضيه الحال ومن الوقوف حيث يستصلح ، أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد ، وفسالة الجبان المموه.
    فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأين منزلة أبي بكر ليسوى بين المنزلتين ، ويناسب بين الحالتين ؟ ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله في الرسالة وممنوحا من الله بفضيلة النبوة ، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ لكان للجاحظ أن يقول ذلك ، فأما وحاله حاله وهو أضعف المسلمين جنانا وأقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم ، ولا سل سيفا ، ولا أراق دما ، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب ، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزلته ؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا على فسل من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ! شم سيفك وامتعنا بنفسك.
    ولم يقل له ( وامتعنا بنفسك ) إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال وأنه لو بارز لقتل.
    وكيف يقول الجاحظ : لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الاقران وقتل أبطال الشرك ؟ وهل قامت عمد الاسلام إلا على ذلك ؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك ؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) ؟ والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب ، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف وأعظم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس