الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 191 ـ 200
(191)
أهله وذويه على هذا الحكم المختص به صلى الله عليه وآله المخصص لشرعة الإرث ؟ حاشاه. و عنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم.
    وهل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصديقة الكبرى.
    صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده مما تركه النبي صلى الله عليه وآله من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنة المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا ؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر ؟ نحن نقدس ساحتهما [ أخذا بالكتاب والسنة ] عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها ، وعن جهل يربكهما في الميزان.
    ولماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن الكتاب والسنة ، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلى الله عليه وآله ووصيه الذي هتف صلى الله عليه وآله وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات ؟ (1) ولم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة وزوجها الطاهر بكون فدك نحلة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله وهي لا تعلم إلا من قبلهما ؟ قال مالك بن جعونة عن أبيه أنه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لي فدك فاعطني إياها ، و شهد لها علي بن أبي طالب ، فسألها شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن : فقال : قد علمت يا بنت رسول الله ! إنه لا تجوز إلا رجلين أو رجل وامرأتين وانصرفت.
    وفي رواية خالد بن طهمان : إن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : أعطني فدك فقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لي فسألها البينة فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد لها بذلك فقال : إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين (2).
    ثم مم كان غضب الصديقة الطاهرة سلام الله عليها ؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الأقدس : إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها (3) أمن حكم صدع به والدها وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ؟ وحاشاها ، أم لأن ذلك الحكم البات رواه عنه صديق أمين يريد بث حكم الشريعة وتنفيذه وهي مصدقة له ؟ نحاشي ساحة البضعة
1 ـ راجع الجزء الثاني صفحة 278 ط 2.
2 ـ فتوح البلدان للبلاذري ص 38.
3 ـ راجع ج 3 ص 20 وسيأتيك في هذا الجزء.


(192)
الطاهرة بنص آية التطهير عن هذه الخزاية ، فلم يبق إلا شق ثالث وهو : إنها كانت تتهم الراوي ، أو تعتقد خللا في الرواية ، وتراه حكما خلاف الكتاب والسنة ، وهذا الذي دعاها إلى أن لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتج المجلس ، ثم مهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله.
    ثم قالت ما قالت وفيما قالت : أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ يا بن أبي قحافة ! أترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والوعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون.
    ثم انكفأت إلى قبر أبيها صلى الله عليه وآله فقالت :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة إنا فقدناك فقد الأرض وابلها فليت بعدك كان الموت صادفنا لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب واختل قومك فاشهدهم ولا تغب لما قضيت وحالت دونك الكثب (1)
    وهذا الذي تركها غضباء على من خالفها وتدعو عليه بعد كل صلاة حتى لفظت نفسها الأخيرة صلى الله عليها كما سيوافيك تفصيله.
    وهل هذا الحكم مطرد بين الأنبياء جميعا ؟ أو أنه من خاصة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ؟ والأول ينقضه الكتاب العزيز بقوله تعالى : وورث سليمان داود ـ النمل 16 ـ و قوله سبحانه عن زكريا : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ـ مريم 6 ـ.
    ومن المعلوم أن حقيقة الميراث انتقال ملك الموروث إلى ورثته بعد موته بحكم المولى سبحانه ، فحمل الآية الكريمة على العلم والنبوة كما فعله القوم خلاف الظاهر لأن النبوة والعلم لا يورثان ، والنبوة تابعة للمصلحة العامة ، مقدرة لأهلها من أول
1 ـ بلاغات النساء لابن طيفور ص 12 ، شرح ابن أبي الحديد 4 : 93 ، أعلام النساء 3 : 1208.

(193)
يومها عند بارئها ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا مدخل للنسب فيها كما لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله تعالى أحدا من عباده نبيا والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه.
    على أن زكريا سلام الله عليه إنما سأل وليا من ولده يحجب مواليه ( كما هو صريح الآية ) من بني عمه وعصبته من الميراث ، وذلك لا يليق إلا بالمال ، ولا معنى لحجب الموالي عن النبوة والعلم ثم إن اشتراطه عليه السلام في وليه الوارث كونه رضيا بقوله : واجعله رب رضيا.
    لا يليق بالنبوة ، إذا العصمة والقداسة في النفسيات والملكات لا تفارق الأنبياء ، فلا محصل عندئذ لمسألته ذلك.
    نعم يتم هذا في المال ومن يرثه فإن وارثه قد يكون رضيا وقد لا يكون.
    وأما كون الحكم من خاصة رسول الله صلى الله عليه وآله فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الإرث مثل قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( النساء 11 ) وقوله سبحانه : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ( الأنفال 75 ) وقوله العزيز : إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ( البقرة 180 ) ولا يسوغ تخصيص الكتاب إلا بدليل ثابت مقطوع عليه لا بالخبر الواحد الذي لم يصح الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا وآله وعليهم.
    لا بالخبر الواحد الذي لم يخبت إليه صديقة الأمة وصديقها الذي ورث علم نبيها الأقدس ، وعده المولى سبحانه في الكتاب نفسا لنبيه صلى الله عليهما وآلهما.
    لا بالخبر الواحد الذي لم ينبأ عنه قط خبير من الأمة وفي مقدمها العترة الطاهرة وقد اختص الحكم بهم وهم الذين زحزحوا به عن حكم الكتاب والسنة الشريفة.
    وحرموا من وراثة أبيهم الطاهر ، وكان حقا عليه صلى الله عليه وآله أن يخبرهم بذلك ، ولا يأخر بيانه عن وقت حاجتهم ، ولا يكتمه في نفسه عن كل أهله وذويه وصاحبته وأمته إلى آخر نفس لفظه.
    لا بالخبر الواحد الذي جر على الأمة كل هذه المحن والإحن ، وفتح عليها


(194)
باب العداء المحتدم بمصراعيه ، وأجج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية ، وشق عصا المسلمين من أول يومهم ، وأقلق من بينهم السلام والوئام وتوحيد الكلمة.
    جزى الله محدثه عن الأمة خيرا.
    ثم إن كان أبو بكر على ثقة من حديثه فلم ناقضه بكتاب كتبه لفاطمة الصديقة سلام الله عليها ، بفدك ؟ غير أن عمر بن الخطاب دخل عليه فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها.
    فقال : مما ذا تنفق ، على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقه ، ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية 3 : 391.
    وإن كان صح الخبر وكان الخليفة مصدقا فيما جاء به فما تلكم الآراء المتضاربة بعد الخليفة ؟ وإليك شطرا منها :
    1 ـ لما ولي عمر بن الخطاب الخلافة رد فدكا إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله فكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها.
    فكان علي يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وآله جعلها في حياته لفاطمة.
    وكان العباس يأبى ذلك ويقول : هي ملك رسول الله و أنا وارثه.
    فكانا يتخاصمان إلى عمر ، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول : أنتما أعرف بشأنكما أما أنا فقد سلمتها إليكما.
    راجع صحيح البخاري كتاب الجهاد السير باب فرض الخمس ج 5 : 3 ـ 10 ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ، باب : حكم الفئ ، الأموال لأبي عبيد ص 11 ذكر حديث البخاري وبتره ، سنن البيهقي 6 : 299 ، معجم البلدان 6 : 343 ، تفسير ابن كثير 4 : 335 ، تاريخ ابن كثير 5 : 288 ، تاج العروس 7 : 166.
    ( لفت نظر ) نحن لا نناقش فيما نجده من المخازي في أحاديث الباب كأصل التنازع المزعوم بين علي والعباس ، وما جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العباس لعمر : يا أمير المؤمنين ! اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.
    أهكذا كان العباس يقذف سيد العترة الطاهر المطهر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها مما نزل في علي أمير المؤمنين في آي الكتاب العزيز ؟ فما العباس وما خطره عندئذ ؟ وبماذا يحكم عليه أخذا بقول النبي الطاهر ؟ من سب عليا فقد سبني ، و


(195)
من سبني فقد سب الله ، ومن سب الله كبه الله على منخريه في النار ؟ (1)
    لاها الله نحن نحاشي العباس عن هذه النسب المخزية ، ونرى القوم راقهم سب مولانا أمير المؤمنين فنحتوا هذه الأحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة والله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وإلى الله المشتكى.
    2 ـ أقطع مروان بن الحكم فدكا في أيام عثمان بن عفان كما في سنن البيهقي 6 : 301 وما كان إلا بأمر من الخليفة.
    3 ـ لما ولي معاوية بن أبي سفيان الأمر أقطع مروان بن الحكم ثلث الفدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن علي فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيام خلافته فوهبها لعبد العزيز ابنه فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.
    4 ـ ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال : إن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فسألته إياها فاطمة فقال : ما كان لك أن تسأليني وما كان لي أن أعطيك فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل ، ثم ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك فصارت لي وللوليد وسليمان فلما ولي الوليد سألته حصته منها فوهبها لي ، وسألت سليمان حصته منها فوهبها لي فاستجمعتها ، وما كان لي من مال أحب إلي منها ، فاشهدوا أني قد رددتها إلى ما كانت عليه.
    5 ـ فكانت فدك بيد أولاد فاطمة مدة ولاية عمر بن عبد العزيز فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم.
    6 ـ ولما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين.
    7 ـ ثم لما ولي أبو جعفر المنصور قبضها من بني حسن.
1 ـ مر الايعاز إليه في الجزء الثاني ص 299 ط 2 وسيوافيك تفصيل مصادره إنشاء الله.

(196)
    8 ـ ثم ردها المهدي بن المنصور على ولد فاطمة سلام الله عليها.
    9 ـ ثم قبضها موسى بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون.
    10 ـ ردها المأمون على الفاطميين سنة 210 وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة : أما بعد : فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرابة به ، أولى من استن بسنته ، ونفذ أمره ، وسلم لمن منحه منحة ، وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته ، وإليه ـ في العمل بما يقربه إليه ـ رغبته ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك ، وتصدق بها عليها ، وكان ذلك أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه ، فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ، ويسلمها إليهم تقربا إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمره وصدقته ، فأمر باثبات ذلك في دواوينه ، والكتاب إلى عماله ، فلئن كان ينادى في كل موسم بعد أن قبض نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك ، فيقبل قوله ، وتنفذ عدته ، إن فاطمة رضي الله عنها لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.
    وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها ، وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك ، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها.
    فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين ، وما ألهمه الله من طاعته ، ووفقه له من التقرب إليه وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعلمه من قبلك ، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري ، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله ، والسلام.


(197)
    وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210 ه‍.
    11 ـ ولما استخلف المتوكل على الله أمر بردها إلى ما كانت عليه قبل المأمون راجع فتوح البلدان للبلاذري ص 39 ـ 41 ، تاريخ اليعقوبي 3 : 48 ، العقد الفريد 2 : 333 ، معجم البلدان 6 : 344 ، تاريخ ابن كثير 9 : 200 وله هناك تحريف دعته إليه شنشنة أعرفها من أخزم ، شرح ابن أبي الحديد 4 : 103 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 154 ، جمهرة رسائل العرب 3 : 510 ، أعلام النساء 3 : 1211.
    كل هذه تضاد ما جاء به الخليفة من خبره الشاذ عن الكتاب والسنة ، فأنى لابن حجر ومن لف لفه أن يعده من الأدلة الواضحة على علمه وهذا شأنه ، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟.
التمسك بالأفائك
    والعجب العجاب قول ابن حجر في الصواعق ص 20 : لا يقال بل علي أعلم من أبي بكر للخبر الآتي في فضائله : أنا مدينة العلم وعلي بابها.
    لأنا نقول : سيأتي أن ذلك الحديث مطعون فيه ، وعلى تسليم صحته أو حسنه فأبو بكر محرابها.
    ورواية فمن أراد العلم فليأت الباب لا تقتضي الأعلمية فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس بخلاف الأعلم.
    على أن تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعلي بابها.
    فهذه صريحة في أن أبا بكر أعلمهم ، وحينئذ فالأمر بقصد الباب إنما هو لنحو ما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قلته لما هو معلوم ضرورة أن كلا من الأساس والحيطان والسقف أعلى عن الباب.
    قال الأميني : إن الطعن في حديث أنا مدينة العلم لم صدر إلا من ابن الجوزي ومن يشاكله من رماة القول على عواهنه ، وقد عرفت في الجزء السادس ص 61 ـ 81 ط 2 نصوص العلماء على صحة الحديث ، واعتبار قوم حسنه ، وتقرير آخرين ما صدر ممن تقدمهم إلى ذينك الوجهين وتزييف ما ارتآه ابن الجوزي.
    وأما ما ذكره من رواية الفردوس فلا يختلف اثنان في ضعفها وضعف ما يقاربها في اللفظ مما تدرج نحته في الأزمنة المتأخرة تجاه ما يثبته هتاف النبي الأعظم من


(198)
فضيلة العلم الرابية لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وابن حجر نفسه من أولئك الذين زيفوه وحكموا عليه بالضعف كما في كتابه الفتاوى الحديثية ص 197 فقال : حديث ضعيف ، و معاوية حلقتها فهو ضعيف أيضا.
    فأذهله لجاجه في حجاجه عن حكمه ذاك ، ورأى ما حكم عليه بالضعف نصا في أعلمية أبي بكر.
    وقال العجلوني في كشف الخفا ج 1 : 204 : روى الديلمي في ( الفردوس ) بلا إسناد عن ابن مسعود رفعه : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعلي بابها.
    وروى أيضا عن أنس مرفوعا : أنا مدينة العلم ، علي بابها ، ومعاوية حلقتها.
    قال في المقاصد : وبالجملة فكلها ضعيفة وألفاظ أكثرها ركيكة.
    وقال السيد محمد درويش الحوت في أسنى المطالب ص 73 : أنا مدينة العلم ، أبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها وذلك لا ينبغي ذكره في كتب العلم لا سيما مثل ابن حجر الهيثمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيد من مثله :
    فلم يبق إذن مجال للمناقشة بالتعبير بالباب لمولانا صلوات الله عليه وبالأساس و الحيطان والسقف والحقلة لغيره ، حسب المسكين ناحت هذه المهزأة مدينة خارجية يرمق إليها ، ويتجول بين جدرانها ، ويتفيأ تحت سقفها ، ويدق بابها بالحلقة ، وقد عزب عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن السبب الوحيد للاستفادة من علوم النبوة هو خليفته مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، كما أن المدخل الوحيد للمدنية بابها ، فهو معنى كنائي جيء به لإفادة ما ذكرناه ، والأساس لا فضيلة له غير أنه يقوم عليه سياج المدينة المشاد للوقاية عن الغارات والسرقات ، وأما معنويات المدنية فلا صلة لها بشيء من ذلك ، والاستفادة بالسقف على فرض تصويره في المدن ليس إلا الاستظلال ودفع عايدة الحر والقر ولذلك لا يسقف إلا المحال التي يتصور فيها ذلك كالبيوت والحمامات والحوانيت والربط وأمثالها.
    فقاصد المدينة للاستفادة مما فيها من علم أو ثروة أو أي من أقسام النفع معنوية ومادية لا يتوصل بها إلا بالدخول من الباب ، فهو أهم مما جاء به ابن حجر من الأساس والجدار والسقف وأما الحلقة فيحتاج إليه لفتح الباب وسده و الدق إذا كان مرتجا غير أن باب علم النبوة غير موصود ، ولا يزال مفتوحا على البشر بمصراعيه أبد الدهر.


(199)
    ثم إن من الواضح أن المراد من التعبير بالباب ليس الولوج والخروج فحسب وإنما هو الاستفادة والأخذ ، ولا يتم هذا إلا أن يكون عنده كل علم النبوة الذي أراد صلى الله عليه وآله سوق الأمة إليه ، وحصر الطريق إلى ذلك بمن عبر عنه بالباب تأكيدا للحصر ثم زاد في التأكيد بقوله : فمن أراد المدينة فليأت الباب.
    فعلي أمير المؤمنين هو الباب المبتلى به الناس ، ومن عنده كل علم النبوة وكل ما يحتاج إليه البشر من فقه أو عظة أو خلق أو حكم أو حكم أو سياسة أو حزم أو عزم ، فهو أعلم الناس لا محالة ، وأما زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس ، فلا يجوز أن تنفك عمن سيق إليه البشر لغاية التفهم ، وإزاحة الجهل ، لا لمحض البيان وجودة السرد ، لأن وضوح البيان بمجرده غير واف للغرض ، لارتباك صاحبه عند الجهل بما يقدم إليه من المعضلات ، كارتباك الأعلم عند التفهيم إذا أعوزه البيان عن الإفهام ، فمن الواجب أن يجتمعا في إنسان واحد الذي هو مرجع الأمة جمعاء ، وهو قضية اللطف الواجب عليه سبحانه ، فذلك الانسان هو عدل الكتاب العزيز وهما الثقلان خليفتا النبي الأقدس لا يتفرقا حتى يردا عليه الحوض ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر


(200)
ـ 2 ـ
شجاعة الخليفة
    لم يؤثر عن الخليفة قبل الاسلام مشهد يدل على فروسيته ، كما أنه لم نجد له في مغازي النبي صلى الله عليه وآله مع كثرتها وشهوده فيها موقفا يشهد له بالبسالة ، أو وقفة تخلد له الذكر في التاريخ ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب الدامية تعرب عن شيء من هذا الجانب الهام غير ما كان في واقعة خيبر من فراره عن مناضلة مرحب اليهودي كصاحبه عمر بن الخطاب ، قال علي وابن عباس : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما ومن معه ، فلما كان من الغد بعث عمر فرجع منهزما يجبن أصحابه ويجبنه أصحابه.
    أخرجه الطبراني والبزار كما في مجمع الزوائد 9 : 124 ورجال إسناد البزار رجال الصحيح غير محمد بن عبد الرحمن ومحله الصدق ، وذكر انهزام الرجلين يوم خيبر القاضي عضد الايجي في المواقف وأقره شراحه كما في شرحه 3 : 276 ، وذكره القاضي البيضاوي في طوالع الأنوار كما في المطالع ص 483.
    ويعرب عن فرارهما يوم ذاك قول رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما فرا : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرار.
    وفي لفظ : كرار غير فرار.
    وفي لفظ : والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر ، وفي لفظ : لأدفعن إلى رجل لن يرجع حتى يفتح الله له.
    وفي لفظ : لا يولي الدبر (1).
    وقال ابن أبي الحديد المعتزلي فيما يعزى إليه من القصيدة العلوية :
1 ـ صحيح البخاري 6 : 191 ، صحيح مسلم 2 : 324 ، طبقات ابن سعد ص 618 ، 630 رقم التسلسل ط مصر ، مسند أحمد 1 : 284 ، 185 ، 353 ، 358 ، خصائص النسائي ص 4 ـ 8 ، سيرة ابن هشام 3 : 386 ، مستدرك الحاكم 3 : 109 ، حلية الأولياء 2 : 62 ، أسد الغابة 4 : 21 ، الامتاع للمقريزي ص 314 ، تاريخ ابن كثير 4 : 185 ـ 187 ، تيسير الوصول 3 : 227 ، الرياض النضرة 2 : 184 ـ 188. وهناك مصادر كثيرة تأتي في محلها إنشاء الله تعالى.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس