الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 261 ـ 270
(261)
يا رسول الله ! قد شبت ؟ قال : شيبتني هود والواقعة. الحديث.
    وروى مثله الحفاظ عن ابن مسعود ، وفي لفظ أبي جحيفة : قالوا : يا رسول الله ! نراك قد شبت ؟ قال : شيبتني هود وأخواتها (1).
    فهذه الصحيحة تعرب عن أنه صلى الله عليه وآله كان قد بان فيه الشيب على خلاف الطبيعة ، وأسرع فيه حتى أصبح مسئولا عنه وعما أثره فيه صلى الله عليه وآله فأين منها ذلك التأويل البارد ؟ وربما يقال في حل مشكلة ( يعرف ولا يعرف ) : إن أبا بكر كان تاجرا عرفه الناس في المدينة عند اختلافه إلى الشام ، لكنه على فرض تسليم كونه تاجرا ، وعلى تقدير تسليم سفره إلى الشام ودون إثباته خرط القتاد ، مقابل بأن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا كان يحاول التجارة يستطرق المدينة إلى الشام ، فلو كانت التجارة بمجردها تستدعي معرفة الناس بالتاجر فهو في النبي الأعظم أولى لأن شرفه المكتسب ، وشهرته وبالأمانة ، وعظمته في النفوس ، وتحليه بالفضائل ، وبروز عصمته وقداسته عند الناس من أول يومه ، وشرفه الطائل في نسبه ، أجلب لتوجه النفوس إليه ، بخلاف التاجر الذي هو خلو من كل ذلك.
    على أن التاجر متى هبط مصرا فعارفوه رجال معدودون ممن شاركوه في الحرفة ، أو شارفوه في المعاملة ، وهذا التعارف يخص بأناس تعد بالأنامل لا عامة الناس كما حسبوه ، وأنى هذا من سفر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة وأبو بكر يوم ذاك يرضع من ثدي أمه ، خرجت به صلى الله عليه وآله أم أيمن لما بلغ ست سنين من عمره إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزور به أخواله ، فنزلت به في دار النابغة رجل من بني عدي بن النجار فأقامت به شهرا.
    ومما وقع في تلك السفرة : قالت أم أيمن : أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا : أخرجي لنا أحمد.
    فأخرجته ونظرا إليه وقلباه مليا ثم قال أحدهما لصاحبه : هذا
1 ـ أخرجه الحافظ الترمذي في جامعه ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وأبو يعلى ، والطبراني ، وابن أبي شيبة ، والحاكم في المستدرك 2 : 343 وصححه هو وأقره الذهبي ، والقرطبي في تفسيره 7 : 1. وأبو نصر في اللمع ص 280 ، وابن كثير في تفسيره 2 : 435 ، والخازن في تفسيره 2 : 335.

(262)
نبي هذه الأمة ، وهذه دار هجرته ، وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم. قالت أم أيمن : وعيت ذلك كله من كلامهما (1) أبعد هذه كلها ، وبعد تلكم الإرهاصات للنبوة التي ملأت بين الخافقين ، وبعد ذلك الصيت الطائل الذي دوخ الأقطار ، وبعد مضي خمسون سنة من عمره الشريف صلى الله عليه وآله رسول الله شاب لا يعرف وأبو بكر شيخ يعرف ، يسأل عنه : من هذا الغلام بين يديك ؟ ولايضاح هذه الجمل من الحري أن نسرد كيفية هجرته صلى الله عليه وآله حتى تزيد بصيرة القارئ على موقع الإفك من هذه المجهلة المأثورة في الصحاح والمسانيد الصادرة عن الغلو في الفضائل عميا وصما. فأقول :

( الأنصار في البعتين )
    كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعرض نفسه على القبائل في المواسم إذا كان يدعوهم إلى الله ويخبرهم إنه نبي مرسل فعرض نفسه على كندة. وعلى بني عبد الله بطن من كلب. وعلى بني حنيفة. وعلى بني عامر بن صعصعة. وعلى قوم من بني عبد الأشهل. فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وآله وإنجاز موعده له خرج صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وفيهم : أسعد بن زرارة أبو أمامة النجاري. وعوف بن الحرث بن عفراء. ورافع بن مالك. وقطبة بن عامر بن حديدة. وعقبة بن عامر بن نابي. وجابر بن عبد الله.
    فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله ودعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الاسلام ، وتلا عليهم القرآن فأجابوه فيما دعا إليهم ثم انصرفوا عنه صلى الله عليه وآله راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
    فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وآله ودعوهم إلى الاسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب. وهم :
1 ـ دلائل النبوة لأبي نعيم 1 : 50 ، صفة الصفوة لابن الجوزي 1 : 20 تاريخ ابن كثير 2 : 279 بهجة المحافل 1 : 44.

(263)
أبو أمامة أسعد بن زرارة. وعوف بن عفراء. ومعاذ بن عفراء. ورافع بن مالك. وذكوان بن عبد قيس. وعبادة بن الصامت. ويزيد بن ثعلبة. والعباس بن عبادة. وعقبة بن عامر. وقطبة بن عامر. وأبو الهيثم بن التيهان. وعويم بن ساعدة.
    قال عبادة بن الصامت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى : على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف.
    فلما انصرف القوم عنه صلى الله عليه وسلم بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرأهم القرآن ، ويعلمهم الاسلام ، ويفقههم في الدين ، ويقيم فيهم الجمعة والجماعة ، وكان مصعب يسمى بالمدينة : المقرئ ، وكان منزله على أسعد بن زرارة أبي أمامة.
    النجاري وكان يصلي بهم الجمعة والجماعة فأقام عنده يدعوان الناس الاسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
    ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق.
    قال كعب : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا ، ثم دعوناه إلى الاسلام فأسلم وشهد معنا العقبة ، و كان نقيبا ، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب أم عمارة. وأسماء بنت عمرو أم منيع.
    قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
    فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك عما نمنع منه أزرنا (1) فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابرا عن كابر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي
1 ـ أزرنا : يعني نساءنا ، والمرأة يكنى عنها بالإزار.

(264)
منكم اثنى عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهم :
    1 ـ أبو أمامة أسعد بن زرارة الخزرجي.
    2 ـ سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي.
    3 ـ عبد الله بن رواحة بن امرؤ القيس الخزرجي.
    4 ـ رافع بن مالك بن العجلان الخزرجي.
    5 ـ البراء بن معرور بن صخر الخزرجي.
    6 ـ عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي.
    7 ـ عبادة بن الصامت بن قبس الخزرجي.
    8 ـ سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي.
    9 ـ المنذر بن عمرو بن خنيس الخزرجي.
    10 ـ أسيد بن حضير بن سماك الأوسي.
    11 ـ سعد بن خيثمة بن الحرث الأوسي.
    12 ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر الأوسي.
    وقد يعد بمكانه أبو الهيثم ابن التهيان.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي : يعني المسلمين.
    قالوا : نعم.
    قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج ! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم.
    قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتل استلمتموه ؟ فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة.
    قالوا فإنا نأخذ على مصيبة الأموال قتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله ! إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة.
    قالوا : أبسط يدك فبسط يده فبايعوه.
    فقال له العباس بن عبادة : والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل


(265)
منى غدا بأسيافنا ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم نؤمر بذلك ولذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
    فرجعوا إلى مضاجعهم.
    فلما قدموا المدينة أظهروا الاسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك.
    وكان أهل بيعة العقبة الآخرة ثلاثة وسبعين رجلا و امرأتين وهم :
أسيد بن حضير النقيب أبو الهيثم بن التيهان النقيب سلمة بن سلامة الأشهلي
ظهير بن رافع الخزرجي أبو بردة بن نيار بن عمرو نهير بن الهيثم الحارثي
سعد بن خيثمة النقيب رفاعة بن عبد المنذر النقيب عبد الله بن جبير بن النعمان
معن بن عدي بن الجلد عويم بن ساعدة الأوسي أبو أيوب خالد الأنصاري
معاذ بن الحارث الأنصاري أسعد بن زرارة النقيب سهيل بن عتيك النجاري
أوس بن ثابت الخزرجي أبو طلحة زيد بن سهل قيس بن أبي صعصعة النجاري
عمرو بن غزية الخزرجي سعد بن الربيع النقيب خارجة بن زيد الخزرجي
عبد الله بن رواحة النقيب بشير بن سعد الخزرجي خلاد بن سويد الخزرجي
عقبة بن عمرو الخزرجي زياد بن لبيد الخزرجي فروة بن عمرو الخزرجي
خالد بن قيس الخزرجي رافع بن مالك النقيب ذكوان بن عبد قيس الخزرجي
عبادة بن قيس الخزرجي الحارث بن قيس الخزرجي البراء بن معرور النقيب
بشر بن البراء الخزرجي سنان بن صيفي الخزرجي الطفيل بن النعمان الخزرجي
معقل بن المنذر الخزرجي يزيد بن المنذر الخزرجي مسعود بن يزيد الخزرجي
الضحاك بن حارثة الخزرجي يزيد بن خزام الخزرجي جبار بن صخر الخزرجي
الطفيل بن مالك الخزرجي كعب بن مالك الخزرجي سليم بن عمرو الخزرجي
قطبة بن عامر الخزرجي يزيد بن عامر الخزرجي كعب بن عمرو الخزرجي
صيفي بن سواد الخزرجي ثعلبة بن غنمة السلمي عمرو بن غنمة السلمي
عبد الله بن أنيس السلمي خالد بن عمرو السلمي عبد الله بن عمر النقيب
جابر بن عبد الله السلمي ثابت بن ثعلبة السلمي عمير بن الحارث السلمي
خديج بن سلامة بن الفرافر معاذ بن جبل الخزرجي أوس بن عباد الخزرجي
عبادة بن الصامت النقيب غنم بن عوف الخزرجي العباس بن عبادة الخزرجي
أبو عبد الرحمن بن الخزرجي عمرو بن الحرث الخزرجي رفاعة بن عمرو الخزرجي
عقبة بن وهب الجشمي سعد بن عبادة النقيب المنذر بن عمرو النقيب
عوف بن الحارث الأنصاري معوذ بن الحارث الأنصاري عمارة بن حزم الأنصاري
عبد الله بن زيد مناة الخزرجي.

نبأ الهجرة
    فلما عتت قريش على الله عز وجل ، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال فنزل قوله تعالى : أذن الذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية.
    ثم أنزل الله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب وتابعه هذ الحي من الأنصار على الاسلام والنصرة له ولمن اتبعه ، وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها.
    فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة ، فهاجر بنو جحش فغلقت دورهم هجرة تخفق أبوابها يبابا ، ليس فيها ساكن خلاء من أهلها. وكان بنو غنم بن دودان أهل. إسلام قد أو عبوا إلى المدينة هجرة نساءهم ورجالهم ، ثم تتابع المهاجرون وفيهم :
أبو سلمة بن عبد الأسد عامر بن ربيعة الكعبي عبد الله بن جحش عبد بن جحش أبو أحمد
عكاشة بن محصن شجاع بن وهب عقبة بن وهب عربد بن حمير
منقذ بن نباتة سعيد بن رقيش محرز بن نضلة يزيد بن رقيش
قيس بن خابر عمرو بن محصن مالك بن عمرو صفوان بن عمرو
ثقف بن عمرو ربيعة بن أكثم الزبير بن عبيدة تمام بن عبيدة
سخبرة بن عبيدة محمد بن عبد الله بن جحش عمر بن الخطاب عياش بن أبي ربيعة
زيد بن الخطاب عمرو بن سراقة عبد الله بن سراقة خنيس بن حذافة
إياس بن البكير عاقل بن البكير عامر بن البكير خالد بن البكير


(267)
طلحة بن عبيد الله حمزة بن عبد المطلب صهيب بن سنان زيد بن حارثة
كنار بن حصين عبيدة بن الحارث الطفيل بن الحارث الحصين بن الحرث
مسطح بن أثاثة سويبط بن سعد طليب بن عمير خباب مولى عتبة
عبد الرحمن بن عوف الزبير بن عوام أبو سبرة بن أبي رهم مصعب بن عمير
أبو حذيفة بن عتبة سالم مولى أبي حذيفة عتبة بن غزوان عثمان بن عفان
أنسة مولى رسول الله أبو كبشة مولى رسول الله.
    وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.
    ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن ، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه ، وما كان يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر ، أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعد مكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم ، فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فخرج ومعه أبو بكر ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه فأقام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ومعه صاحبه.
    ثم خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل أسفل من عسفان (1) ثم سلك بهما على أسفل أمج (2) ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن جاز قديدا (3) ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار (4) ثم سلك بهما ثنية (5) المرة ، ثم سلك بهما لقفا (6) ، ثم استبطن بهما مدلجة
1 ـ بضم الأول ثم السكون : محل من مكة على مرحلتين.
2 ـ بفتح الهمزة والميم : بلد من اعراض المدينة.
3 ـ بضم الأول وفتح الدال : موضع فيه ماء بين مكة والمدينة. بها منازل خزاعة.
4 ـ بفتح المعجمة وتشديد الراء : موضع قرب الجحفة.
5 ـ ثنية المرة مخفف الراء.
6 ـ يقال : لقف بالتحريك وبفتح اللام وسكون الفاء. وبكسر اللام وسكون الفاء.


(268)
مجاج (1) ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح (2) من ذي العضوين ـ الغضوين ـ ثم بطن ذي كشر (3) ثم أخذ بهما على الجداجد (4) ثم على الأجرد (5) ثم سلك بهما ذا سلم بن بطن أعدا مدلجة تعهن (6) ثم على العبابيد (7) ثم أجاز بهما الفاجة (8) ثم هبط بهما العرج (9) فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم يقال له : أوس بن حجر على جمل له يقال له : ابن الرداء.
    إلى المدينة وبعث معه غلاما له مسعود بن هنيدة ، ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية العائر (10) عن يمين ركوبه (11) حتى هبط بهما بطن رئم (12) ثم قدم بهما قباء (13) على بني عمرو بن عوف حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
    ولما دنوا من قباء بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار فثار المسلمون إلى السلاح واستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة ، ثم قالوا لهما : اركبا آمنين مطاعين.
    فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء في دار بني عمرو بن عوف فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف بن الاثنين ويوم الثلثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده وقد يقال كما في سنن أبي داود 1
1 ـ بفتح الميم وكسره بجيمين وصححه بعض بفتح الميم ثم المعجمة وآخره مهملة.
2 ـ بفتح الميم وسكون الراء بعدها معجمة مكسورة وآخره مهملة.
3 ـ بفتح الكاف وسكون الشين وآخره مهملة.
4 ـ بالمعجمتين والمهملتين بينهما ألف. من الآبار القديمة.
5 ـ اسم جبل هناك.
6 ـ تعهن بكسر أوله وهائه وتسكين العين وآخره نون : اسم عين ماء سمى به على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة ، ويقال في ضبطه غير هذا.
7 ـ ويقال : العبابيب ، ويقال : العثيانة.
8 ـ ويقال : الفاحة بالمهملة. والقاحة. مدينة على ثلاثة مراحل من المدينة.
9 ـ بفتح العين وسكون الراء : عقبة بين مكة والمدينة.
10 ـ قال محمد يحيى الدين المصري في حاشية سيرة ابن هشام 2 : 108 : لم يذكر ياقوت العائر لا بالعين المهملة ولا بالغين المعجمة. أقول : ذكره في العين المهملة 6 ص 103 وقال : جبل بالمدينة. وفي حديث الهجرة : ثنية العائر عن يمين ركوبه. ويقال : ثنية الغائر بالغين المعجمة. ا ه‍ ملخصا.
11 ـ بفتح الراء : ثنية صعبة عند العرج.
12 ـ بكسر الراء المهملة موضع على أربعة برد من المدينة وقيل : ثلاثة برد.
13 ـ بضم أوله : قرية على ميلين من المدينة.


(269)
ص 74 : إنه أقام في قباء أربعة عشر ليلا ، وحكى موسى بن عقبة اثنين وعشرين ليلة.
    وقال البخاري : بضع عشرة ليلة ، وبقباء كانت منازل الأوس والخزرج.
    ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
    قال عبد الرحمن بن عويم : حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا (1) قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم نجد ظلا دخلنا ، وذلك في أيام حارة.
    فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وصلى الجمعة أتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله ! أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة.
    قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ـ يعني ناقته ـ فخلوا سبيلها فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة ابن عمرو في رجال من بني بياضة فقالوا : يا رسول الله ! هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
    قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة. فخلوا سبيلها.
    فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة فقالوا : يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
    قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
    فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحرث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بني الحرث بن الخزرج فقالوا : يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
    قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
    فخلوا سبيلها فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار اعترضها سليط بن قيس ، وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال من بني عدي فقالوا : يا رسول الله ! هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة.
    قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
    فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار
1 ـ استشعرناه وانتظرناه.

(270)
بركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ مربد (1) لغلامين يتيمين من بني النجار : سهل وسهيل ابني عمرو ، فلما بركت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت (2) ورزمت (3) ووضعت جرانها (4) فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول الله ! لسهل و سهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي ، وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا.
    راجع سيرة ابن هشام 2 ص 31 ـ 114 ، تاريخ الطبري 2 : 233 ـ 249 ، طبقات ابن سعد 1 ص 201 ـ 224 ، عيون الأثر 1 : 152 ـ 159 ، الكامل لابن الأثير 2 : 38.
    44 تاريخ ابن كثير 3 : 138 ـ 205 ، تاريخ ابن الفدا ج 1 : 121 ـ 124 ، الامتاع للمقريزي ص 30 ـ 47 ، السيرة الحلبية 2 : 3 ـ 61.

ـ 11 ـ
أبو بكر أسن من النبي
    عن يزيد (5) بن الأصم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : أنا أكبر أو أنت ؟ قال : لا بل أنت أكبر مني وأكرم وخير مني ، وأنا أسن منك.
    أخرجه ابن الضحاك ، وذكره أبو عمر في الاستيعاب 2 : 226 ، والمحب الطبري في الرياض النضرة 1 ص 127 ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 72 نقلا عن خليفة بن خياط ، وأحمد بن حنبل ، وابن عساكر ، قال الأميني : أو لا تعجب من أكذوبة تعد أكرومة ؟ متى تصح رواية يزيد بن الأصم عن النبي صلى الله عليه وآله ولم يدركه ، فإن الرجل توفي سنة 4/3/101 وهو ابن ثلاث و
1 ـ بكسر الميم وفتح الباء بينهما مهملة ساكنة أصله الموضع الذي يجفف فيه التمر.
2 ـ تحلحلت : تحركت. وقد يقال : تلحلحت. أي لزمت مكانها.
3 ـ وعند ابن الأثير : أرزمت. أي رغبت ورجعت في رغائها.
4 ـ الجران ، ككتاب : قال السهيلي : أي عنقها. وقال غيره : الجران. ما يصيب الأرض من صدرها وباطن حلقها.
5 ـ في الرياض : زيد. والصحيح : يزيد.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس