الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 241 ـ 250
(241)
عصورهم فلم يشيدوا بذكره ؟ أو رؤا فيه غلوا فاحشا بتقديم لحية أبي بكر على شيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فطووا عن روايته كشحا ؟ أو عقلوا فيه مهزأة بالله ووحيه وأمينه ونبيه فضربوا عنه صفحا ؟ وللقوم حول شيبة أبي بكر روايات منها ما أسلفناه في الجزء الخامس ص 270 من أنه صلى الله عليه وآله كان إذا اشتاق إلى الجنة قبل شيبة أبي بكر.
    ومر هنالك أنها من أشهر المشهورات من الموضوعات ، ومن المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل كما قاله الفيروز آبادي والعجلوني.
    ومنها ما ذكره العجلوني في كشف الخفا 1 ص 233 من أن لإبراهيم الخليل وأبي بكر الصديق شيبة في الجنة.
    ثم قال : في المقاصد نقلا عن شيخه ابن حجر : لم يصح أن للخليل في الجنة لحية ولا للصديق ، ولا أعرف ذلك في شيء من كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء المنثورة.
    ثم قال : وعلى تقدير ثبوت وروده فيظهر لي أن الحكمة في ذلك : أما في حق الخليل فلكونه منزلا منزلة الوالد للمسلمين لأنه الذي سماهم بالمسلمين و أمروا باتباع ملته ، وأما في حق الصديق فلأنه كالوالد الثاني للمسلمين ، إذ هو الفاتح لهم باب الدخول على الاسلام ، قال الأميني : إن الذي سمى الأمة المرحومة بالمسلمين هو الله سبحانه كما في قوله تعالى : جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا. ( الحج 78 ).
    وإن أمكنت التسمية من إبراهيم من قبل فإنها غير ممكنة منه في هذا وهو القرآن الكريم ، وإنما وقع ذكر ملة إبراهيم في البين امتنانا منه سبحانه على الأمة بجعل الاسلام شريعة سهلة لا حرج فيها ترغيبا في الدخول فيه.
    فالقول بأن إبراهيم سماهم مسلمين لا يتم مع قوله تعالى : ( وفي هذا ) يعني في القرآن.
    قال القرطبي : هذا القول مخالف لقول عظماء الأمة.
    وقال القرطبي : هذا لا وجه له لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة.
    في القرآن المسلمين.
    وقال ابن عباس : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي


(242)
الذكر. وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل وقتادة وابن مبارك.
    وتدل على تعين هذا القول قرائة أبي بن كعب : الله سماكم المسلمين.
    كما في تفسير البيضاوي 2 ص 112 ، وكشاف الزمخشري 2 ص 286 ، وتفسير الرازي 6 ص 210 ، وتفسير ابن الجزي الكلبي 3 ص 47.
    واستقربه الرازي في تفسيره فقال : لأنه تعالى قال : ليكون الرسول شهيدا عليكم ويكونوا شهداء على الناس.
    فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله.
    واستصوبه ابن كثير في تفسيره 3 ص 236 وقال : لأنه تعالى قال : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج.
    ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله عليه بأنه ملة أبيهم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليه في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان فقال : هو سماكم المسلمين من قبل. أي من قبل هذا القرآن. وفي هذا.
    وبهذا تعرف قيمة ما حسبه المتفلسف من أن تنزيل إبراهيم منزلة الأب للمسلمين لمحض التسمية فإنه مما لا يقام له وزن وإلا لوجب اتخاذ من سمى أحدا باسم أبا تنزيليا ومن المعلوم بطلانه ، وإنما سماه الله أبا للمسلمين لأنه عليه السلام أب الرسول الأمين وإن قريشا من ذريته وهو صلى الله عليه وآله أبو الأمة وأمته في حكم أولاده وأزواجه أمهاتهم كما ورد عنه صلى الله عليه وآله من قوله : إنما أنا لكم كالوالد.
    أو : مثل الوالد (1).
    أنا لا أدري ما هي الخاصة في الأب التنزيلي لأمة خاصة أن تكون له لحية في الجنة دون الأب الحقيقي للأمم جمعاء ، وهو أبو البشر آدم عليه السلام ، ولا لحية له ؟ مع ما ورد عن كعب الأحبار أنه قال : ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم ، له لحية سوداء إلى سرته.
    ذكره ابن كثير في تاريخه 1 : 97.
    وإن كانت الحكمة في لحية إبراهيم الخليل وأبي بكر ما زعمه العجلوني من الأبوة فما الحكمة في لحية موسى بن عمران ؟ وقد جاء في الحديث ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ( السيرة الحلبية 1 : 425 )
1 ـ تفسير الخازن 3 ص 314 ، تفسير النسفي هامش الخازن 3 ص 314.

(243)
    ثم إن للأمة المسلمة أبا تنزيليا روحيا هو أحق بالأبوة من الخليل عليه السلام وهو نبيها الأقدس محمد صلى الله عليه وآله كما مر حديثه ، وبها حياتها الحقيقية ، وهو الذي يدعوهم لما يحييهم ، ومنه كيانها المستقر ، وعز ها الخالد ، فهو أولى باللحية من أبيه الخليل وصاحبه أبي بكر.
    والعجب كل العجب في عد أبي بكر أبا ثانيا للأمة لأنه فتح لها باب الدخول إلى الاسلام ، وإن الذي فتح باب الاسلام بمصراعيه لدخول الأمم فيه ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته الكريمة ، وبراهينه الصادقة ، ومعاجزه المعلومة ، ونواميسه المقدسة ، وخلايقه الرضية ، ومغازيه الدامية.
    فهو أولى بأن تكون له لحية في الجنة.
    على أن الأمة قط لم تعرف بابا فتحه الخليفة لها إلى الاسلام ، ولم يدر أي أحد أنه متى فتحه ، وأين فتحه ، ولماذا فتحه ، وأي باب هو نعم.
    لا تخفى على الأمة جمعاء أنه غلق بابا عليها وحرمها من خير أهله وعلمه ورشده وهداه ، ألا : وهو باب مدينة علم النبي مولانا أمير المؤمنين بالنص المتواتر ، وهو الباب الذي منه يؤتى إلى الله ، و إليه يتوجه الأولياء ، فلولا انتزاع الأمر منه لانتشرت علومه ، وزهرت معالمه ، وتبلغت حكمه ، وعمل بأحكامه ، فأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ، لكنه عليه السلام منع عن حقه فجهلت العباد ، وأجدبت البلاد ، وصوحت المرابع ، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، وإلى الله المشتكى.
    وإن أراد القائل من فتح الباب بدئة الفتوح في أيام الخليفة ؟ فالخليفة الثاني على ذلك أجدر باللحية منه ، لأن عمدة الفتوح وقعت في أيامه.
    نعم : إن يكن هناك من يحق أن يعد للأمة أبا ثانيا تنزيلا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام الذي به كان تمام الدعوة ؟ والنجاح في المغازي ، وهو نفس النبي القدسية وخليفته المنصوص عليه ، ولذلك جاء من طريق أنس بن مالك عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : حق علي على هذه الأمة كحق الوالد على الولد ، ومن طريق عمار و أبي أيوب الأنصاري قوله : حق علي على كل مسلم حق الوالد على ولده (1).
1 ـ الرياض النضرة 2 ص 172 نقلا عن الحاكمي ، كنوز الدقائق ص 64 نقلا عن الديلمي ، مناقب الخوارزمي ص 244 ، 254 ، فرائد السمطين لشيخ الاسلام الحمويى ، نزهة المجالس 2 ص 212.

(244)
ـ 3 ـ
شهادة أبي بكر وجبرئيل
    ذكر النسفي أن رجلا مات بالمدينة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه فنزل جبريل وقال : يا محمد لا تصل عليه.
    فامتنع فجاء أبو بكر فقال : يا نبي الله صل عليه فما علمت منه إلا خيرا.
    فنزل جبريل وقال : يا محمد صل عليه ، فإن شهادة أبي بكر مقدمة على شهادتي ، مصباح الظلام للجرداني 2 ص 25 ، نزهة المجالس 2 ص 184.
    قال الأميني : هلم معي نناقش راوي هذه السفسطة الحساب بعد أن لم نقف لها على إسناد نناقش رجاله ، ونسائله عن أن ما أداه جبريل من الشهادة أكان من عند نفسه ؟ ولم يكن لأمين الله على وحيه أن يأتي رسوله بشيء من قبل نفسه فحابا أبا بكر بتقديم شهادته أم كان وحيا من المولى سبحانه ؟ ـ وهو المطرد في كل هبوط له إلى الرسول الأمين ـ فأبطل ذلك الوحي المبين مجازفة لمحض أن أبا بكر شهد بضد ما جاء به ؟ وأيا ما كان فإن إخباره كان لا محالة عن عدم تأهل الرجل في الواقع للصلاة عليه في صورة نهي مفيد للتحريم ، ومؤداه أن الله سبحانه يبغض أن ترفع إليه صلاة على مثله من نبيه والمحبوب ، فهل يكون قول أبي بكر بتأهله المستنبط من ظاهر الحال الذي يخطأ ويصيب ، ولا شك أنه مخطأ في هذه المورد بالخصوص لنزول الوحي بخلافه ، فهل يكون قول هذا شأنه مبطلا للوحي المبين ؟ تبصر واحكم.

ـ 4 ـ
خاتم النبي وسجله
    روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتمه إلى أبي بكر وقال : اكتب عليه : لا إله إلا الله ، فدفعه أبو بكر إلى النقاش وقال : اكتب عليه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
    فكتب عليه.
    فلما جاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد عليه لا إله إلا الله محمد ، رسول الله ، أبو بكر الصديق.
    فقال : ما هذه الزيادة يا أبا بكر ؟ فقال : ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم الله ، وأما الباقي فما قلته فنزل جبريل وقال : إن الله سبحانه وتعالى يقول : إني كتبت اسم أبي بكر لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسمي ، فأنا ما رضيت أن أفرق


(245)
إسمه عن اسمك. نزهة المجالس للصفوري 2 ص 185 نقله عن تفسير الرازي ، مصباح الظلام للجرداني ص 25.
    قال الأميني : المتسام عليه بين المحدثين أن نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله كان ( محمد رسول الله ) بلا أي زيادة ففي الصحاح عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم صنع خاتما من ورق ونقش فيه : محمد رسول الله.
    وقال : فلا ينقش أحد على نقشه.
    صحيح البخاري 8 : 309 ، صحيح مسلم 2 : 214 ، 215 ، صحيح الترمذي 1 : 324.
    سنن ابن ماجة 2 : 384 ، 385 ، سنن النسائي 8 : 173.
    وفي رواية البخاري والترمذي عن أنس قال : كان نقش الخاتم ثلاثة أسطر : محمد ، سطر. ورسول ، سطر. والله سطر. ( صحيح البخاري 8 : 309 ، صحيح الترمذي 1 : 325 ).
    وروى ابن سعد في طبقاته من مرسل ابن سيرين أن نقشه كان : بسم الله محمد رسول الله. وقال ابن حجر : ولم يتابع على هذه الزيادة. ذكره عنه الزرقاني في شرح المواهب 5 : 39.
    وأخرج أبو الشيخ في الأخلاق النبوية من رواية عرعرة بن البرند عن أنس قال : كان مكتوبا على فص خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله. محمد رسول الله. قال ابن حجر في فتح الباري 10 : 270 : عرعرة ضعفه ابن المديني وزيادته هذه شاذة. وقال الزرقاني في شرح المواهب 5 : 39 : كان نقش الخاتم النبوي كما في الصحيحين وغيرهما. محمد رسول الله. فلا عبرة بهذه الرواية كرواية أنه كان فيه كلمتا الشهادة معا ، ورواية ابن سعد عن أبي العالية أن نقشه : صدق الله. ثم ألحق الخلفاء : محمد رسول الله.
    فما قيمة ما جاء به من النقش صواغ القرون المتأخرة ، وصاغته يد الإفك والغلو بعد لأي من وفاة النبي الأعظم وانقطاع الوحي عنه ، ولا يوجد في تآليف الأولين منه عين ولا أثر ؟ وأنت ترى السلف حاكمين في حديث زيادة كلمة الاخلاص والبسملة بالشذوذ وأنه لا عبرة به ولا يتابع عليه ، ولا يبحث أي متضلع في الفن عن هذه الزيادة المختلفة التي لا صلة لها بالموضوع ، وليست هي إلا استهزاء بالله ونبيه ووحيه. وأمين وحيه.


(246)
    ثم قد صح عند القوم أن ذلك الخاتم المنقوش الخاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ( وكان يتختم به ويختم صلى الله عليه وآله ولم يكن له خاتم غيره ولم يحتمل التعدد قط. أحد في رفع اختلاف أحاديث النقش ) كان عند أبي بكر في يمينه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبعده في يد عمر ، و بعده عند عثمان في يمينه وسقط سنة ثلاثين من يده أو : من يد غيره.
    في بئر أريس (1) واتخذ له خاتما آخر (2) وفي رواية ابن سعد عن الأنصاري كما في فتح الباري 10 : 270 وسنن النسائي 8 : 179 : إنه كان في يد عثمان ست سنين من عمله.
    فلو كانت تلكم الأسطورة صحيحة وكان إسم الخليفة منقوشا في خاتم كان يلبسه النبي الأقدس طيلة حياته وتنظر إليه الصحابة من كثب وترى بريقه في خنصره كما في صحيح البخاري 8 : 308 ، 309 كان حقا على الخليفة والخاتم بيده أن يحتج بها يوم تسنم عرش الخلافة ، وكان هناك حوار وصخب ، لكنه لم يحتج لأن ذلك الخاتم ما كان مصوغا بعد ولا منقوشا ، ولم يعط من المغيب أنه يستنحت له ذلك بعد قرون متطاولة.
    وكان حقا على الصحابة الملتاثين به أن يحتجوا بذلك النقش المصنوع في عالم الملكوت ، فإن الاحتجاج به أولى من الاحتجاج بكبر السن وأمثاله ، لكنهم تركوا الحجاج لأن هذا المولود لم يكن يولد بعد ، وإنما ولدته أم الغلو في الفضائل في آخر الدهر.
    ولا يتأتى لأحد عرفان سر ما جاء به جبريل الخيالي من القرآن بين اسم النبي الأعظم وبين اسم أبي بكر في ذلك النقش المصوغ في عالم الغيب ، أكان أبو بكر نفس النبي الأعظم بنص القرآن الكريم ؟ أم كان قرينه في العصمة والقداسة في الذكر الحكيم ؟ أم نزلت فيه آية التبليغ مع ذلك الارهاب ؟ أم أكمل الله به الدين ، وأتم به النعمة كما بدء بالنبي الطاهر ؟ أم كان رديف النبي الأقدس في الاسلام والدعوة إلى الله من أول يومه ؟ أم كان وصيه وخليفته المنصوص عليه من بدء الدعوة ؟ أم قرنت طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته كما في صحاح جاءت عنه صلى الله عليه وآله ؟ أم كان نظيره في أمته بنص منه
1 ـ هي ميلين من المدينة وهي من أقل الآبار ماء.
2 ـ صحيح البخاري 8 : 306 ، صحيح مسلم 2 : 214 ، سنن النسائي 8 : 179 ، تاريخ الطبري 5 : 65 ، تاريخ ابن كثير 8 : 155 ، تاريخ الخميس 2 : 223 ، 269 تاريخ أبي الفدا ج 1 : 168.


(247)
صلى الله عليه وآله ؟ أم ؟ أم ؟ إلى مائة أم.
    لماذا ذلك القران ؟ أنا لا أدري ، ومختلق الرواية أيضا لا يدري.

ـ 5 ـ
عرض جنة أبي بكر
    قال الصفوري في نزهة المجالس 2 ص 183 : رأيت في الحديث أن الملائكة اجتمعت تحت شجرة طوبى فقال ملك : وددت أن الله تعالى أعطاني قوة ألف ملك ، وكساني ريش ألف طير ، فأطير حول الجنة حتى أبلغ طرفها ، فأعطاه الله ذلك فطار ألف سنة حتى ذهبت قوته وتساقط ريشه ، ثم أعطاه الله تعالى قوة وأجنحة فطار ألف سنة ثانية حتى ذهبت قوته وتساقط ريشه ، ثم أعطاه الله تعالى قوة وأجنحة فطار ألف سنة ثالثة حتى ذهبت قوته وتساقط ريشه ، فوقع على باب قصر باكيا فأشرفت عليه حوراء فقالت : أيها الملك مالي أراك باكيا وليست هذه بدار بكاء وحزن ، وإنما هي دار فرح وسرور ؟ فقال : لأني عارضت الله في قدرته.
    ثم أعلمها بحديثه ، فقالت له : لقد خاطرت بنفسك أتدري كم طرت في هذه الثلاثة آلاف سنة ؟ قال : لا.
    قالت : وعزة ربي ما طرت أكثر من جزء واحد من عشرة آلاف جزء مما أعده الله تعالى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذكره الجرداني في مصباح الظلام 2 ص 25.
    قال الأميني : فمجموع ما أعده الله تعالى لأبي بكر في الجنة هو مسير ثلاثين ألف ألف سنة لطائر يطير بقوة ألف.
    ملك وريش ألف طير ، جلت قدرة الباري ، أنا أكل حساب هذه الرواية إلى الشباب النابه العصري المتخرج من المدارس العالية في أرجاء العالم.
    كما أرى النظرة في رجال سندها من وظائف رجال الغيب إذ من المستحيل أن يقف عليه متتبع ، ويعرفه حافظ ضليع ، أو محدث بعيد الطنء ، أو رجالي واسع الخطوة من رجال عالم الشهود.

ـ 6 ـ
الله يستحيي من أبي بكر
    عن أنس بن مالك قال : جاءت امرأة من الأنصار فقالت : يا رسول الله ! رأيت في المنام كأن النخلة التي في داري وقعت ، وزوجي في السفر. فقال : يجب عليك الصبر


(248)
فلن تجتمعي به أبدا. فخرجت المرأة باكية فرأت أبا بكر ، فأخبرته بمنامها ولم تذكر له قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إذهبي فإنك تجتمعين به في هذه الليلة.
    فدخلت إلى منزلها وهي متفكرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي بكر ، فلما كان الليل وإذا بزوجها قد أتى ، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بزوجها ، فنظر إليها طويلا فجاءه جبرئيل وقال : يا محمد ! الذي قلته هو الحق ، ولكن لما قال الصديق إنك تجتمعين به في هذه الليلة استحيا الله منه أن يجري على لسانه الكذب ، لأنه صديق فأحياه كرامة له.
    نزهة المجالس 2 ص 184 قال الأميني : ليتنا كنا نقف على رجال هذا الخيال النبهاء الذين أرادوا كسح معرة الكذب عن ساحة الصديق فجروها إلى الساحة النبوية ، فكأن الله لم يبال بأن يجري الكذب على لسان نبيه الصادق المصدق ، حيث أنه لم يخبر عن موت الرجل وإنما أخبر امرأته بأنها لن تجتمع به أبدا بكلمة لن المفيدة لتأييد النفي المؤكد بقوله أبدا فظهر خلافه ، لكنه استحى من أبي بكر بعد أن رجم بالغيب إفكا ظاهرا فأراد أن يرحض عنه ذلك بإحياء الرجل وعدم إماتته كرامة له ، وهل يرحضه ذلك بعد أن وقع الكذب ؟ أنا لا أدري.
    وهل كانت كرامة أبي بكر على الله أعظم من كرامة رسوله عليه ؟ حيث لم يرض بظهور الكذب عليه ورضيه على مصطفاه ، ولم يكن في انتشاره عنه كسر للاسلام لكن انتشاره عن النبي صلى الله عليه وآله فت في عضد الدين. ثم اعجب من تعليل الرواية بأن أبا بكر كان صديقا.
    أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله سيد الصديقين أجمع ؟ وهب أن وحي هذه المزعمة خفف عن ساحة النبوة شيئا يمكن أن يفوه به من اختلقها بأن الأمر كان كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن أحيى الله الرجل للغاية التي ذكرها فلا كذب صلى الله عليه وآله وسلم لكن يدفعه ما قدمناه من أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر عن موت الرجل وإنما أخبر عن أنها لن تجتمع به أبدا وقد وقع خلاف ما أنبأ به.
    نعم : لعل ما مر من رأي الخليفة من جواز تقديم المفضول على الفاضل ، أو الغلو في الفضائل ، يرخصان بكل ما ذكر.


(249)
ـ 7 ـ
كرامة دفن أبي بكر
    أخرج ابن عساكر في تاريخه قال : روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره : إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقفوا بالباب وقولوا : السلام عليك يا رسول الله ! هذا أبو بكر يستأذن.
    فإن أذن لكم بأن فتح الباب وكان الباب مغلقا بقفل فادخلوني وادفنوني ، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به ، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتف يهتف من القبر : ادخلوا الحبيب إلى الحبيب فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
    وذكره الرازي في تفسيره 5 ص 378 ، والحلبي في السيرة النبوية 3 ص 394 ، والديار بكري في تاريخ الخميس 2 : 264 ، والقرماني في أخبار الدول هامش الكامل 1 ص 200 ، والصفوري في نزهة المجالس 2 ص 198.
    قال الأميني : أراد رواة هذه الرواية تصحيح عمل القوم في دفن الخليفة في موطن القداسة [ حجرة النبي صلى الله عليه وآله ] بعد أن أعيتهم المشكلة وعجزوا عن الجواب ، فإن الحجرة الشريفة إما أن تكون باقية على ملكه صلى الله عليه وآله كما هو الحق المبين.
    أو أنها عادت صدقة يؤل أمرها إلى المسلمين أجمع ؟ وعلى الأول كان يشترط فيه رضاء أولاد وارثته الوحيدة السبطين الإمامين وأخواتهما ولم يستأذن منهم أحد.
    وعلى الثاني كان يجب على الخليفة أو على من تولى الأمر بعده أن يستأذن الجامعة الإسلامية ولم يكن من أي منهما شيء من ذلك ، فبقي الدفن هنالك خارجا عن ناموس الشريعة.
    وإن قيل : إنه دفن بحق ابنته ؟ فأي حق لها بعد ما جاء به أبوها من قوله : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؟ على أنا أسلفنا في الجزء السادس ص 190 ط 2 : إنه لم يكن لأمهات المؤمنين إلا السكنى في حجرهن كالمعتدة ولم يكن لهن ترتيب آثار الملك على شيء منها.
    وقدمنا هنالك أيضا أن على فرض الميراث وعلى تقدير الإرث من العقار فإن لعائشة تسع الثمن من حجرتها لأنه صلى الله عليه وآله توفي عن تسع ، ومساحة المحل لا يسع


(250)
تسع ثمنها جثمان إنسان مهما كبرت الحجرة.
    على أن حقها كان مشاعا وليس لها التصرف فيه بغير إذن شريكاتها في الميراث.
    أراد القوم التفصي عن هذه المشكلات فكونوا ما يستتبع مشكلة بعد مشكلة و هي : إن الخليفة هل قال ما قاله بعهد من النبي صلى الله عليه وآله أو إنه أحاط علما بالمغيب ؟ أما الثاني فلا أحسب أحدا يدعي له ذلك بعد ما أحطنا خبرا بكل ما قيل في فضائله ، وبعد ما أوقفناك على مبلغ علمه في المشهودات ، فأين هو عن الغيوب ؟ وأما الأول فلو كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل ، وبين الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك ، فإن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله لا بد أن يكون ، فلا ترديد فيه.
    نعم : من المحتمل أنه صلى الله عليه وآله لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنما رواه عنه من لا يثق به الخليفة ولذلك نوه بما قال بالترديد ، أو أن الرواية لا صحة لها ، ولذلك لا تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر ، وهي على فرض صحتها مكرمة عظمي وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيعوه إلى مقره الأخير ، وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها ، وبذلك الهتاف المسموع من القبر الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر ، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة ، ولا في الآذان وقر ، ولا في الألسنة بكم ، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحد عنها ببنت شفة ، وما ذلك إلا لأن المكرمة لم تقع ، والقفل ما سقط ، والباب ما انفتح ، والهتاف لم يكن ، وادخلوا الحبيب إلى الحبيب ، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من الغلو في الفضائل تنبأ عن روح التصوف في مختلق الرواية. نعم :
ما كل من زار الحمى سمع الندا من أهله أهلا بذاك الزائر
    م ـ هذه الكرامة المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إياها إرسال المسلم ، محتجين بها عداد فضائل أبي بكر ، غير مكترثين لما في إسنادها من العلل أو جاهلين بها ، وإنما أخرجها ابن عساكر من طريق أبي طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي عن عبد الجليل المدني عن حبة العرني فقال : هذا منكر ، وأبو الطاهر كذاب ، وعبد الجليل مجهول ، وفي لسان الميزان 3 : 391 : خبر باطل.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس