الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 281 ـ 290
(281)
أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. الآية ( الأنعام 93 ).
    أطبق المفسرون على إن المراد بقوله : سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن أبي سرح وسبب ذلك فيما ذكروه : أنه لما نزلت الآية التي في المؤمنين : ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين. دعاه النبي صلى الله عليه وآله فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله : ثم أنشأناه خلقا آخر. عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : هكذا أنزلت علي ، فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين فذلك قوله : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.
    راجع الأنساب للبلاذري 5 : 49 ، تفسير القرطبي 7 : 40 ، تفسير البيضاوي 1 : 391 ، كشاف الزمخشري 1 : 461 ، تفسير الرازي 4 : 96 ، تفسير الخازن 2 : 37 ، تفسير النسفي هامش الخازن 2 ؟ 37 ، تفسير الشوكاني 2 : 133 ، 135 نقلا عن ابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن جريج ، وابن جرير ، وأبي الشيخ.
    كان الرجل أموي النزعة والنشأة أرضعته وعثمان ثدي الأشعرية فقربته الأخوة من الرضاعة إلى الخليفة ، وآثرته نزعاته الأموية على المسلمين ، وأوصلته إلى الحظوة والثروة من حطام الدنيا ، وحللت له تلك المنحة الطائلة وإن لم تساعد الخليفة على ذلك النواميس الدينية ، إذ لم يكن أمر الغنائم مفوضا إليه وإنما خمسها لله ولرسوله ولذي القربى ، أدى الرجل شكر تلكم الأيادي بامتناعه عن بيعة علي أمير المؤمنين بعد قتل أخيه الخليفة ، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.
    هذه يسيرة عثمان وسنته في الأموال وفي لسانه قوله على صهوة الخطابة : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغم الله أنف من رغم.
    ولا يصيخ إلى قول عمار يوم ذاك : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك.
    وبين شفتيه قوله : لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام.
    ولا يعبأ بقول مولانا أمير المؤمنين في ذلك الموقف : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه (1).
    نعم : هذا عثمان وهذا قيله ، والمشرع الأعظم صلى الله عليه وآله يقول فيما أخرجه البخاري
1 ـ سيوافيك تفصيل الحديثين في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

(282)
في صحيحه 5 : 15 : إنما أنا قاسم وخان والله يعطي. ويقول : ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم حيث أمرت. وفي لفظ : والله ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه ، إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت (1). وقد حذر صلى الله عليه وآله أمته من التصرف في مال الله بغير حق بقوله : إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة (2).
    تلك حدود الله فلا تقربوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.

ـ 38 ـ
الكنوز المكتنزة ببركة الخليفة
    إقتنى جماعة من رجال سياسة الوقت ، وأصحاب الفتن والثورات من جراء الفوضى في الأموال ضياعا عامرة ، ودورا فخمة ، وقصورا شاهقة ، وثروة طائلة ، ببركة تلك السيرة الأموية في الأموال الشاذة عن الكتاب والسنة الشريفة وسيرة السلف ، فجمعوا من مال المسلمين مالا جما ، وأكلوه أكلا لما.
     ( منهم ) : الزبير بن العوام خلف كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب بركة الغازي في ماله ج 5 : 21 : لحدي عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كل امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف.
    قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
    وقال ابن الهائم : بل الصواب أن جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف (3) وصرح ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما : بأن الصواب ما قاله ابن الهائم ، و إن البخاري غلط في الحساب.
    كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيدة بالدرهم أو الدينار غير أن في تاريخ ابن كثير 7 : 249 قيدها بالدرهم.
    وقال ابن سعد في الطبقات 3 : 77 طليدن : كان للزبير بمصر خطط ، وبالاسكندرية خطط ، وبالكوفة خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة.
1 ـ صحيح البخاري 5 : 17 ، سنن أبي داود 2 : 25 ، طرح التثريب 7 : 160.
2 ـ صحيح البخاري 5 : 17.
3 ـ ذكره شراح البخاري ، راجع فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، شذرات الذهب 1 : 43.


(283)
    وقال المسعودي في المروج 1 : 434 ، خلف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا.
     ( ومنهم ) : طلحة بن عبيد الله التيمي : إبتنى دارا بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة (1) أكثر مما ذكر ، وشيد دارا بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج.
    وعن محمد بن إبراهيم قال : كان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقل.
    وقال سفيان بن عيينة : كان غلته كل يوم ألف وافيا.
    والوافي وزنه وزن الدينار ، وعن موسى بن طلحة : إنه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.
    وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناض (2) ثلثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.
    وعن سعدى أم يحيي بن طلحة : قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم ، وقومت أصوله وعقاره ثلاثة ألف ألف درهم.
    وعن عمرو بن العاص : أن طلحة ترك مائة بهار في كل بهار ثلاث قناطر ذهب وسمعت إن البهار جلد ثور.
    وفي لفظ ابن عبد ربه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.
    وقال ابن الجوزي : خلف طلحة ثلثمائة جمل ذهبا.
    [ وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار ].
    راجع طبقات ابن سعد 3 : 158 ط ليدن ، الأنساب للبلاذري 5 : 7 ، مروج الذهب 1 : 434 ، العقد الفريد 2 : 279 ، الرياض النضرة 2 : 258 ، دول الاسلام للذهبي 1 : 18. الخلاصة للخزرجي ص 152.
1 ـ بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء.
2 ـ الناض : الدرهم والدينار.


(284)
    وسيأتي عن عثمان قوله : ويلي على ابن الحضرمية ( يعني طلحة ) أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي.
     ( ومنهم ) : عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا.
    وقال : وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال : صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفا. وقال اليعقوبي : ورثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار. وقيل : ثمانين ألف. وقال المسعودي : إبتنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا. راجع طبقات ابن سعد 3 : 96 ليدن ، مروج الذهب 1 : 434 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 146 ، صفة الصفوة لابن الجوزي 1 ، 138 ، الرياض النضرة لمحب الطبري 2 : 291
     ( ومنهم ) : سعد بن أبي وقاص ، قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق. وقال المسعودي : بني داره بالعقيق فرفع سمكها ووسع فضاءها وجعل أعلاها شرفات. طبقات ابن سعد 3 : 105 ، مروج الذهب 1 : 434.
     ( ومنهم ) : يعلى بن أمية. خلف خمسمائة ألف دينار. وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار.
    كذا ذكره المسعودي في مروج الذهب 1 : 434.
     ( ومنهم ) : زيد بن ثابت المدافع الوحيد عن عثمان ، قال المسعودي : خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. ( مروج الذهب 1 : 434 ).
    هذه نبذ مما وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان ، ومن المعلوم إن التاريخ لم يحص كلما كان هنا من عظائم شأنه في أكثر الحوادث والفتن ولا سيما المتدرجة منها في الحصول.


(285)
    وأما ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدث عنه ولا حرج ، كان ينضد أسنانه بالذهب ويتلبس بأثواب الملوك قال محمد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطرف خز ثمن مائة دينار فقال : هذا لنائلة (1) كسوتها إياه ، فأنا ألبسه أسرها به.
    وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان بردا ثمنه مائة دينار (2).
    قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شيءت فأرغم الله أنف من رغم وفي لفظ : لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ ولن رغمت أنوف أقوام.
    فقال له علي : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.
    إلى آخر الحديث الآتي في مواقف الخليفة مع عمار وجاء إليه أبو موسى كيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (3).
    وقال ابن سعد في الطبقات 3 : 53 ط ليدن : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار فانتبهت وذهبت وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.
    وقال المسعودي في المروج 1 : 433 : بنى في المدينة وشيدها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة ، وذكر عبد الله بن عتبة : إن عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلف خيلا كثيرا وابلا.
    وقال الذهبي في دول الاسلام 1 : 12 كان قد صار له أموال عظيمة رضي الله عنه وله ألف مملوك.
1 ـ هي حليلة عثمان بنت الفرافصة.
2 ـ طبقات ابن سعد 3 : 40 ط ليدن ، أنساب البلاذري : 3 : 4 ، الاستيعاب في ترجمة عثمان 2 : 476.
3 ـ الصواعق المحرقة ص 68 ، السيرة الحلبية 2 : 87.


(286)
صورة متخذة
من أعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته
الدينار الأعلام
500000 مروان
100000 ابن أبي سرح
200000 طلحة
2560000 عبدالرحمن
500000 يعلى بن أمية
100000 زيد بن ثابت
150000 عثمان الخليفة
200000 عثمان الخليفة
4.310.000 الجمع
الدرهم الأعلام
300000 الحكَم
2020000 آل الحكم
300000 الحارث
100000 سعيد
100000 الوليد
300000 عبدالله
600000 عبدالله
200000 أبوسفيان
100000 مروان
2200000 طلحة
30000000 طلحة
59800000 الزبير
250000 ابن أبي وقاص
30500000 عثمان الخليفة
126.770.000 المجموع
    أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.
    إقرأ ولا تنس قول مولانا أمير المؤمنين في عثمان : قام نافجا حضينه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع.
    وقوله الآتي بعيد هذا : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال.
مائة وستة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهماً.


(287)
    بقي هنا أن نسأل الخليفة عن علة قصر هذه الأثرة على المذكورين ومن جرى مجراهم من زبانيته ، أهل خلقت الدنيا لأجلهم ؟ أو أن الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمة محمد صلى الله عليه وآله كأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود إلى نظرائهم ؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدة ، ويعانوا البلاء ، و يشملهم المنع بين منفي ومضروب ومهان ، وهذا سيدهم أمير المؤمنين يقول : إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفويقا (1) أي يعطونني من المال قليلا قليلا كفواق الناقة.
    وهل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده ؟ أو جدحه من سويق غيره ؟ (2) كما كان يفعل الخليفة.
    ليتني وجدت من يحير جوابا عن مسئلتي هذه ؟ أما الخليفة فلم أدركه حتى استحفي منه الخبر ، ولعله لو كنت مستحفيا منه لسبقت الدرة الجواب.
    نعم يعلم حكم تلكم الأعطيات والقطائع وقد أقطع أكثر أراضي بيت المال (3) من خطبة لمولانا أمير المؤمنين ، ذكرها الكلبي مرفوعة إلى ابن عباس قال : إن عليا عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق (4).
    قال الكلبي : ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقضبت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره ، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها ، فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من
1 ـ نهج البلاغة 1 : 126.
2 ـ يقال : جدح جوين من سويق غيره. مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.
3 ـ السيرة الحلبية 2 : 87.
4 ـ نهج البلاغة 1. 46 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 90.


(288)
أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ، فكتب إلى معاوية : ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها.
    وقال الوليد بن عقبة ( المذكور آنفا ) يذكر قبض علي عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه :
بني هاشم ! ردوا سلاح ابن أختكم بني هاشم ! كيف الهوادة بيننا ؟ بني هاشم ! كيف التودد منكم ؟ بني هاشم ! إلا تردوا فإننا بني هاشم ! إنـا وما كان منكم قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه ولا تنهبوه لا تحل مناهبه وعند علي درعه ونجائبه وبز ابن أروى فيكم وحرائبه سواء علينا قاتلاه وسـالبه كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
    فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها :
فلا تسألونا سيفكم إن سيـفكم وشبهته كسرى وقد كان مثله أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه شبيها بكسرى هديه وضرائبه
    قال : أي كان كافرا كما كان كسرى كافرا ، وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا انشد هذا البيت يقول : لعن الله الوليد هو الذي فرق بين نبي عبد مناف بهذا الشعر (1).
    هذه الأبيات المعزوة إلى عبد الله نسبها المسعودي في مروج الذهب 1 : 443 إلى الفضل بن العباس بن أبي لهب وذكر منها :
سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا وكان ولي العهد بعد محمد علي ولي الله أظهر دينه وأنت امرؤ من أهل صيفور مارح وقد أنزل الرحمن إنك فاسق فهم سلبوه سيفه وحرائبه علي وفي كل المواطن صاحبه وأنت مع الأشقين فيما تحاربه فما لك فينا من حميم تعاتبه فما لك في الاسلام سهم تطالبه

ـ 39 ـ
الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن
    كان مزيج نفس الخليفة حب بني أبيه آل أمية الشجرة الملعونة في القرآن و
1 ـ شر ابن أبي الحديد 1 : 90.

(289)
تفضيلهم على الناس ، وقد تنشب ذلك في قلبه وكان معروفا منه من أول يومه ، وعرفه بذلك من عرفه قال عمر بن الخطاب لابن عباس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (1).
    وفي لفظ الإمام أبي حنيفة : لو وليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا أن يسير وإليه حتى يجزوا رأسه ، ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار ص 217.
    ووصى إلى عثمان بقوله : إن وليت هذا الأمر فاتق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس (2).
    وبهذه الوصية أخذه علي وطلحة والزبير لما ولى الوليد بن عقبة على الكوفة وقالوا له : ألم يوصك عمر ألا تحمل آل أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس ؟ فلم يجبهم بشيء. ( أنساب البلاذري 5 : 30 ).
    كان يبذل كل جهده في تأسيس حكومة أموية قاهرة في الحواضر الإسلامية كلها تقهر من عداهم ، وتنسي ذكرهم في القرون الغابرة ، غير أن القدر الحاتم راغمه على منوياته فجعل الذكر الجميل الخالد والبقية المتواصلة في الحقب والأجيال كلها لآل علي عليه وعليهم السلام ، وأما آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوار بانتسابه ، متخافت عند ذكر نسبه ، فكأنهم حديث أمس الدابر ، فلا ترى لهم ذكرا ، ولا تسمع لأحد منهم ركزا.
    كان الخليفة يمضي وراء نيته هاتيك قدما ، وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف : فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية.
    فولى على الأمر في المراكز الحساسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أمية ، وشبابهم المترف المتبختر في شرح الشبيبة وغلوائها وأمر فتيانهم الناشطين للعمل ، الذين لم تحنكهم الأيام ولم يأدبهم الزمان ، وسلطهم على رقاب الناس ، ووطد لهم السبل ، وكسح عن مسيرهم العراقيل ، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلامية ، وجر الويلات بيد أولئك الطغام
1 ـ أنساب البلاذري 5 : 16.
2 ـ طبقات ابن سعد 3 : 247 ، أنساب البلاذري 5 : 16 ، الرياض النضرة 2 : 76.


(290)
على نفسه وعلى الأمة المرحومة من يومه وهلم جرا.
    قال أبو عمر : دخل شبل بن خالد على عثمان رضي الله عنه حين لم يكن عنده غير أموي فقال : ما لكم يا معشر قريش ؟ أما فيكم صغير تريدون.
    أن ينبل ؟ أو فقير تريدون غناه ؟ أو خامل تريدون التنويه باسمه ؟ علام أقطعتم هذا الأشعري يعني أبا موسى العراق يأكلها هضما ؟ فقال عثمان : ومن لها ؟ فأشاروا بعبد الله (1) بن عامر وهو ابن ستة عشر سنة (2) فولاه حينئذ.
    وكان هؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل ، ولا يكترث لما يقول ، والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي ، ولا يعي عذل أي عاذل ، ومن أولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف ، كان يقول كما مر في ص 270 على صهوة المنبر إن السواد بستان لأغلمة من قريش.
    وهؤلاء الأغلمة هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش (3).
    وبقوله صلى الله عليه وآله : هلاك هذه الأمة على يد أغيلمة من قريش (4).
    وأولئك السفهاء الأمراء هم المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله لكعب بن عجزة : أعاذك الله يا كعب ! من إمارة السفهاء.
    قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله ؟ قال : أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي. الحديث مر في صفحة 256.
    وأولئك هم المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله : إسمعوا هل سمعتم ؟ إنه سيكون بعدي
1 ـ كان ابن خال عثمان لأن أم عثمان أروى بنت كريز. وعبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
2 ـ أحسبه تصحيفا قال أبو عمر في ترجمة عبد الله بن عامر : عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كله لعبد الله. قال صالح : وهو ابن أربع و عشرين سنة. وقال أبو اليقظان : قدم ابن عامر البصرة واليا عليها وهو ابن أربع أو خمس و عشرين سنة.
3 ـ أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن 10 : 146 ، والحاكم في المستدرك 4 : 470 صححه هو والذهبي وقال الحاكم : شهد حذيفة بن اليمان بصحة هذا الحديث.
4 ـ مستدرك الحاكم 4 : 479 : فقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولهذا الحديث توابع وشواهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الطاهرين والأئمة من التابعين لم يسعني إلا ذكرها ثم ذكر بعض ما أسلفنا في الحكام ومروان وبني أبي العاص.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس